المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقاصد سورة سبأ


فيّ
07-14-2018, 05:03 AM
أيها الإخوة عباد الله، لقاؤنا اليوم في سلسلة حديثنا عن مقاصد سور القرآن الكريم، إنما هو لقاءٌ على مائدة سورة سبأ، هكذا كما سماها الله تعالى وعُرفت في عهد النبوة بهذا الاسم[1]، ووردت إلينا في المصاحف بهذا الاسم أيضاً، ولا يُعرف لها اسمٌ آخر، وسبأ هذا اسم رجل كان في جنوب جزيرة العرب، وفي الأرض التي عُرفت باليمن، وولده حِمْيَر ومملكة حِمير معروفة والتي كانت منها مملكة سبأ في أرض سبأ[2]، والتي كانت فيها بلقيس يوماً من الأيام ملكةً ودانت لله وآمنت وأسلمت مع سيدنا سليمان عليه السلام[3]، فكان ذلك في زمان بني إسرائيل.

فسبأ هذا اسم رجل سميت به الأرض وسمي به المكان، وهذه عائلةٌ مالكةٌ كان فيها ملوك كالفراعنة، سُميت السورة باسم تلك المملكة العريقة المعروفة في تاريخ الزمان والتي كان لها شأنٌ وكانت فيها عبرة وآية ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ﴾، وذكر الله هذا في هذه السورة المباركة.

وهذه السورة كان نزولها في العهد المكي، يعني قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم[4]، ولذا فإننا نرى فيها ونلاحظ حينما نقرؤها نجد اهتماماً بالغاً وتركيزاً عظيماً على عناصر العقيدة وأركان العقيدة الإسلامية، كما هو الشأن دائماً في السور التي نزلت قبل الهجرة، لأن العقيدة هي الأساس، وإذا تمكن الأساس قام عليه البناء قياماً صحيحاً، وهذا يعطينا إشارة إلى أن نهتم بعقائدنا، فيمن نعتقد؟ وبِمَ نؤمن؟ وكيف نؤمن؟.. كل ذلك مفصلٌ في مسائل العقيدة، وينبغي أن تكون العقيدة هذه دائماً حاضرةً في أذهاننا، اعتقادنا في الله عز وجل وإيماننا به، إيماننا بالرسول صلى الله عليه وسلم، إيماننا بالقرآن كرسالة، إيماننا بيوم القيامة والحساب، ينبغي أن نذكر هذا دائماً لأنه يعدِّل مسارنا، ويقوِّم اعوجاجنا حيث كنا من الزمان أو المكان، فالعقيدة إن كانت قد أخذت قدراً كبيراً في آيات القرآن وسوره فذلك لأهميتها، ولضرورة سبقها على العمل.

فهذه السورة أشارت وشاركت في إظهار من هو الله، الذي هو الإله الأوحد الذي لا شريك له، ومن بداية السورة يقول الله تعالى ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ ويُعرِّف نفسه فيقول ﴿ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴾ إلى أن يقول: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ *وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ *قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ﴾، وهكذا حتى قال ﴿ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ ﴾ أين الآلهة المزعومة، بعد أن رآها أو ظهرت في الأذهان وحضرت قال ﴿ كَلَّا ﴾ رفضٌ لكل هذه الآلهة فليست بآلهة ﴿ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.

كما تكلمت وتحدثت عن النبوة والرسالة ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾، ويقول الله عن الكافرين ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾، ويناقشهم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بل يتحداهم ويعجزهم ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ﴾ أنا أنصحكم وأدعوكم إلى عملٍ واحد ﴿ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ﴾، قوموا قياماً حيادياً لا عصبية فيه لشيء، قياماً لله، قياماً خالصاً حراً، مثنى أي جماعات من اثنين فأكثر تتحاورون وتتشاورون، وفرادى أيضاً كلٌ بمفرده، ثم تتفكرون في شأن محمد بن عبد الله وما جاء به صلى الله عليه وسلم، أهو نبيٌ حقاً أم هو كاذبٌ مفترٍ، تفكروا، لا تتكلموا بغير علم، ولا تردوا بغير فهم، ولا تتخذوا قراراً بغير تفكير، فكروا أولاً ﴿ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ﴾ ليس مجنوناً، فإنه صاحبكم صحبكم قبل النبوة أربعين سنة، وجاءته النبوة ثلاث سنوات ثم جهر لكم بذلك، وأعلمكم بذلك، بقي فيكم ثلاثةً وأربعين عاماً ما رأيتم عليه جنوناً ولا بوادر جنون، فمتى جُنَّ؟ وكيف جُن؟ ﴿ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ﴾، ولم يتلبس به جني ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾.

