والله سبحانه
رب الدهر كله وحديثني سيكون عن الشتاء والكلام
عن الشتاء يطول والحديث فيه ذو شجون، فإذا أقبل الشتاء
فحيا هلاً بـغنيمة العابدين وربيع المؤمنين
ألم تعلموا أنّ الصوم في الشتاء غنيمة باردة؟ - فقد روى الترمذي في سننه عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : «الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ» وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول :
ألا أدلكم على الغنيمة الباردة ، قالوا : بلى، فيقول : الصيام في الشتاء
فمن الأعمال التي جاء ذكرها في الحديث َإِسْبَاغ الْوُضُوء عَلَى الْمَكَارِهِ يعني إِتْمَامُهُ وَإِكْمَالُهُ بِاسْتِيعَابِ الأعضاء بِالْغُسْلِ وَتَطْوِيلِ الْغُرَّةِ وَتَكْرَارِ الْغُسْلِ ثَلَاثًا وتطبيق السنن الوادرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَكَارِه تَكُون فِي مُدَّةِ الْبَرْدِ
أوعند ِشِدَّةِ الْبَرْد وَأَلَمِ الْجِسْم وَنَحْو ذَلِكَ وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا الْمَكَارِهَ لِمَشَقَّتِهَا عَلَى الْعَامِلِ وَصُعُوبَتِهَا عَلَيْهِ ولذلك أُمِرَ الْمُكَلَّفُ بِمُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ
وأنت ترى أن مما يكرهه الشخص وَيَشُقُّ عَلَيْهِ
أن يَتوَضَّأُ مَعَ بَرْدٍ شَدِيدٍ وَعِلَلٍ يَتَأَذَّى مَعَهَا بِمَسِّ الْمَاءِ.
فمن علم ذلك هانت عليه مشقة القيام من النوم للوضوء والقيام بين يدي الرب جل في علاه وترك لذة الفراش الدافىء إلى لذة الصلاة ومناجاة العليم الخبير بل صارت المشقة والألم الحاصل في الوضوء عند البرد لذة لا تعدلها لذة.
ومما يدخل الجنّة بسلام الصلاة بالليل والنّاس نيام.
وقد كان العابد منهم كالنجم الساطع في ليالي الشتاء
وضياءً منيراً ولهذا أثُِر عن غير واحد من السلف عند مشهد الاحتضار
أنهم يبكون قيام ليالي الشتاء:
ومنها أنه لما احتضر أحد السلف بكى فقيل له:
أتجزع من الموت وتبكي. فقال: ما لي لا أبكي ومن أحق بذلك مني؟
والله ما أبكى جزعاً من الموت،
ولا حرصاً على دنياكم،
ولكني أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء.
وجاءت هذه االقصة عن عدد السلف.
وقال معضد: "لولا ثلاث: ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء،
ولذاذة التهجد بكتاب الله ما باليت أن أكون يعسوباً".
وليس هذا بغريب فإنّ في العبادة لذة لا يعلمها إلاّ الله
ومن فقدها فهو محروم
قال عبد الله بن وهب: "كل ملذوذ إنّما له لذة واحدة إلاّ العبادة
فإنّ لها ثلاث لذات: إذا كنت فيها، وإذا تذكرتها، وإذا أعطيت ثوابها".
وأحسبهم رحمهم الله ذاقوا اللذة الأولى والثانية وأسال الله أن لا يحرمنا وإيّاهم الثالثة.
وكانوا رحمهم الله يستثمرون الليل عموماً
وليل الشتاء على وجه الخصوص في طلب العلم.
فكان أبو هريرة - رضي الله عنه -
يقسّم ليله ثلاثة أقسام بين القيام والنوم وطلب العلم
فعنه رضي الله عنه قال:
"جزّأت الليل ثلاثة أجزاء:
ثُلثاً أصلي، وثُلثاً أنام، وثُلثاً أذكر فيه حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وروي مثله عن عمرو بن دينار وسفيان الثوري.
قال أحمد بن الفرات: "لم نزل نسمع شيوخنا يذكرون أشياء في الحفظ فأجمعوا أنّه ليس شيئ أبلغ فيه من كثرة النظر، وحفظ الليل غالب على حفظ النهار"
، وقال: "سمعت إسماعيل بن أبي اويس يقول:
إذا هممت أن تحفظ شيئا فنم وقم عند السحر فأسرج،
وانظر فيه فإنّك لا تنساه بعد إن شاء الله".
وهذا الخطيب البغدادي يقول: "واعلم أنّ للحفظ ساعات ينبغي لمن أراد التحفظ أن يراعيها.. فأجود الأوقات: الأسحار،
ثم بعدها وقت انتصاف النهار،
وبعدها الغدوات دون العشيات،
وحفظ الليل أصلح من حفظ النهار"
، قيل لبعضهم: بم أدركت العلم؟
قال: بالمصباح والجلوس إلى الصباح،
وقال آخر: بالسفر والسهر والبكور في السحر.
وسمعنا عن كثير من العلماء من المتقدمين والمتأخرين
أنهم يعكفون على طاعة الله وطلب العلم في وقت غفل النّاس فيه
عن هذا وناموا وتجد الواحد منهم يسهر الليالي الطوال مجتهداً في ذلك
طلباً وتحصلياً وتحقيقاً للمسائل وتخريجاً وتثبتاً في الأحاديث وتبحراً في العلوم.
هناك فرق كبير بين هؤلاء ومن يضيّع أوقات الشتاء بل وسائر أيام العام في اللهو وارتكاب المعاصي.
فطوبى لمن رقد إذا نعس،
واتقى اللّه إذا استيقظ فحاله أحسن وأطيب من هذا العاصي لربه.
قال يحيى بن معاذ:
"الليل طويل فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك".
وقال أحمد بن فارس من شعراء العصر العباسي ناصحاً:
إذا كنت تأذى بحرِ المصـــيف *** ويبَسِ الخريف وبَردِ الشــتا
ويلهيكَ حُسنُ زمـــانِ الربيع *** فأخذُك للعلم قـــلْ ليْ متى
قلت: فطلبك للأجر قل لي متى؟ وقيامك لليل قل لي متى؟
ونشرك للعلم قل لي متى؟ وعملك في الدعوة قل لي متى؟
والمقصود استثمار الأوقات قبل فوات الأعمار،
والمسلم في عبادة دائمة فهو يشتغل دائما في طاعة الله
فإن لم يجد عملاً حسياً اشتغل في التدبر والتأمل والتفكر في ملكوت الله.