المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقاصد سورة يوسف


نسر الشام
05-21-2018, 02:02 AM
مقاصد سورة يوسف
سورة يوسف
الحمد لله رب العالمين، يرفع البلاء ويُنزِّل الشفاء، ويوسع المضيق، نحمده سبحانه وتعالى حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، نحمده ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رفع نبيه يوسف عليه السلام بعد أن وضعه الناس، ورفع قدره بعد أن كاد له الخلق، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرفع الخلق وأحبهم إلى الله، نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى أمانته، ونصح لأمته، وكشفت الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهادٍ حتى أتاه اليقين، فصلوات ربنا وتسليماته على هذا النبي الكريم، وعلى آله وصحبه ومن تبع هديه وسلك طريقه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم ومنهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد:
أيها الأحبة الكرام، فمع سلسلة حديثنا المتواصلة بإذن الله حول مقاصد سور القرآن الكريم، ومع سورة من السور الجميلة اللطيفة الحسنة، التي تمتاز بحسن أسلوبها وجميل عرضها لما فيها من قصةٍ عجيبة، ألا وهي سورة يوسف، هكذا نزلت باسمها من عند الله تبارك وتعالى كبقية سور القرآن، كل سورةٍ مميزةٌ باسمها، هذه السورة سماها الله باسم ذلك النبي الكريم الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأل أصحابه: ((من الكريم؟)) فأجابوا إجابات شتى، فقال النبي صلى الله علهي وسلم: ((إنه يوسف هو الكريمُ بن الكريمِ بن بن الكريم بن الكريم))،، فهو يوسف الكريم بن يعقوب الكريم بن إسحاق الكريم بن إبراهيم الكريم، سلسلةٌ من الأنبياء ذريةٌ بعضها من بعض كلهم اصطفاهم الله تعالى برسالاته، عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، يوضع هذا الاسم الشريف عنواناً على هذه السورة، لما فيه وما حوله من العِبر العظيمة، ويقال فيها: يوسُف ويوسَف ويوسِف، وكذلك بهمز الواو يؤسُف ويؤسَف ويؤسِف، هذه الستة أوجه تقال في كلمة يوسف كعنوانٍ على هذه السورة، فهي كما اشتهرت بيننا سورة يوسُف نبي الله عليه السلام، هذه السورة من السور التي نزلت في مكة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي كما عرفنا مثلها كمثل غيرها مما نزل قبل الهجرة يركز على أركان العقيدة، فموضوعاتها – كما ستعرض إن شاء الله – تتحدث حول هذه الأركان الأربعة وإن كانت تمتاز على غيرها بعرض قصة يوسف كاملةً في هذه السورة وحدها، وتلك من مميزات السورة أنها سميت باسم نبيٍ وهي أربع سور – كما قلنا قبل ذلك – أن أكثر من ذلك أيضاً، سورة يونس وسورة هود وسورة يوسف وبعدها إبراهيم وبعدها وبعد سورٍ كثيرة سورة نوحٍ عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأبرز منها كلها سورة نبينا محمد سورة القتال صلى الله عليه وسلم، فهي سورةٌ كان عنوانها اسماً لأحد الأنبياء، وكما عرفنا فهو نبيٌّ ابن نبيٍّ ابن نبيٍّ ابن نبيٍّ، من مميزاتها أنها من أربع سور بدأت بـ ﴿ الر ﴾ [يونس: 1] هذه ثالثتها يونس وهود ويوسف وإبراهيم، فبداياتها موحدة بهذه الأحرف الثلاثة الألف واللام والراء، وتلك أحرفٌ ذكرها الله في كتابه هكذا مفردة كل حرفٍ يقرأ وحده على أنه كلمة، إعجازاً للخلق، قرآن ربكم تألف من هذه الحروف، وكلامكم تألف من الحروف نفسها، فإن كان القرآن كلام محمدٍ افتراه صلى الله عليه وسلم وحاشاه أن يفعل ذلك، إن كان القرآن أساطير الأولين نقلها عن غيره واكتتبها من سواه، إن كان القرآن من قول بشر وتعليم بشر، إن كان القرآن من عند الخلق وليس من عند الله فمعكم مادة تركيبه وحروف تكوينه، فليأتوا بحديثٍ مثله ﴿ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ [هود: 13]، ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 23]، ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88]، إذاً ظهر وثبت أن القرآن من عند الله.