وهكذا كما ذكرت السورة يوم القيامة من أولها إلى آخرها في مواضع كثيرة، تكاد تكون السورة اختصت الحديث بيوم القيامة، من أولها ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾، وبعدها ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ هل ندلكم على رجل ينبئكم أنكم إذا متم وصرتم تراباً تعودون إلى خلقٍ جديد ﴿ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ﴾ أهو كاذب أو مجنون؟ ويفترضون فيه هذه الافتراضات غير المدروسة وغير النابعة والقائمة على فكر.

وكذلك بعد قليلٍ يقول الله تعالى لهم ﴿ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ ﴾ بعد أن حكى قولهم ﴿ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾، ﴿ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ ﴾، ثم يصف حالاً من حالهم يوم القيامة كأنه واقعٌ موجود ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾، وحوارٌ يدور بين الكبراء والضعفاء، كلٌ يلوم الآخر ويلقي بالتهمة عليه، ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴾، سؤال على الملأ، إحراجٌ على ملأ الأشهاد، إحراج العابدين أمام من كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم، كان الكفار يعبدون الأصنام والأحجار ويزعمون أن أرواح الملائكة تحل في هذه الأحجار فهم يعبدون الملائكة، والملائكة بنات الله، كل هذا كلام الكافرين وبطلان المبطلين، فالله يكذبهم يوم القيامة أمام من زعموا أنهم عبدوهم، كنتم تزعمون أنكم تعبدون الملائكة، هؤلاء هم الملائكة ثم يقول للملائكة ﴿ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ ﴾ الملائكة تتكلم بكل هذا الخشوع والخضوع ﴿ سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ﴾.

وهكذا فالسورة تناولت أركان العقيدة، وتنبه أيها الشباب تنبهوا لما تتمسكون به من العقيدة من أمور تعتبر أطرافاً في العقيدة وليست أساساً وتبنون عليها ولاءً وبراءُ وتخاصمون هذا وتعادلون ذلك، هذا كله غير صحيح، هذه أركان العقيدة في السور المكية وليس بعد القرآن بيان، وليس بعد القرآن منهج للعلم والتعلم والعمل والعبادة، هذه أركان العقيدة الأساسية التي ينبغي أن نهتم بها، وأن نستحضرها في قلوبنا وفي حياتنا، الإيمان بالله عز وجل، الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه، الإيمان بالقرآن، الإيمان بيوم القيامة.

فهذه السورة كانت سورة مكية وتناولت هذه الموضوعات حول هذه النقاط الركيزة، كان حوار السورة مع الكافرين وخاطبها لهم حتى تفتح أمام عقولهم بياناً واضحاً، وصفحةً بيضاء ناصعة ظاهرٌ كل ما فيها، حتى لا تكون لهم على الله حُجةٌ بعد هذا البيان، وبعد مجيء هذا الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن الواضح الجلي العظيم.

تهدف السورة إلى هدفٍ مهم جداً، ولكن بعد أن نعلم مناسبتها، السورة كغيرها من سور القرآن كما رأينا على مر السور التي تناولناها بفضل الله، كل سورةٍ آخذةٌ بالأخرى، فسور القرآن كسلسلةٍ متصلة ببعضها، وإن كانت كل سورةٍ مستقلةً بنفسها، كنا مع سورة الأحزاب قبل ذلك وعلمنا أن الكفار كانوا يسألون عن يوم القيامة سؤال استهزاءٍ واستبعاد، كما ذُكر في أواخر سورة الأحزاب ﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ ﴾ وهكذا، فجاءت هذه السورة وفصلت حديثاً طويلاً عن الساعة، وذكرت سؤالهم للإنكار، هناك يقولون ﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ﴾ يحكي الله عنهم ذلك، ولم يقل ماذا سألوا، في هذه السورة ذكر سؤالاً من أسئلتهم ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾، ولما استبعدوا يوم القيامة استنكروا وقوعه وأنكروا حصوله ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ﴾، وهكذا فالسورتان تكملان موضوعاً واحداً أشارت إليه سورة الأحزاب في أواخرها وتناولته بشيءٍ من التفصيل سورة سبأ.

