كيف تريد أن تُرفَع صحائف عامك؟
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: ((يا رسول الله، لم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ذاك شهر يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفَع فيه الأعمال إلى رب العالمين، عز وجل، فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم))؛ [رواه أحمد والنسائي، وحسنه الألباني].
في هذا الحديث دروس وهدايات؛ منها:
أولًا: فضل شهر شعبان؛ حيث خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة الصيام؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهر من السنة أكثر صيامًا منه في شعبان))؛ [رواه البخاري ومسلم]، وفي رواية لهما: ((كان يصوم شعبان كله))، وقالت رضي الله عنها: ((كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان، بل كان يصله برمضان))؛ [رواه النسائي، وصححه الألباني]، والمعنى أنه يصوم أكثر شعبان.
ثانيًا: ذم الغفلة عن الله عز وجل وعن مواسم الخيرات؛ تأمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذاك شهر يغفل الناس عنه))، وقد حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من الغفلة؛ فقال سبحانه: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205]، فكان صلى الله عليه وسلم دائم الذكر لربه جل وعلا، مسارعًا إلى عبادته، وفي ذلك توجيه لأمته إلى البعد عن الغفلة عن الله عز وجل والحذر منها.
ثالثًا: فضل العمل الصالح والعبادة في وقت الغفلة، حين يكثر اللهو، وتستحكم الغفلة، وينشغل الناس بدنياهم، فإن المؤمن لا ينسى ربه، بل يكون على ارتباط وثيق بالله عز وجل؛ يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "اعلم أن الأوقات التي يغفل الناس عنها معظمة القدر - يعني عند الله - لاشتغال الناس بالعادات والشهوات، فإذا ثابر عليها طالب الفضل، دلَّ على حرصه على الخير".
ولذا كان عليه الصلاة والسلام يحيي وقت غفلة الناس وانشغالهم بأنواع العبادات، فإذا شغل الناس ليلهم باللهو ولذة النوم، قام يصلى أكثر الليل هو وصحابته الكرام: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ [المزمل: 20]، وعندما غفل الناس عن شهر شعبان، صام أكثره عليه الصلاة والسلام.
رابعًا: في شهر شعبان تُعرَض أعمال العبد على الله، عز وجل، خلال العام؛ تأمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، عز وجل، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم))؛ قال القاري: "وفيه إيماء إلى أن شعبان آخر السنة وأن أولها رمضان عند الله باعتبار الآخرة".
وفي ذلك تنبيه للمسلم أن يهتم بخاتمة عامة أعمال عام كامل ترفع، يا عبد الله، فما أجمل أن تختم عامك بصالح الأعمال!
أخي؛ أعِدِ التأمل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شهر شعبان: ((وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، عز وجل، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)).
إنك بنهاية شهر شعبان تودع أعمال عام كامل، فبماذا تريد أن تختم أعمال عامك المنصرم؟ وماذا تريد أن تملي الملائكة في خاتمة صحائف هذا العام؟ وكيف تريد أن ترفع صحائف عامك؟
عبدالله، إن الأعمال بالخواتيم، فما أجمل أن تسجل في خاتمة صحائفك أعمالًا صالحة! تذكر قول رسول الله صلى الله وسلم: ((فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم))؛ ولذا فما أجمل أن نستغل هذا الشهر بأعمال صالحة؛ من أهمها:
1- توحيد الله جل وعلا وإخلاص العمل له؛ فإنه أعظم ما تلقى الله به.
2- الصيام؛ تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، كصيام يوم وإفطار يوم، أو صيام الإثنين والخميس والأيام البيض، وما أجمل أن ترفع صحائف عملك وأنت صائم!
3- بر الوالدين وصلة الأرحام؛ فإن من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله.
4- التوبة وكثرة الاستغفار؛ فإن التوبة تجب ما قبلها وتبدل السيئات إلى حسنات ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ [الفرقان: 70، 71].
5- التزود من النوافل وخاصة الصلاة؛ قال الله جل وعلا: ((ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه)).
6- الإقبال على ذكر الله، وخاصة القرآن الكريم؛ فقد جاء عن جماعات من السلف أنهم كانوا يكثرون في شهر شعبان من تلاوة القرآن استعدادًا لرمضان، والتهيؤ لكثرة القراءة فيه؛ قال سلمة بن كهيل: "كان يقال: شهر شعبان شهر القراء"، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء، وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان، أغلق حانوته، وتفرغ لقراءة القرآن.
تذكر هذا السؤال: كيف تريد أن ترفع صحائف عامك؟ ودونك غنائم أيام وليالي هذا الشهر.