هذه السورة تمتاز من بين السور كلها أنها جمعت قصة نبي الله يوسف بملامحها كلها في سورة واحدة، وإنما المعهود في القرآن أن يجزِّئ الله القصة على سورٍ شتى، فيذكر هنا بعضها وهنا بعضها وهناك بعضاً آخر، أما قصة يوسف فقد اجتمعت في هذه السورة دون تفرقة، اجتمعت من أولها من طفولته إلى آخرها حيث أتم الله نعمته عليه وعلى آل يعقوب، فهذه خاصية تتميز بها هذه السورة، ولم يُذكر اسم يوسف غير هذه السورة إلا في سورة الأنعام مرة وفي سورة غافر مرةً أخرى، أما القصة كقصة فكلها في هذه السورة، ويقول الله عنها: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ [يوسف: 3]، فهي من القصص الرائع الجميل، وجمعها في مكانٍ واحد يريح القارئ، وجمعها بأحداثها متوالية يجعل الإنسان يعيش بحسّه وخياله في ذلك العصر أينما كان، وفي تلك البيئة التي كان فيها يوسف عليه السلام، ويتدرج معه في الأحداث هذا التدرج الرائع الذي عرضته هذه السورة عرضاً جميلاً رائقاً ممتعاً.


نستطيع أن نلخص هذه السورة في ثلاثة موضوعات، ثلاثة موضوعاتٍ تشتمل عليها هذه السورة، مع طولها إلى حد ما؛ أما الموضوع الأول فإنما هو تنبيهٌ على إنعام الله تعالى على هذه الأمة بآيات القرآن ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 1، 2]، ثم بعد ذلك بدأت السورة في عرض قصة يوسف عليه السلام، فاستغرقت معظمها ومجملها حتى قال الله تعالى بعد القصة: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103] كلامٌ على كفار هذه الأمة، وصفٌ لحال هذه الأمة بعد هذا البيان العظيم، أما قصة يوسف فقد أجملناها في عنصر واحد لكنها تشتمل على مواقف عظيمة، وتُعَنصر بعناصر كثيرة، فهي حافلةٌ بالأحداث مليئة بالعجائب، حيث كان طفلاً طيباً رأى رؤياه المعروفة أن الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً يسجدون له، فكانت محبة أبيه له، ثم كان حسد إخوانه وأقرانه له، ثم كان إلقاؤه في الجُب، ثم كان بيعه عبداً رقيقاً في بيت عزيز مصر، ثم تعرضه لفتنة المرأة التي راودته عن نفسها؛ امرأة العزيز، ثم مراودة النسوة جميعاً له، ولابد أن يوقعنه في الفاحشة وإلا سيسجن فيطلب من ربه أن يكون في السجن أحسن ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33] فيدخل السجن حفظاً لماء وجه امرأة العزيز وزوجها وذلك الوسط الذي يكثر فيه الفساد ويشيع ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ [يوسف: 35]، حتى ينسى الناس القضية، وحتى يعتقد الناس والرأي العام أن يوسف هو الخاطئ، بعدما قالها العزيز ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ﴾ [يوسف: 29] يقول هذا لزليخة ﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ [يوسف: 29] هذا في البيت، أما أمام الرأي العام فلابد أن يكون يوسف هو الخاطئ وهو المتحمل لتبعة هذا الحدث الخطير، فكان السجن، ثم نسوه في السجن بضع سنين ولم يذكروا قصته ولا حكمه ولا قضيته، ثم بدأ الفرج من هذا الضيق الشديد، من وراء أسوار السجن يبدأ الفرج بفضل الله تبارك وتعالى، وربك يقدر الأسباب وحين تنظر فيها تجدها أسباباً في نظرنا أسباباً خفيفة أو أسباباً واهية أو أسباباً لا تؤدي إلى نتيجة، ولكن قدر الله تعالى يشاء ما يشاء، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، كان خروجه من السجن بسبب رؤيا أوَّلها لصاحبيه أولاً ثم رؤيا أوَّلها للملك بعد ذلك، فقبل أن يُخرج من السجن حيث أذن له بذلك طلب التحقيق في القضية من جديد، وإظهار إن كان بريئاً أو متهماً جانياً، إن كان جانياً فَلِمَ لم تؤاخذوه، وإن كان بريئاً فلم تسجنوه؟ فظهرت براءته قبل أن يخرج من السجن، ثم أُخرج من وراء القضبان ومن الحديد إلى كرسي المُلك، وإلى ديوان الملك ليكون هناك حفيظاً على خزانة مصر، وليكون أميناً على موارد البلاد وأقوات العباد، يوزعها بما يرضي الله تبارك وتعالى، ويحفظ لمصر ولمن حولها حياتهم وأقواتهم، فتخطى بمصر وما حولها في تلك الآونة مجاعةً قاتلة، لو تُركوا إليها لماتوا وهلكوا، ولكن قدر الله لهم النجاة على يد يوسف عليه السلام؛ ليظهر مكانته ويرفع درجته، ومن ضمن من أصيبوا بتلك المجاعة أبواه وإخوته فاضطروا إلى اللجوء إليه دون أن يعرفوه، وهناك يكشف الله لهم عن شخصيته ﴿ قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 90]، ثم يُرسل في طلب أبويه وإخوته وأهله أجمعين، فيأتوه إلى مصر هنا، ويقول لهم: ﴿ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ﴾ [يوسف: 99، 100]، تحية الملوك وتحية البشر للبشر ليست سجود عبادة ولكن تحية تكريم وإكبارٍ لمكانته، ويعفو عن إخوته في هذا الموقف الجميل، ويفرح بجمع الله تعالى له ولأهله جميعاً في هذا الجمع، حيث تتحقق رؤياه التي رآها منذ سنوات، وما كان تحقيقها ولا تأويلها إلا بعد أن مر بأحداث ضِخام، وهناك يشعر أن نعمة الله قد تمت عليه، كما يقول له أبوه في بداية القصة: ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 6]، وكأن هذين الاسمين حُفرا في قلب وذاكرة يوسف عليه السلام، وهناك يقول: ﴿ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 100]، الاسمان اللذان سمعهما مقترنين بتمام النعمة عليه ذكرهما عند تمام النعمة وتحقيقها فقال: ﴿ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 100]، وفوّض أمره إلى الله حيث شبع من الدنيا وأخذ منها كل ما يطمح إليه إنسان ورفع الله عنه الكرب وجمعه بأهله وتمت النعمة، إذاً أنا مستعدٌ للوفاة يا ربي ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101].