كذلك مناسبةٌ أخرى في أواخر سورة الأحزاب – كما علمتم وكما تقرءون – ذكر الله تعالى الكافرين وقد أُدخلوا النار أو وجبت لهم النار فيقولون ﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ﴾، الكفار البسطاء، عامة الناس يدعون على كبراءهم الذين كانوا في الدنيا، زينوا لهم وزخرفوا لهم القول، وعتَّموا عليهم الإعلام وجففوا منابع الدين، فلم يعلموا دين الله على وجهه الصحيح، ولم يروا الأشياء على صورتها الطبيعية، إنما زُينت لهم الأمور، وخُبِّئت عنهم الحقائق فرأوا سورةً مموهةٌ مشوهة، وجدوا خطأها وعرفوا تزويرها يوم القيامة، وجدوا أن الدين حق، وأن القيامة حق، وأن المسألة فيها جنةٌ أو نار لا ثالث لهما، وصاروا في حالة صعبة، فساعتها دعوا عليهم ﴿ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ ضعفاً لكفرهم، وضعفاً لأنهم كانوا سبباً في كفرنا، هذا موقفٌ من مواقفهم.

ثم ذكر الله في سورة سبأ بعد ذلك مشهداً من مشاهد الضعفاء مع الكبراء والسادة الذين أضلوهم ﴿ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ﴾، من الخزي أسروا الندامة في قلوبهم لما رأوا العذاب ﴿ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾، فالسورتان تتشاركان في استكمال مشهد، في استبيان موقف.. وهكذا، فبينهما اتصالٌ وثيق، رغم أن سورة الأحزاب مدنية وسورة سبأ مكية إلا أنهما لما تجاورتا كان بينهما هذا التناسب وذلك من جلال كلام الله لأنه كلام الله فكان متناسقاً متناسباً متشابكاً متعانقاً لا تفرق بين بعضه وبعضه الآخر.

أما هدف السورة فإنها تهدف إلى تقرير العقيدة الإسلامية الصحيحة، وقد عرَفنا أن العقيدة تشمل مجموعة تصورات ومعلومات صحيحة واقعية عقلانية توافق العقل السليم حول معرفة هذا الكون وما فيه وما حوله، أنا والكون وما وراء الكون، وما في الكون من خلقٍ آخر غيري... فالله يعلمني من أنا؟ سيدٌ أم مسود، سيدٌ أو عبد؟ الكون ما هذا؟ هذا الخلق الكبير هل هو سيدي أو أنا سيده؟ أنا أوجدته أو هو أوجدني؟ أو أوجدنا خالقٌ آخر..؟ هذا هو، فيعرفنا الله على الخالق وهو سبحانه وتعالى ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾، من الله؟ هل في الكون خلقٌ غير هذا الخلق الذي أراه؟ نعم هناك جنٌ معكم في الأرض، هناك ملائكة في السماء ملأٌ أعلى، هناك مخلوقاتٌ لم تعلموها خبأها الله تعالى، وربما يريكم إياها مع الزمان ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾، الأولون ما كانوا يعرفون الجراثيم ولا الفيروسات ولا الذرة، كشف الله عنها لهذه العصور المتأخرة، ولا يزال في الخلق خبيءٌ لا يظهر، قد يظهره الله لمن بعدنا وقد يخفيه عنهم، يكشف ما شاء لمن شاء وقتما يشاء كما يشاء، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، هذا هو الاعتقاد الصحيح عن الكون، أما أن أفهم الكون بنفسي بعقلي أنا وحدي دون شرع الله فهذا فهمٌ قاصر يعتَوِره ويعتريه النقص دائماً والجهل كثيراً، فنحن لا نعلم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، وأكثر الدنيا بظاهرها، وباطناً نغفل عنه ونجهله إلا ما كشف الله لنا، وبعلم الله وبتعليم الله وباتباع القرآن والسنة تنفتح أمامنا أبواب العلم في كل مجال، لأن القرآن قال الله فيه ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾، ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾، ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ وهكذا، وفي السنة قال الصحابة رضي الله عنهم على لسان قائلهم: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا ودلنا عليه حتى الطير في السماء[5]، وحسدنا اليهود على ذلك وقال اليهودي من قلبه النجس الخبيث يحقد علينا، يقول للصحابة رضي الله عنهم: علمكم رسولكم كلّ شيء حتى الخراءة[6]، هكذا ينضح كل إناء بما فيه الصحابي يقول: حتى الطير في السماء والعالم اليهودي الحبر يقول: حتى الخراءة، أي حتى دخول الحمام، حتى قضاء الحاجة علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نقضي حاجتنا وكيف نتطهر من النجاسة، إذاً العلم بالقرآن والسنة يعطينا الصورة الصحيحة عن أنفسنا وعن هذا الكون وما فيه وما وراءه من خالقٍ عليم حكيم سبحانه وتعالى.

