تابع – سورة البقرة
صفات المنافقين
ثم ننتقل - مع السياق - إلى الصورة الثالثة . أو إلى النموذج الثالث
إنها ليست في شفافية الصورة الأولى وسماحتها . وليست في عتامة الصورة الثانية وصفاقتها . ولكنها تتلوى في الحس . وتروغ من البصر , وتخفى وتبين . . إنها صورة المنافقين:
ومن الناس من يقول:آمنا بالله وباليوم الآخر , وما هم بمؤمنين . يخادعون الله والذين آمنوا , وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون . في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون . وإذا قيل لهم:لا تفسدوا في الأرض , قالوا:إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون . وإذا قيل لهم:آمنوا كما آمن الناس , قالوا:أنؤمن كما آمن السفهاء ? ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون . وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا:آمنا . وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا:إنا معكم , إنما نحن مستهزئون . الله يستهزئ بهم , ويمدهم في طغيانهم يعمهون . أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى , فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين . .
لقد كانت هذه صورة واقعة في المدينة ; ولكننا حين نتجاوز نطاق الزمان والمكان نجدها نموذجا مكرورا في أجيال البشرية جميعا . نجد هذا النوع من المنافقين من علية الناس الذين لا يجدون في أنفسهم الشجاعة ليواجهوا الحق بالإيمان الصريح , أو يجدون في نفوسهم الجرأة ليواجهوا الحق بالإنكار الصريح . وهم في الوقت ذاته يتخذون لأنفسهم مكان المترفع على جماهير الناس , وعلى تصورهم للأمور ! ومن ثم نميل إلى مواجهة هذه النصوص كما لو كانت مطلقة من مناسبتها التاريخية , موجهة إلى هذا الفريق من المنافقين في كل جيل . وإلى صميم النفس الإنسانية الثابت في كل جيل
إنهم يدعون الإيمان بالله واليوم الآخر . وهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين . إنما هم منافقون لا يجرؤون على الإنكار والتصريح بحقيقة شعورهم في مواجهة المؤمنين . وهم يظنون في أنفسهم الذكاء والدهاء والقدرة على خداع هؤلاء البسطاء
; ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم , فهم لا يخادعون المؤمنين , إنما يخادعون الله كذلك أو يحاولون:
(يخادعون الله والذين آمنوا). .
وفي هذا النص وأمثاله نقف أمام حقيقة كبيرة , وأمام تفضل من الله كريم . . تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائما ويقررها , وهي حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين . إنه يجعل صفهم صفه , وأمرهم أمره . وشأنهم شأنه . يضمهم سبحانه إليه , ويأخذهم في كنفه , ويجعل عدوهم عدوه , وما يوجه إليهم من مكر موجها إليه - سبحانه - وهذا هو التفضل العلوي الكريم . . التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوى السامق ; والذي يوحي بأن حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق , والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها , وهو يرى الله - جل شأنه - يجعل قضيته هي قضيته , ومعركته هي معركته , وعدوه هو عدوه , ويأخذه في صفة , ويرفعه إلى جواره الكريم . . فماذا يكون العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم الصغير ?!
وهو في ذات الوقت تهديد رعيب للذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم , وإيصال الأذى إليهم . تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم إنما هي مع الله القوي الجبار القهار . وأنهم إنما يحاربون الله حين يحاربون أولياءه , وإنما يتصدون لنقمة الله حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة .
وهذه الحقيقة من جانبيها جديرة بأن يتدبرها المؤمنون ليطمئنوا ويثبتوا ويمضوا في طريقهم لا يبالون كيد الكائدين , ولا خداع الخادعين , ولا أذى الشريرين . ويتدبرها أعداء المؤمنين فيفزعوا ويرتاعوا ويعرفوا من الذي يحاربونه ويتصدون لنقمته حين يتصدون للمؤمنين . .
ونعود إلى هؤلاء الذين يخادعون الله والذين آمنوا بقولهم:آمنا بالله وباليوم الآخر . ظانين في أنفسهم الذكاء والدهاء . . ولكن يا للسخرية ! يا للسخرية التي تنصب عليهم قبل أن تكتمل الآية:
(وما يخدعون إلا أنفسهم , وما يشعرون). .