هكذا تنتهي قصة يوسف التي أشرنا إليها في العنصر الثاني من موضوعات السورة، أما الموضوع الثالث في السورة فكان نعياً لكفر هذه الأمة، بعد أن دعاها الله في سورة هود إلى التوبة والهَوْد إلى الله تعالى والعودة إلى منهجه، كما عرفنا في الخطبة السابقة في ذلك المنهج في تلك الآيات المتتابعة ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ﴾ [هود: 112] وبعدها ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ [هود: 113]، وبعدها ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ﴾ [هود: 114]، وختامها ﴿ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [هود: 115]، كأن الناس لم ينتبهوا إلى هذا ولم يعبأوا به ولم يأخذوا به في حياتهم، لذلك يقول الله تعالى بأسلوب وبطريقة تُحزن القلب وتؤسفه، في سورة يوسف المأخوذة من الأسف، في هذه الكلمة المأخوذة من الأسف وهو الحزن، وفيها الحزن كثير كما قال يعقوب عليه السلام فيما قص الله علينا ﴿ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ ﴾ [يوسف: 13]، فشيءٌ مخزن أن يهب الله تعالى من فضله لأمة من الأمم منهجاً يرفع رأسها ويرفع الجهالة عنها، ثم إذا بها تُعرض عن منهج الله ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: 103]، لماذا شيء يؤسف شيء يُحزن حين تمد يدك بالعون العظيم لمن هو فقيرٌ له فقراً شديداً ثم يعرض عنك ويترك يدك ولا يأخذ بها، وفيها نجاته، ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم، الله يُنزل آيته ويبعث رسله، ويوحي بكتبه ووحيه، مفصلةً بمناهجها العظيمة القويمة، لكي يسلك الناس بها طريق حياتهم إلى حياةٍ أفضل وإلى حياة أعظم وإلى حياة أرقى، وإذا أكثرهم يعرضون وإذا أكثرهم يكفرون، كما يقول ربنا ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ ﴾ [يوسف: 103] يا نبي الله ولو حرصت أيها الداعي إلى الله ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]، إلى أن يقول ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ [يوسف: 106] حتى من آمن فإنه يخلط إيمانه بشرك، يخلط دينه ببعض أنظمة الجاهلية، ببعض أعراف الناس، ببعض القوانين الوضعية، يؤمن بهذا وهذا على السواء فيستوي عنده كلام الخلق مع شرع الخالق، يستوي عنده عرف الناس الذي تعودوه وورثوه عن آبائهم وأجدادهم، نبع من الأرض والطين والتراب، مع كلامٍ نزل من عند رب الأرباب سبحانه وتعالى، لا يستويان، لا تستوي السموات والأرض أبداً، السموات أعظم، السموات أكبر، السموات أرفع، السموات أعلى، ولكن الناس لا يفهمون هذا الأمر، كما يقول الله تعالى ﴿ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1] يعدلون بربهم غيره، يعني يسوون بينه وبين خلقه، فيعظمون بعض الخلق كما يعظمون الله، ويحبون بعض الخلق كما يحبون الله، ويأخذون مناهجهم كما يأخذون قرآن الله ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 165]، إنما المفروض كما فعل المؤمنون ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ [البقرة: 165].