هدفٌ آخر أحبتي الكرام على ضوء ما نمضي فيه دائماً من التماس هدف السورة من اسمها سبأ، ومن أولها ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾، ومن آخرها ﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي بين الكافرين ﴿ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ ﴾، الكافرون دائماً لا يصلون إلى ما يقصدون لأنهم ضلوا في الدين فيضلهم الله في الدنيا ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾، ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ يعملون ويعملون وفي النهاية يصلون إلى ضلال، وبالتالي يحال بينهم وبين ما يشتهون الوصول إليه، ولو بالعلم لا يصلون إلى ما يريدون، ولا يصلون إلى ما يسعدهم وما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في هذه الحياة.

نأخذ من هذه الأطراف الثلاثة أن الحمد والشكر واجبٌ لله تبارك وتعالى، من خلال الإيمان به والاعتقاد فيه الاعتقاد الصحيح والإيمان برسله وكتبه واليوم الآخر، أن نحمد الله تعالى بأن نعتقد الاعتقاد الصحيح في كل شيء فنعطي لكل ذي حقٍ حقه، ونقدر الله حق قدره سبحانه وتعالى، وهذا هو الطريق الموصِّل إلى الأغراض والأهداف وما تشتهيه الأنفس السليمة، وبدونه ﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾، بدون شرع الله لا يصل الناس إلى ما يشتهون، دائماً تكون دنياهم ناقصة، وصدق ربنا إذ قال ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾ هو يريد أن يوسعها وهي تضيق عليه وتضيق به سبحان ربنا العظيم، حتى في النهاية يستعجل الموت ويفتعل الانتحار، وأصدق مثال أو كمثال واقعي على ذلك مملكة سبأ كانت مملكةً عظيمة ذات نعمة ووفرة ولكنها كفرت بالله سبحانه وتعالى فأذاقها الله لباس الجوع والخوف، وهذا مفصلٌ في السورة في قول الله تعالى ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ﴾، وفي نهاية القصة يقول الله تعالى ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾.

أحبتنا الكرام، هذا هو المشهد العام لسورة سبأ، وهذا هو هدفها، أن نحقق الحمد العظيم كاملاً وافراً لله وحده لا شريك له، وحمدنا وشكرنا لله يتمثل واقعاً في الإيمان به والاعتقاد الصحيح فيه، أنه ربٌ إله، ربٌ مُنعم وإلهٌ يُعبَد، من خلال رسالة بعث بها إلينا مع رسولٍ صادق وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وسيسألنا عن ذلك يوم الدين والحساب، هذا هو الملخص، نحمد الله ونشكره على نعمه بعبادته وحده لا شريك له، بالطريقة التي أرسلها إلينا وعلمنا إياها مع نبيه صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة، وسوف يحاسبنا على ذلك ويقاضينا ويحاكمنا يوم القيامة، وهذا العمل يصل بنا إلى تحقيق كل أهدافنا، تأخذ كل مقصودك في الدنيا فالدين لا يضيق عليك دنياك أبداً، فالشريعة رغم ما فيها من حرام وممنوع ومكروه وما إلى ذلك، لا تضيق عليك دائرة الحلال الواسعة الفسيحة، فتعيش بدين الله في الدنيا في قمة السعادة، وترى ذلك لو تفكرت قليلاً في قولة ابن الملك الكافر - ملك الروم - لسيدنا عمر رضي الله عنه حين سأل عنه فوجد أصحابه لا يعلمونه في مكان محدد حتى قيل تراه لعله تحت هذه الشجرة، فذهب فإذا رجلٌ نائم فنادى عليه فإذا هو عمر، فقال قولةً حفظها الزمان له من بعده حجةً للإسلام على لسان كافر، قال له "حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر"[7]، تخيل حينما ينام ملك البلاد تحت شجرةٍ في أرضٍ مفتوحة لا حرس ولا حفيظة من الناس ولا سلاح يحمله ولا قلق ولا أرق يغط في نومٍ عميق، ومن قبله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نام تحت ظل شجرةٍ وعلق سيفه في الشجرة، منتهى الأمان، فجاء كافرٌ وأخذ السيف وقال: من يمنعك مني يا محمد، بكل هدوء واطمئنان قال: يمنعني الله منك، فشلت يد الرجل ولم تتحرك حتى سقط السيف منها، ما استطاع الإمساك بالسيف، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وعلاه بالسيف وقال من يمنعك مني إذاً؟ قال: أنا في جوارك يا محمد، أنا في حمايتك أنت رجل طيب، أنت كريم، أنت كذا، عفا عنه[8].