إنهم من الغفلة بحيث لا يخدعون إلا أنفسهم في غير شعور ! إن الله بخداعهم عليم ; والمؤمنون في كنف الله فهو حافظهم من هذا الخداع اللئيم . أما أولئك الأغفال فهم يخدعون أنفسهم ويغشونها . يخدعونها حين يظنون أنهم أربحوها وأكسبوها بهذا النفاق , ووقوها مغبة المصارحة بالكفر بين المؤمنين . وهم في الوقت ذاته يوردونها موارد التهلكة بالكفر الذي يضمرونه , والنفاق الذي يظهرونه . وينتهون بها إلى شر مصير !
ولكن لماذا يحاول المنافقون هذه المحاولة ? ولماذا يخادعون هذا الخداع
(في قلوبهم مرض). .
في طبيعتهم آفة . في قلوبهم علة . وهذا ما يحيد بهم عن الطريق الواضح المستقيم . ويجعلهم يستحقون من الله أن يزيدهم مما هم فيه:
(فزادهم الله مرضا). .
فالمرض ينشىء المرض , والانحراف يبدأ يسيرا , ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد . سنة لا تتخلف . سنة الله في الأشياء والأوضاع , وفي المشاعر والسلوك . فهم صائرون إذن إلى مصير معلوم . المصير الذي يستحقه من يخادعون الله والمؤمنين:
(ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون).
وصفة أخرى من صفاتهم - وبخاصة الكبراء منهم الذين كان لهم في أول العهد بالهجرة مقام في قومهم ورياسة وسلطان كعبد الله بن أبي بن سلول - صفة العناد وتبرير ما يأتون من الفساد , والتبجح حين يأمنون أن يؤخذوا بما يفعلون:
(وإذا قيل لهم:لا تفسدوا في الأرض , قالوا:إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون , ولكن لا يشعرون). .
إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع , بل يضيفون اليهما السفه والادعاء: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض). . لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد , بل تجاوزوه إلى التبجح والتبرير: (قالوا:إنما نحن مصلحون). .
والذين يفسدون أشنع الفساد , ويقولون:إنهم مصلحون , كثيرون جدا في كل زمان . يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم . ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم . والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم , لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية , ولا يثوب إلى قاعدة ربانية . .
ومن ثم يجيء التعقيب الحاسم والتقرير الصادق:
(ألا إنهم هم المفسدون , ولكن لا يشعرون). .
ومن صفتهم كذلك التطاول والتعالي على عامة الناس , ليكسبوا لأنفسهم مقاما زائفا في أعين الناس:
(وإذا قيل لهم:آمنوا كما آمن الناس , قالوا:أنؤمن كما آمن السفهاء ? ألا إنهم هم السفهاء , ولكن لا يعلمون). .
وواضح أن الدعوة التي كانت موجهة إليهم في المدينة هي أن يؤمنوا الإيمان الخالص المستقيم المتجرد من الأهواء . إيمان المخلصين الذين دخلوا في السلم كافة , وأسلموا وجوههم لله , وفتحوا صدورهم لرسول الله "" صلى الله عليه وسلم ""يوجههم فيستجيبون بكليتهم مخلصين متجردين . . هؤلاء هم الناس الذين كان المنافقون يدعون ليؤمنوا مثلهم هذا الإيمان الخالص الواضح المستقيم . .
وواضح أنهم كانوا يأنفون من هذا الاستسلام للرسول "" صلى الله عليه وسلم ""ويرونه خاصا بفقراء الناس غير لائق بالعلية ذوي المقام ! ومن ثم قالوا قولتهم هذه: (أنؤمن كما آمن السفهاء ?). . ومن ثم جاءهم الرد الحاسم , والتقرير الجازم:
(ألا إنهم هم السفهاء , ولكن لا يعلمون). .
ومتى علم السفيه أنه سفيه ? ومتى استشعر المنحرف أنه بعيد عن المسلك القويم ?!
ثم تجيء السمة الأخيرة التي تكشف عن مدى الارتباط بين المنافقين في المدينة واليهود الحانقين . . إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع , والسفه والادعاء , إنما يضيفون إليها الضعف واللؤم والتآمر في الظلام:
(وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا:آمنا , وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا:إنا معكم , إنما نحن مستهزؤون). .