فكانت هذه الموضوعات الثلاثة شاملةً للسورة أو ملخصةً لها، الكلام عن القرآن كرسالة، الحديث عن قصة يوسف عليه السلام والمجتمع الذي كان فيه، فإنه بجهالته هذا المجتمع أو ذلك المجتمع البعيد بجهالته بضلالاته بفساده أشبه حالاً بمجتمع مكة، وبمجمعات الجاهلية حيث كانت في أي عصر وفي أي مكان، فيه الزنا والعياذ بالله، فيه جرأة المرأة على الرجال، فيه تآمر النساء على الفاحشة، فيه السجن بغير ذنب، والأخذ بغير تهمة، فيه أصحاب مظالم ومظلومون وراء القضبان لا يعرف عنهم أحد شيئاً لبضع سنين أو يزيد عن ذلك، فيه شرب الخمر كما كان الملك يشرب الخمر وكان أرباب مكة وكبارها ورجالها العظام في نظر الناس كأبي جهل وغيره كانوا يشربون الخمر كشربنا للماء، مع أن العقل يرفضها لأنها تلغيها وتغطيه، كان فيه شرب الخمر، وكان أحد السجينين مع يوسف نديم الملك هو الذي يعصر له خمراً ويقدم له الخمر، وفيه كذلك عبادة الأصنام والأوثان، ولذلك يقول يوسف لصاحبيه في السجن ﴿ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39] يقارن لهم بين ما هم فيه في هذا المجتمع وبين الحقيقة الغائبة عن هذا المجتمع وهي عبادة الله وحده لا شريك له، فيه اعتمادٌ كثير على الأحلام، فيه قولٌ بغير علم، الوزراء الذين كانوا حول الملك حين سمعوا رؤياه وكانت رؤياه رؤيا كما رأينا من خلال السورة وكان لها تعبير وكان لها مدلول وكانت سبباً في نجاة مصر وأهلها في تلك الآونة، ورغم ذلك يقولون أضغاث أحلام ﴿ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ﴾ [يوسف: 44] طالما لستم بتأويل الأحلام بعالمين فلماذاً تقولون أضغاث أحلام، يصرفون الملك عن اتباع هذه الرؤيا، لا تشغل بالك، اطمئن يا ملك كل شيء تمام..، وهناك خطر محدق بالبلاد، وهناك صاعقة مقدمةٌ على العباد، وهذه الحكومات الضالة تضلل حاكمها وقائدها ولا تعرض عليه السورة بشكل صحيح، أو تسلم لأهل العلم، والله لسنا عالمين بتأويل الرؤى، يكفي هذا لكن أن نقول أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين مدلولها اطمئن كل شيءٌ تمام، كل شيء تحت الدراسة والسيطرة، فيطمئن وينام حتى تأتي سبع بقرات عجاب هزالا، سبع سنين كلها قحط ومجاعة تأكل ما قدمت لها السبع سنين التي كانت فيها زراعة وكان فيها خير، تأكل كل الأقوات ويبقى الناس بعد ذلك جياعاً لا يجدون أقواتهم، لكن شاء الله شيئاً آخر كرامةً ليوسف عليه السلام وتمهيداً لرفعه وإخراجه من هذا المكان، هذا المجتمع هو مجتمع مكة، هو كل مجتمع جاهلي يغيب عنه شرع الله فيعيش في هذه الضلالات، وفي هذا الفساد العظيم، أن تقول امرأةٌ لها مركزٌ مرموقٌ في البلاد، امرأة العزيز تقول للنساء من قومها ﴿ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ﴾ [يوسف: 32] أرأيتم كيف وقعتم في حبه وفتنته حتى قطعتن أيديكن وأنتن لا تشعرن بذلك من الدهشة من جماله، فكيف بي وأنا معه طول الوقت، هذه نظرة واحدةٌ منكن، أنا معه ليل نهار في البيت، وربما وحدي ويدخل عليَّ لأنه عبدي وخادمي، أنا معذورة، تلتمس لنفسها العذر بين النساء فيما وقعت فيه، ثم تصر عليه، لا تعترف بخطئها رغم أن زوجها قال إنك كنت من الخاطئين، لا لست من الخاطئين ﴿ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [يوسف: 32]، إصرار على الفساد، على الفواحش، المجتمعات الجاهلية تعيش هذه المعالم وتعيش هذه الأحداث، تتكرر فيها لأن الشيطان واحد هو إبليس عليه اللعنة، هو الذي يدور بقائمة الجرائم وبأسلوب الإفساد في كل مجتمع، فخطته واحدة معروفة وينبغي للمجتمعات المتتابعة أن تعتبر بالمجتمع الذي سبقها، وبما حدث فيه من فعل الشيطان، ومن محاولة إنقاذ الرحمن لهم، فإن لم يرضوا بهذا أهلكهم الله عز وجل وجاء بغيرهم، سنةٌ لله ماضية في الخلق.