... نام تحت ظل شجرة، فما بالك بأمن المواطنين، إنه أمنٌ عظيم وأعظم وأكبر، عم الأمن البلاد، لماذا؟ حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر، وترى ذلك صريحاً في كلام واحد من التابعين فضلاً عن الصحابة، لا شك أن حياة الصحابة كانت أفضل في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حياة التابعين، يقول إمام التابعين سيدنا الحسن البصري رحمه الله تعالى: نحن في سعادة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف[9]، من أين وأظنه كان يقعد على الأرض، وكان يفترش الأرض وربما افترش حصيراً إن أراد الترف، وكان يأكل الأكل المعتاد وربما كان يكثر من الصيام، وهو معروفٌ بالزهد أي بترك الحياة الدنيا ومتاعها وزخرفها وعدم الرغبة فيه، ولو وجد لأنفق في سبيل الله، لو وجد زخرف الحياة لأنفقه في سبيل الله وحرم نفسه منه طاعةً لله وزهداً لله، ومع ذلك يقول نحن في سعادة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا أي لقاتلونا بصدرٍ وجَلَدٍ عليها بالسيوف ليأخذوها منا.

فالإيمان بالله أحبتي الكرام وحمد الله وشكره على نعمه بالنظام الذي شرعه، هذا هو الطريق الموصِّل إلى شهوات الإنسان الصحيحة ورغباته الطيبة، فيجد الإنسان سعادته في الدنيا حين تُحقق كل أهدافه فتقر عينه، فكانت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم في ركعتين يصليهما لله "وجُعلت قرة عيني في الصلاة"[10].

