03-25-2022
|
#949
|
ومن الأسئلة التي تطرح في هذا السياق أيضًا: أي الفنين أسبقُ من الآخر: الشعر أم النثر؟ وكثير من النقاد على أن الشعر سابق على النثر، ومن هؤلاء د. طه حسين في محاضرته التي ألقاها سنة 1930م بقاعة الجمعية الجغرافية بالقاهرة بعنوان: "النثر في القرنين الثاني والثالث للهجرة"، ثم نشرها بعد ذلك في كتابه: "من حديث الشعر والنثر"، وكذلك كاتب الفصل الخاص بفن الشعر من كتاب "التوجيه الأدبي" الذي اشترك في تأليفه طه حسين وأحمد أمين، وعبدالوهاب عزام، ومحمد عوض محمد، ونشر في بداية الأربعينيات من القرن الفائت، والعقاد في فصل عنوانه "الشعر أسبق أم النثر؟" من كتابه: "حياة قلم"، إلا أن الناظر في المسألة يتحقق بكل بساطة أن الشعر أعقدُ من النثر؛ إذ لا يكفي أن يمسك الأديبُ بالقلم ويقرِّر أن ينظم شعرًا فيفعل، بل لا بد أولاً أن تكون لديه موهبة الشعر، كما لا بد أن يهبط عليه ما يسمى بالإلهام، أيًّا كانت حقيقة ذلك الإلهام، بخلاف الأمر في كتابة مقالة أو تأليف قصة مثلاً؛ حيث يكون للتنظيم والإرادة مدخل كبير فيهما، كذلك فإنه إذا كان الأدباء قلةً بين البشر، فإن الشعراء هم قلة القلة، وينبغي ألا نغفُل عن ذكر الحقيقة التي يعلمها كل إنسان، وهي أن قيود الشعر كثيرة وصعبة؛ فعندنا الوزن، وعندنا القافية، وعندنا قِصَر البيت الذي ينبغي أن يضع فيه الشاعر فكرته، أو قطعةً مستقلةً من تلك الفكرة، ويفرغ منها فيه، وهذا أشبه بمن يحجل في القيود، ويمتِّع بحركاته هذه - المقيَّدة - مَن يشاهدونه مع ذلك، أو من يمشي على حبل في الهواء مع احتفاظه باتزانه، وإيهامنا أنه يتصرَّف بتلقائية وثقة تامَّين، ومعلوم أيضًا أن الإبداع الشعري بطبيعته قليل، وأن مداه قصير، وحصاده محدود، على عكس النثر، ولعلنا لم ننسَ ما يقال عن الشعراء الحوليين المُحككين في الجاهلية، وهم الشعراء الذين كان الواحد منهم يصرف عامَهُ "أو حوله" كله في نظْم قصيدة واحدة من بضع عشرات قليلة من الأبيات وتنقيحها، وسواء صح هذا على حرفيته، أو كان تعبيرًا مجازيًّا عن شدة اهتمام تلك الطائفة من الشعراء بتجويد إبداعهم واجتهادهم في إظهاره على أبهى صورة - فإن المغزى واضحٌ في أن الشعر ليس في سهولة النثر أبدًا، وهو ما عبَّر عنه الحُطَيئة مثلاً حين قال:
الشِّعر صعبٌ، وطَويلٌ سُلَّمُهْ
إذا ارتَقى فيه الذي لا يَعْلَمُهْ
|
|
|
03-25-2022
|
#950
|
وكذلك قول الفرزدق مثلاً: إنه قد تأتي عليه أوقات يكون خلْعُ ضرسه فيها أهونَ عليه من نظْم بيت واحد من الشعر، وهذا بالتأكيد هو السبب فيما يُروى من أن العرب كانت تحتفي بشعرائها وتحتفل بهم أيما احتفال، مما لم يَرِدْ مثيلُه عن الخطيب أو القَصَّاص، كما أنه هو السبب في أن الشعراء وحدهم كانوا يتصلون في اعتقاد الناس بعالم الجن والشياطين عند العرب، أو بعالم الآلهة عند الإغريق، مما لم يُقَلْ شيءٌ منه عن سائر الأدباء، ولقد عرَفنا في عصرنا شعراء تحوَّلوا إلى كتابة الرواية أو المقال الأدبي مثلاً، لكننا لا نعرف روائيين أو كُتَّاب مقالات تحولوا إلى كتابة الشعر؛ إذ الشعر يقوم على الموهبة كما هو معروف، بخلاف غيره من فنون الأدب التي يمكن بشيء من الإرادة والاهتمام ممارسةُ كثير من الأدباء لها.
|
|
|
03-25-2022
|
#951
|
فمن لم تكن لديه تلك الموهبة، فلن يكون شاعرًا، وإن أمكن في بعض الحالات أن يكون ناظمًا.