هذه موضوعات السورة تلك الموضوعات الثلاثة، أما هدفها فكما تعودنا نلتمسه من اسم السورة، واسمها يوسف وهو من الأسف والحزن، إذاً السورة فيها أحداث محزنة، أشياء محزنة، قصة يوسف نصفها أو معظمها أحزان، وأولها – أول السورة – فيها إخبارٌ أن الله تبارك وتعالى قد أنزل آيات من الكتاب المبين وحياً من عنده سبحانه وتعالى، وجعلها الله تبارك وتعالى بأسلوب عربي واضح مبين لكي يفهمها الناس ويعقلوا بها طبيعة الأمور وحقائقها ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2] نسعى بكم إلى مرحلة العقلانية، لتكون لكم ميزة بهذا العقل، لتكونوا على حياة معقولة مرتبة منظمة، حياة طيبة، ثم ماذا كانت النتيجة وما كان جواب الناس على ربهم سبحانه وتعالى وهو الذي تفضل عليهم بخير رسله أجمعين عليه الصلاة والسلام، وأنزل عليهم أحسن كتبه في أشرف شهر من الزمان في أعظم ليلةٍ من الشهر ليلة القدر، في أشرف بقعة من الأرض في مكة المكرمة المحرمة المقدسة، ماذا يريدون بعد ذلك، ما كان جوابهم إلا ما قص الله ووصف ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾ [يوسف: 104]، هكذا بدون أجر آمنوا بغير أجر، ادخلوا الجنة بغير ثمن، إنما بالخضوع لله، بالعودة إلى الله، ولكن ما استجابوا للأسف، فكان شيئاً فعلاً يحزن القلب وقد أحزن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً جداً هذا الأمر، هذا الإعراض أحزنه لدرجة أن الله صار يواسيه أكثر من مرة، وصار الله يلاطفه ويذكره بأن كل نبيٍ كُذِّب من قبل ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33]، هم يكذبون بنا نحن يا محمد وبآياتنا لا يكذبونك أنت، أنت عندهم صادقٌ أمين يعرفونك، ويأخذ الله التكذيب لنفسه هو مواساةً للنبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك حريصٌ عليهم أيضاً، حزينٌ عليهم، والله تعالى يقول له بصريح العبارة ﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الحجر: 88] ومع ذلك يحزن، قومه عشيرته أهله، يريد أن يدخلهم الجنة، يريد أن يرفعهم من هذا المستنقع العفن في الحياة الجاهلية، ولكنهم يعرضون، كاد يهلك نفسه عليه الصلاة والسلام فيقول الله له ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [فاطر: 8]، ويقول له وكأنه يتخلى عنه في هذا لو زدت في الحزن فافعل ما تشاء ولا فعل لك عندي ولا شيء لك عندي من الولاية والنصرة بعد هذا الحد، فيقول له ﴿ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ﴾ [الأنعام: 35] أي فتأتيهم بآية تجعلهم يؤمنون بك ﴿ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأنعام: 35]، حزن كثيراً عليه الصلاة والسلام، والدعاة في كل عصر حزانى على الضلال الذي يصيب الأمة، والفساد الذي يشيع في الأمة، وحينما يهاجم الدعاة المخدرات، أو العري والسفور والتبرج، أو ترك الصلاة، أو عدم تطبيق شرع الله، أو غير ذلك من معاصٍ في المجتمع، فإنما يريدون أن ينهضوا بأمتهم، أن يقوموا بهم إلى حياة ترفع الرأس وتقيم القامة وتُسعد القلب وتُعز الكرامة حتى لا يستهيننا أعداء الله عز وجل، فهدف هذه السورة أن في هذه السورة شيئاً يُحزن، مجملها محزن، مجملها مفزع، يؤسي القلب ويحزنه ويؤسفه.