كيف كان قوم سبأ؟ قوم سبأ كما يقول ربنا ﴿ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ﴾، طريق ممتد من أرض اليمن إلى أرض الشام وعلى الجانبين عمارات، أو عمارة بمعنى عمران، أرضٌ وحدائق وبساتين وفواكه وثمرات وبيوت على طول الطريق، قريةٌ هنا وقريةٌ هنا وقرةٌ هنا، تمشي في هذا الطريق الطويل فلا تشعر بوحشة، كلما قطعت مرحلة وجدت سكاناً ودياراً وديارين تستطيع أن تستضيف نفسك عندهم فتجد كل الإكرام، وكأنك وأنت مارٌ في الطريق تستطيع أن تأكل من ثمار الجنتين فثمارها كثيرة، ﴿ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ﴾ وانظر إلى تعبير القرآن جنتان ولم يقل حديقتان، إنها حدائق وصلت إلى درجة الجنات، ﴿ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ ماذا تريدون أكثر من ذلك، حياة طيبة وافرة رخية سهلة رخيصة فيها الخيرات الوافرة، وربٌ غفورٌ يغفر الذنب، فماذا حدث؟ ﴿ فَأَعْرَضُوا ﴾ أعرضوا عن شكر الله في هذه النعم، أعرضوا عن معرفة حق الله في الإنعام عليهم، أعرضوا في عبادة الله تبارك وتعالى أو عن عبادة الله تعالى جزاء ما أنعم عليهم ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ﴾ سيلاً ممطراً من السماء، سيلاً عارماً شديداً أكل الجنتين، أخذ ما فيها، أهلك أشجارها وثمارها ﴿ وَبَدَّلْنَاهُمْ ﴾ هذا السيل خلّف وراءه جنتين أيضاً، ولكن فرقٌ بين الجنتين الأوليين والجنتين الأخريين ﴿ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾، الجنتان الجديدتان بعد السيل أو الباقيتان بعد السيل ما هي إلا بعض أشجار لها ثمارٌ مرة وغضة لا تستطعم ولا تستحلى، وربما يأنف الإنسان من أكلها، ولكن إن لم يجد إلا هي سيأكلها مرغماً، يذوق المر بكفره وإعراضه عن الله، ﴿ وَأَثْلٍ ﴾ أشجارٌ ذات فروع وعيدان لا ورق فيها ولا زهر ولا ثمر، فهي كعدمها ثروة خشبية فقط، ﴿ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ أي شيءٌ قليل من أشجار السدر وهو والنبق، وتعلمون النبق بذرتها أكبر من حبتها لا تأكل من عليها إلا مجرد القشرة، شيءٌ لا يسمن ولا يغني من جوع، هذا جزاء كفرهم ﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾، وكما توحي كلمة الجنتان عن يمين وشمال كما قلنا بأمن الطريق ورغد العيش، وأمن السفر، والناس يسافرون براً في هذه الطرق الوعرة، هذا الطريق لم يكن وعراً إنما كان آمناً مطمئناً، من كفرهم وضلالهم حتى تعلم أن الكافر لا يهتدي بل يضل ﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ الله تعالى يقول ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ في بيت المقدس، من اليمن إلى الشام في القدس ﴿ قُرًى ظَاهِرَةً ﴾ على مر الطريق وعلى طوله وعرضه هنا وهناك قرىً ظاهرة وبيوت عامرة وخيرات وافرة وكرم عظيم، يأمن معها المسافر هذا السفر الطويل، ﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ﴾ السائر لا يُضطر للوصول للعمران إلى سير طويل إنما يمشي ساعات ويجد قرية ويمشي ساعات ويجد بلداً وهكذا، ما شاء الله، على طول الطريق استراحات واستضافات وكرم وموائد ولكن مجاناً، ﴿ فَقَالُوا ﴾ من ضلالهم ﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ﴾ سفرنا ممل محطات كثيرة على طول الطريق، ﴿ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ﴾ اخل الطريق بعض الشيء حتى يكون سفرنا طويلاً بعيداً، ﴿ وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ﴾ بهذا السؤال وبهذا الطلب وبهذا التطلع إلى مباعدة السير بين محطات الطريق كان هذا ظلماً لأنفسهم وهم لا يشعرون، ضلال، الله تعالى يقول ﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾، ﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾ أي خبراً في التاريخ يتلى كما نتلوه الآن ونذكره، ﴿ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ باعد الله بين أسفارهم وأهلك حدائقهم وبساتينهم شيئاً فشيئاً حتى طالت مرحلة السفر، صارت بعيدة وصار الطريق وعراً ومخيفاً، وأهلكهم الله بعد ذلك، بعد أن كفروا.

ولقصة سبأ مرحلةٌ تابعةٌ أخرى في سورة النمل تلك التي كانت في عهد سيدنا سليمان عليه السلام، بلقيس ملكة يقول الهدهد في وصفها كما ذكر الإنسان ﴿ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾، تخيل وصف هذا القول وطبيعة هذا القول، مملكةٌ عظيمة فيها كل شيء، وأرسل إليها سليمان مع الهدهد الذي جاء بوصف المملكة أرسل إليها بكتابٍ مختصر، رسالة فيها جملة بدأها بالبسملة كما هو المعروف تبركاً وتعلقاً بالله، ثم نص الرسالة ﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾، ﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ ﴾ هذا المرسل، المرسل سليمان الملك، ﴿ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ نص الخطاب البسملة أولاً استفتاحاً، أما نص الكلام ونص الدعوة ﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ﴾ أن لا تتكبروا علي ﴿ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ أي مسلمين لله عز وجل، تؤمنون معي بالله، ربي وربكم الله.