لكن هل معنى ذلك أن النثر أسبق من الشعر؟ صعب أيضًا القول بهذا، وإن كنت أظن أن الشعر والنثر ظهرا جميعًا في ذات الوقت، فكلاهما أدب من الأدب، كل ما هنالك أن الشعر لم يستطعْه إلا الشعراء؛ أي: أولئك الفئة الذين أسبغ الله عليهم عطية الشعر من البشر، وأن النثر كان يستطيعه فئات كثيرون منهم، ولسنا نقصد هنا النثر بإطلاق، بل النثر الأدبي الذي يتميز بدفء الوجدان، ويحرص مُبدِعُه على توفير الإيقاع واللجوء إلى التعبير التصويري فيه ما أمكَن، وإلا فالناس كلهم يستطيعون، كما كان يظن مسيو جوردان في مسرحية موليير: "Le Bourgeois Gentilhomme"، أن يكونوا ناثرين، ما دام النثر هو أن يتكلمَ الإنسان بغير الشعر، حتى لو كان هو الكلام اليومي الذي لا صلة بينه وبين الأدب والفن؛ إذ كان تعليقه - حين عرَف أن اللغة؛ سواء أكانت شعرًا أم نثرًا، لا تخرج عن ذلك أبدًا - أنه قد ظل إذًا أربعين سنة كاملةً يتكلَّم النثر دون أن يدري.
|
|
|
03-25-2022
|
#952
|
والحق أن لو كان القائلون بسبق الشعر على النثر، يقصِدون النثر الفكري والعلمي لا النثر الأدبي، لوافقناهم على ما يقولون، فهذا الضرب من النثر يحتاج إلى أن تكون الأمَّة قد قطعت مرحلة طويلة من التطور العقلي والفكري، قبل أن تظهر تلك الكتابة النثرية لديها، أما إذا أُريد النثرُ الفني، فلا مُشاحَّة في مواكبته الشعر، إن لم يسبقه ولو اعتباريًّا على الأقل، وإن كنا نتحرَّج من القول بسبق النثر الفني على الشعر؛ لأن النثر الفنيَّ والشعر كليهما أدب، كل ما في الأمر أن الله قد يسر كل أديب من الأدباء لِما خُلِق له؛ فهذا شاعر، وهذا قَصَّاص، وهذا كاتب رحلات، وهذا مؤلف مقالات..، وهَلُمَّ جرًّا.
|
|
|
03-25-2022
|
#953
|
وقد أكد كاتب فصل "الشعر" في كتاب "التوجيه الأدبي"، أن الشعر "أقدم ضروب الأدب جميعًا"، أما "الأدب المنثور، فهو أحدث من الشعر كثيرًا، وهو يستشهد بقصائد "هوميروس"، التي كانت - حسب قوله - "تُنشَد ويُتغنَّى بها قبل أن يُؤلَّف كتاب أو يظهر أثر فني"، وكذلك بالشعر الجاهلي، الذي كان كما قال، "ينشد في المجامع والمحافل، وتتداوله الرواة، وتتناقله الأفواه، وله في الحياة الاجتماعية آثارٌ واضحة قوية، ثم نبحث عن النثر الجاهلي، فلا نكاد نجد له أثرًا، فإذا أمعنا في البحث، ألفينا نُتَفًا من سجع الكهنة والحكماء، يُشَكُّ كثيرًا في صحة نسبتها إلى قائليها، بل إلى العصر الجاهلي نفسه، ثم هي - فوق هذا - ليست بالأثر الأدبي الخطير".
|
|
|
03-25-2022
|
#954
|
ثم يمضي الكاتب فيضرب مثلاً ثالثًا من الأدب الإنجليزي؛ حيث نجد أن أقدم الآثار الأدبية هي القصائدُ التي تصور أعمال "بيولف"، وترجع إلى القرن السادس أو السابع الميلادي، وبالمثل فقصائد "تشوسر" في "قصص كانتربري" هي أجلُّ الأعمال الأدبية لدى الإنجليز المُحدَثين، حسبما ورد في كلامه وهو يعزو هذه الظاهرة إلى أن الأدب المنثور يتطلب معرفةً بالكتابة، والكتابة اختراع متأخِّر في تاريخ كل أمَّة.
|
|
|
|
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 05:41 PM
| | | | | |