هذا عرضٌ سريعٌ لسورة يوسف، ولكن ما وفيتها حقها، لما فيها من الأحداث العظام، وما بقي لنا من هذا البيان إلا بيان نسبتها أو تناسبها مع ما قبلها، وهذا نستمع إليه بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله.

نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، ونعوذ به من علم لا ينفع، ربنا زدنا علماً نافعا، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فأوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي عن عصيانه تعالى ومخالفة أمره، فهو القائل سبحانه وتعالى ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.


أما بعد:

أيها الأحبة الكرام، كان هذا هو عرض السورة مجملةً، وختمنا بالحديث عن هدفها، وأن هذه السورة ستخبرنا وتقص علينا شيئاً محزناً، وأول ما يطالعنا وختام ما يُقَص عليه يشير إلى أن أعظم ما يؤسف القلب ويحزنه إنما هو ضلال الخلق عن منهج الخالق وشرعه سبحانه وتعالى، فهذان هما الطرفان، وبينهما أحداثٌ محزنة نعم كما عرضناها في قصة يوسف عليه السلام سريعاً، ولكنها أحداثٌ دنيوية، بشرٌ يأتمرون بي ليقتلوني أو يبعدوني عن مكاني وأهلي، ثم تُعرض الفتن، فتنة الفاحشة والنساء، فتنة السجن، فتنة كذا...، هذا كلها نعم أشياء محزنة لما فيها من ظلم، ولكنها دنيوية، مصائب دنيوية محزنة، مآسي دنيوية، لكن نفهم من هذا حين تُحصر مصائب الدنيا بيني طرفي مصيبة الدين إذاً كأن السورة تقول لنا إن أحزن ما يُحزن هو المصاب في الدين، إعراض الناس عن دين الله، هذا أعظم المُصاب، وكل مُصابٍ دونه يهون، وكل مصاب بعده له فرجٌ ومنه مخرج، ولو بالاستغفار لله تبارك وتعالى، إنما المصاب في الدين خطيرٌ جداً، المصاب في الدنيا تجد من تتعزى به في هذا المصاب، فمن أصيب بمصيبةٍ فليقرأ في سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم صفوة الله من الخلق، وقد ابتلاهم الله ابتلاءات كثيرة لا تخرج عنها ابتلاءاتنا، أي مصابٌ يصيبنا ستجده موجود في ذكرى وفي حياة نبي من الأنبياء، وخاصةً نبي الله يوسف عليه السلام فقد تعرض لكثير، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام فهو الآخر تعرض لكثير، فستجد مثالاً تتعزى به، إذا كان هذا هو نبي الله الكريم بن الكريم، ومع ذلك أصيب بهذه الإصابات، فأنا الحمد لله حالي كويس، إذا كان هذا هو خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وقد أصيب بما أصيب به، فالذي يحدث لي لا يُذكر، ويدخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على نبينا صلى الله عليه وسلم يوماً وهو مريض فيرى عليه أثر المرض، فيقول يا رسول الله إنك لمريض، أنت مريض مرضاً شديداً، المرض ثقيلاً عليك، فيقول عليه الصلاة والسلام: "إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم"، المرض الذي يأتيني يكون قدر المرض الذي يصاب به الرجلان منكم، كما جاء في الحديث "أشد الناس بلاءً الأنبياء"، فمصيبة الدنيا هينة، وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول أعزي نفسي في مصيبتي بثلاث؛ أنها لم تكن في الدين، الحمد لله أنها في أشياء الدنيا، في مال، في ولد، في زوجة، في أرض، في فرس.. في شيءٍ من ذلك، الحمد لله أنها لم تكن أكبر من ذلك، الحمد لله أن الله أعانني على الصبر عليها، إنما مُصاب الدين فكان في دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم "اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا"، فأعظم مصابٍ هو انصراف الناس عن الدين، وينبغي للمجتمع المسلم أن يزور المرضى الدينيين كما يزور المرضى الدنيويين، نزور المريض في مرضه ونأسى له ونحزن عليه ونبكي من أجله ونصبِّره بكلمات طيبات، وهذا خير، ولكن ألا تعلم أن أشد منه مرضاً من ترك الصلاة، أن أشد منه مرضاً من لا يؤمن بالله، أن أشد منه مرضاً من تلبَّس بمعصيةٍ ولا يريد أن يخرج منها، إن هذا مريضٌ مرضاً شديداً، إن هذا النائم على السرير والفراش من مرضه ليؤجر على كل نفسٍ يتنفسه، وعلى كل لحظةٍ يصبر فيها على البلاء، أما ذلك المسكين المحروم الذي أصيب في دينه، فإنما أنفاسه آثام، وكلماته أوزار، ولحظات عمره ذنوبٌ وخطايا فهو أحوج إلى المواساة، أحوج إلى الإنقاذ، أحوج إلى الإسعاف، ينبغي أن نسعفه بالموعظة، وبالتذكرة، وبالكلمات التي ترقق قلبه وتصله بالله عز وجل.