فهمت بلقيس هذه الرسالة ورأت فيها جلالاً وبعداً عن زخرف الحياة الدنيا وموارد البلاد والاحتلال والاستخراب الذي يقولون عنه استعمار، هذا الملك قصده شريف يبدو من كلامه هذا، ومع ذلك جمعت الوزراء واستشارتهم، كانت بطانة سوء فكانت ستدفعها إلى الضلال وإلى الهلاك والدمار، حيث قالوا ﴿ قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾ نحن قوةُ منفذة، أنت اؤمرينا بما تشائين، كأنهم يقولون لو أمرتنا أن نأتي بسليمان حياً أو ميتاً لأتينا به، كلامٌ في الهواء، كلامٌ في الفضاء لا يقدرون قدره، لكن بلقيس كانت عاقلة، وهنا يضرب الله مثلاً للمرأة أنها ليس معنى أنها ناقصةٌ عقلاً وديناً أن هذا نقصانٌ في العقل نفسه، ولا تستطيع إحكام الأمور، لا، إنما نقصان عقلها هو سبق العاطفة، أن عاطفتها تسبق أولاً قبل أن تتكلم بعقلها تتكلم وتتصرف بعاطفتها، هذا هو نقصان العقل في المعنى الشرعي، لكن عقل المرأة عقلٌ حكيمٌ قد يكون أحكم من عقول رجال كثيرين، وهذه بلقيس ملكة سبأ، ورضوان الله خديجة رضي الله عنها، ورضوان الله على عائشة الفقيهة وهي بنت الثمانية عشرة عاماً، المرأة لها عقلٌ كبير لو استعملته وأحسنت الانتفاع به، ﴿ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ﴾ هذه عادتهم يصدق الله على كلامها فيقول ﴿ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ كلامها هنا صواب، ماذا تفعلين إذاً أيتها الملكة؟ ﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾ سأختبر أطماعه، سأرسل إليه بهدايا ضخمة وهائلة وفاخرة فإن أعجبته وأكلها فقد بلع الطُعم وهو يريد مالاً، كل فترة نسكته بهدية ونتقي شره، وإن لا فكلامه في الرسالة وإحساسي به كلامٌ صحيح وإحساسٌ صادق، ﴿ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ ﴾ أي جاء حامل الهدايا لسليمان عليه السلام، ﴿ قَالَ ﴾ قال سليمان بكل عزة وترفع واستغناء ﴿ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ ﴾ عندي من عطاء الله خيرٌ من عطاء الله لكم، وعندي أكثر منكم وأحسن منكم ﴿ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ﴾ أنتم الذين تفرحون بالهدايا والعطايا وتقبلون الرشاوى وما إلى ذلك، أما أنا فلا فعندي ما يغنيني من فضل الله، وترفع عن قبول الرشوة والهدية، ثم رده رداً شديداً وقال ﴿ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾.

لما وصل الخبر إلى بلقيس - عليها رحمة الله - علمت صدق هذا الملك في رسالته وأنه لا يريد مالاً وإنما يريد أن نسلم معه لله، فجاءته وقد أعد لها صرحاً عظيماً واستقبالاً فاخراً يُعلِّمها أن عنده أكبر مما عندها، حتى إنه يأتي بعرشها، بالكرسي الذي تجلس عليه، كرسي المُلك، أتى به بعد أن خرجت من ديارها وقبل أن تصل إليه استقر عنده كرسيها وذلك بواسطة أحد علماء الإنس في ذلك العصر القديم، فكان الأقدمون أكثر منا تحضراً وعلماً ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فلما رأت هذا كله علمت طبيعة هذا الملك، ولذلك نطقت بالحق ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴾ أي فيما مضى ﴿ وَأَسْلَمْتُ ﴾ الآن، ومن الآن ﴿ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.

فكانت هذه المرحلة مرحلة إصلاحٍ لمملكة سبأ، وكان فيها ولها الخير العظيم وكانت مثالاً واقعياً يقصه الله ويضربه لنا في القرآن الكريم حتى نعلم أن حمد الله وشكره بمنهجه في كتابه وسنته مع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم هو طريق الوصول إلى السعادة، وإلى تحقيق ما نبغي ونريد ونشتهي من الدنيا قبل الآخرة، بهذا لا يُحال بيننا وبين ما نشتهي في الدنيا وفي الآخرة ﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾، ﴿ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، وهكذا يتحقق للمؤمن شهواته ورغباته لأنها كلها صحيحة وسليمة حسب منهج الله تبارك وتعالى.

وفقنا الله وإياكم لأن نحقق له حقه في الحمد والشكر بالإيمان به، وبتوحيده سبحانه وتعالى وبالتصديق برسالاته وبرسله، وبالاستعداد ليوم القيامة يوم اللقاء مع الله، نسأل الله عز وجل أن يحسن ختامنا وأن يصلح أعمالنا، وأن يحسن خلاصنا، اللهم استر علينا في الدنيا والآخرة واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات ورافع الدرجات يا رب العالمين، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أعمالنا أواخرها، وأوسع أرزاقنا عند كبر سننا، وخير أيامنا يوم نلقاك يا رب العالمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، اذكروا الله يذكركم واستغفروه يغفر لكم.. وأقم الصلاة.
:
أحمد الجوهري عبد الجواد