أما صلة هذه السورة بما قبلها من سورة هود، فيقول الله تعلى في آخر سورة هود مما عرفنا ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 120]، النصف الأول من هذه الآية يخبر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم فيه أننا قصصنا عليك من أنباء الرسل قدراً يثبت به فؤادك على الدعوى وعلى ما تلاقيه في سبيلها من آلام، وفي أول سورة يوسف نموذجٌ لهذا القصص ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ﴾ [يوسف: 3]، وفي آخرها ما يناسب هذا أيضاً ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]، وأعظم أولي الألباب الذين استفادوا بقصص القرآن ونعموا به هو رسولنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت قلبه بما سمع عن الأنبياء السابقين، وما وقع لهم من أقوامهم الكافرين، وفي آخر سورة هود في الآية التي ذكرناها في نصفها الآخر ﴿ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 120]، أول سورة يوسف يقول الله تعالى ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ [يوسف: 1]، إذاً الحق والموعظة والذكرى التي ينتفع بها المؤمنون هي آيات هذا الكتاب، آيات هذا القرآن ﴿ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120]، يقول في أول يوسف ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 1، 2]، ولفت نظري أحبتي لفتةٌ في هذه السورة لا أحب أن أخفيها عليكم أو أُهمل ذكرها، لها دلالةٌ في الحقيقة لم أصل إليها لكن ربما يرزقها الله لمن تفكر وتدبر، حين تقرءون السورة بعد ذلك ففكروا فيها لعلكم تجدون فيها درساً عظيم، الله تبارك وتعالى يخبر في أول السورة ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2]، وفي آخر السورة يذكر الله تبارك وتعالى فيقول ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 109]، أول السورة ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 73] في آخرها ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]، والكلامان عن هذه الأمة، وما بين هذه وتلك، ما بين الأول والآخر، وقرب الآخر، يخبر الله تعالى بل يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108] بصيرة هي العقل السليم، اللب الصالح المتفكر الواعي، فما دور العقل؟ العقل هو مناط التكليف كما يقول العلماء، الله تعالى لا يكلف من عباده إلا العقلاء، أما المجانين فلا تكليف عليهم في الدنيا، أما من كان في غيبوبة وغاب عقله غياباً طارئاً أو مؤقتاً فإنه لا إثم عليه في هذا الوقت ولا تكليف عليه أيضاً، إذاً ذلك الذي عنده عقل ولا يتبع أمر الله، ولا يأخذ منهج الله، يسلك طريق العقلاء أو المجانين؟ فالكفار إذاً المعرضون عن منهج الله إنما هم مجانين، ويسلكون طريق من لا عقل له، كما يقول ربنا لهم ﴿ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 179]، عقولهم معطلة، ونطق بها اليهود حقاً، قالوها لغرض ولكن كانت حقاً على لسانهم وإن لم يقصدوها ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ [البقرة: 88] غلف مغلفة، ويقول الله عن المنافقين ﴿ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا﴾ [النساء: 155]، ﴿ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ [التوبة: 87].. وهكذا، ويقول الله تعالى عن الكافرين المعرضين عن القرآن ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، والقلب هذا الذي يعقل، إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.


نسأ الله تبارك وتعالى أن يجعل لنا فيما ذُكر، وفيما استمعنا إليه النفع البالغ، والعمل الصالح، وأن يكتب الله هذا الكلام وهذا السماع في ميزان حسناتنا، وأن يجعله حجةً لنا لا علينا ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]، اللهم إنا نسألك يا قوي يا متين يا جبار، أن ترفع راية الإسلام خفاقةً عالية، وأن تمكن لهذا لدين تمكيناً حقاً في العباد والبلاد، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأذل الكفر والكافرين، واخذل الشرك والمشركين، ومن عاونهم ونافقهم يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تنصر دينك بنا وأن تنصرنا بدينك، اللهم أيدنا بدينك وأيد الدين بنا، فإنك على كل شيء قدير، اللهم إنا نسألك يا ربنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيما، ارفع اللهم أحزاننا، واكشف اللهم كُربنا، وأزح عنا همومنا وغمومنا، اللهم ألجئنا إلى الاستغفار، وألزمنا الاستغفار، ووفقنا إلى الاستغفار، وارزقنا خيره وبركته يا عزيز يا غفار، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اغفر اللهم للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات ورافع الدرجات يا رب العالمين، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أعمالنا أواخرها، وأوسع أرزاقنا عند كبر سننا، وخير أيامنا يوم نلقاك يا أرحم الراحمين.