لذة مطر ..!
07-14-2018, 05:05 AM
جزاك الله خير ع طرحك / وجعله في موازين حسناتك ..:34:

الويشان
07-14-2018, 05:45 AM
يجزاك الله الجنه ولاحرمك الاجر :23:

ѕнмонк
07-14-2018, 09:40 AM
جزيتم خير الجزاء وبوركت يمينكم على الطرح القيم والراائع
سلمت يمينكم
ويعطيكم ألف عاافية يااارب
دمتم بحفظ الله ورعايته
:131:

غـُـلايےّ
07-14-2018, 12:48 PM
طررح يفوق آلجمآل ,
‎كعآدتك إبدآع في صفحآتك ,
‎يعطيك آلعآفيـه يَ رب ,
‎وبِ إنتظآر المزيد من هذآ الفيض ,
‎لقلبك السعآده والفـرح ..
‎ودي

أبو علياء
07-14-2018, 02:14 PM
بارك الله فيكم .. ونفع بكم
واثابكم الله الفردوس الأعلى من الجنه..
على هذا المجهود الرائــع..
ربي يعطيكم الف عافيه...
وفي انتظاااار جديدكم...
.*. دمتِم بسعاده لاتغادر روحكم.*

فيّ
07-14-2018, 04:07 PM
لذه
شكرا لتواجدك الراقي..
مرورك كغيمة مثقلة بالخير فهطلت..
تكسي متصفحي جمالا وبهجه..
ممتنة لهكذا حضور يعطر المكان.

فيّ
07-14-2018, 04:07 PM
الويشان
شكرا لتواجدك الراقي..
مرورك كغيمة مثقلة بالخير فهطلت..
تكسي متصفحي جمالا وبهجه..
ممتنة لهكذا حضور يعطر المكان.

فيّ
07-14-2018, 04:08 PM
شموخ
شكرا لتواجدك الراقي..
مرورك كغيمة مثقلة بالخير فهطلت..
تكسي متصفحي جمالا وبهجه..
ممتنة لهكذا حضور يعطر المكان.

فيّ
07-14-2018, 04:08 PM
الفاتنه
شكرا لتواجدك الراقي..
مرورك كغيمة مثقلة بالخير فهطلت..
تكسي متصفحي جمالا وبهجه..
ممتنة لهكذا حضور يعطر المكان.

فيّ
07-14-2018, 04:08 PM
ابو علياء
شكرا لتواجدك الراقي..
مرورك كغيمة مثقلة بالخير فهطلت..
تكسي متصفحي جمالا وبهجه..
ممتنة لهكذا حضور يعطر المكان.

روحي تبيك
07-15-2018, 08:10 PM
جزاك الله خير وجعله في ميزان حسناتك
ولا حرمك الأجر يارب
وأنار الله قلبك بنورالإيمان
أحترآمي لــ/سموك

شموخ الغلا
07-17-2018, 11:28 PM
جزآك الله خير ..
وبآرك الله فيك على الطَرح القيم
وَ في ميزآن حسناتك ..
دمت بحفظ الله ورعآيته ..
:34:

ريُـ‘ـُآحُـ‘ـُ آلُـ‘ـُشُـ‘ـُۅقُـ‘ـُ
07-30-2018, 08:46 AM
جزاكم ربي خير الجزاء
ونفع الله بكم وسدد خطاكم
وجعلكم من أهل جنات النعيم
اللهم آآآآمين

حكآيتي آنتْ♔
08-02-2018, 06:55 AM
جزآك الله جنةٍ عَرضها آلسَموآت وَ الأرض ..
بآرك الله فيك على الطَرح القيم وَ في ميزآن حسناتك ..
آسأل الله أنْ يَرزقـك فسيح آلجنات !!
دمت بحفظ الله ورعآيته ..
لِ روحك

شيخة رواية
09-28-2018, 12:39 PM
دائما متميز في الانتقاء
سلمت على روعه طرحك
نترقب المزيد من جديدك الرائع
دمت ودام لنا روعه مواضيعك:eq-35:

دره العشق
06-23-2019, 11:17 AM
طرح رآئع جميل
بإنتظآر قآدمك الأجمل
الله يعطيك الصحة والعآفية

Şøķåŕą
03-10-2023, 02:40 PM
_



جزاك الله كل خير ..
وَبارك الله فيك ولا حرمك الأجر
لك من الشكر أجزله.