عباد الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم..

غـُـلايےّ
05-21-2018, 02:10 AM
طررح يفوق آلجمآل ,
‎كعآدتك إبدآع في صفحآتك ,
‎يعطيك آلعآفيـه يَ رب ,
‎وبِ إنتظآر المزيد من هذآ الفيض ,
‎لقلبك السعآده والفـرح ..
‎ودي

نسر الشام
05-21-2018, 02:29 AM
الفاتنه

لا حرمنا هذا التواجد العطر والمرور الكريم

اسعدك الباري

ريُـ‘ـُآحُـ‘ـُ آلُـ‘ـُشُـ‘ـُۅقُـ‘ـُ
05-21-2018, 04:05 PM
جزاكم ربي خير الجزاء
ونفع الله بكم وسدد خطاكم
وجعلكم من أهل جنات النعيم
اللهم آآآآمين

أبو علياء
05-22-2018, 12:31 AM
جزاكم الله خيراً ونفع بكم
على الموضوع الرائع والمميز
وجعل كل ما تقدمونه في موازين حسناتكم
لكم مني ارق المنى
وخالص التقدير والاحترام

لذة مطر ..!
05-24-2018, 04:05 PM
جزاك الله خير ع طرحك / وجعله الله في موازين حسناتك ..:34:

ѕнмонк
05-24-2018, 05:10 PM
جزاكَ الله خيراً وباركَ الله بكَ
وأثابكَ الله الفردوس الأعلى من الجنةة
طرح قيم
وأكثر من نااافع
دمتَ بحفظ الله ورعايته .

sweet
06-11-2018, 02:40 PM
http://uploads.sedty.com/imagehosting/474325_1436294415.gif

حلوة الروح
06-27-2018, 03:24 PM
width=1 height=1



https://www.up4.cc/image99105.html
\\
//
\\

ظهورن نسجت بجمال الاحساس وعذوبة الكلمه
نغم جمميل عزفته بـ طلتكك الراقيه
تسلم الانامل على هذا الانتقاء الجميل ك جمال روحك
ودام قلمك ينبض بحروف التميز والابداع
فـ ليسمح لي ان اشاركك في دفتركك
لروحك آكآليل اليآسمين العطررهه

"http://wahjj.com/vb/imgcache/11281.imgcache.gif "

نــــ:eq-34:ــــــونه




http://vb.shbab7.com/shbbab/shbbab.com1395121858_301.gif

شيخة رواية
09-27-2018, 08:21 AM
جَزآكـ الله جَنةٌ عَرضُهآ آلسَموآتَ وَ الآرضْ
بآرَكـَ الله فيكـ وَفِي مِيزآنَ حَسنَآتكـ ...
آسْآل الله آنْ يَزّينَ حَيآتُكـ بـِ آلفِعْلَ آلرَشيدْ
وَجَعَلَ آلفرْدَوسَ مَقرّكـ بَعْدَ عمرٌ مَديدْ ...
دمْتَ بـِ طآعَة لله ..

دره العشق
06-23-2019, 11:17 AM
طرح رآئع جميل
بإنتظآر قآدمك الأجمل
الله يعطيك الصحة والعآفية

Şøķåŕą
07-16-2022, 10:45 AM
سلمت الايادي
ويعطيك العافية لـ جمال الآنتقاء
لروحك جنائن الورد .

روحي تبيك
05-28-2023, 06:12 AM
جزاك الله خير وجعله في ميزان حسناتك
ولا حرمك الأجر يارب
وأنار الله قلبك بنورالإيمان
أحترآمي لــ/سموك

Şøķåŕą
09-08-2023, 04:23 PM
تميز في الانتقاء
سلم لنا روعه طرحك
نترقب المزيد من جديدك الرائع
دمت ودام لنا عطائك
لكـ خالص احترامي

كلي وهم
03-14-2024, 02:12 PM
إنُتقِآءَ يُعآنِقَ السُمآءَ تُميزِاً’..
طُرحَ رآُقيَ كـ رُقيَكّ’,.
دُمتَ نهُِراً جُآرفَاً يُروُينَآ بُروآئَعكّ’,,
,.