وبعض الناس يحسب اللؤم قوة , والمكر السيىء براعة . وهو في حقيقته ضعف وخسة . فالقوي ليس لئيما ولا خبيثا , ولا خادعا ولا متآمرا ولا غمازا في الخفاء لمازا . وهؤلاء المنافقون الذين كانوا يجبنون عن المواجهة ,
ويتظاهرون بالإيمان عند لقاء المؤمنين , ليتقوا الأذى , وليتخذوا هذا الستار وسيلة للأذى . . هؤلاء كانوا إذا خلوا إلى شياطينهم - وهم غالبا - اليهود الذين كانوا يجدون في هؤلاء المنافقين أداة لتمزيق الصف الإسلامي وتفتيته , كما أن هؤلاء كانوا يجدون في اليهود سندا وملاذا . . هؤلاء المنافقون كانوا (إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا:إنا معكم إنما نحن مستهزئون)- أي بالمؤمنين - بما نظهره من الإيمان والتصديق !
وما يكاد القرآن يحكي فعلتهم هذه وقولتهم , حتى يصب عليهم من التهديد ما يهد الرواسي:
(الله يستهزئ بهم , ويمدهم في طغيانهم يعمهون). .
وما أبأس من يستهزيء به جبار السماوات والأرض وما أشقاه !! وإن الخيال ليمتد إلى مشهد مفزع رعيب . وإلى مصير تقشعر من هوله القلوب .
وهو يقرأ : الله يستهزئ بهم , ويمدهم في طغيانهم يعمهون). . فيدعهم يخبطون على غير هدى في طريق لا يعرفون غايته , واليد الجبارة تتلقفهم في نهايته , كالفئران الهزيلة تتواثب في الفخ , غافلة عن المقبض المكين . . وهذا هو الاستهزاء الرعيب , لا كاستهزائهم الهزيل الصغير .
وهنا كذلك تبدو تلك الحقيقة التي أشرنا من قبل إليها . حقيقة تولي الله - سبحانه - للمعركة التي يراد بها المؤمنون . وما وراء هذا التولي من طمأنينة كاملة لأولياء الله , ومصير رعيب بشع لأعداء الله الغافلين , المتركين في عماهم يخبطون , المخدوعين بمد الله لهم في طغيانهم , وإمهالهم بعض الوقت في عدوانهم , والمصير الرعيب ينتظرهم هنالك , وهم غافلون يعمهون !
والكلمة الأخيرة التي تصور حقيقة حالهم , ومدى خسرانهم:
(أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى , فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين). . فلقد كانوا يملكون الهدى لو أرادوا . كان الهدى مبذولا لهم . وكان في أيديهم . وكلنهم (اشتروا الضلالة بالهدى), كأغفل ما يكون المتجرون:
(فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين). .
( يتبع )
|
|
|
|
|
|
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
08-10-2022
|
#20
|
تابع – سورة البقرة
مثلان مصوران لخسارة المنافقين
ولعلنا نلمح أن الحيز الذي استغرقه رسم هذه الصورة الثالثة قد جاء أفسح من الحيز الذي استغرفه رسم الصورة الأولى والصورة الثانية . .
ذلك أن كلا من الصورتين الأوليين فيه استقامة على نحو من الأنحاء وفيه بساطة على معنى من المعاني . . الصورة الأولى صورة النفس الصافية المستقيمة في اتجاهها , والصورة الثانية صورة النفس المعتمة السادرة في اتجاهها . أما الصورة الثالثة فهي صورة النفس الملتوية المريضة المعقدة المقلقلة . وهي في حاجة إلى مزيد من اللمسات , ومزيد من الخطوط كيما تتحدد وتعرف بسماتها الكثيرة . .
على أن هذه الإطالة توحي كذلك بضخامة الدور الذي كان يقوم به المنافقون في المدينة لإيذاء الجماعة المسلمة , ومدى التعب والقلق والاضطراب الذي كانوا يحدثونه ; كما توحي بضخامة الدور الذي يمكن أن يقوم به المنافقون في كل وقت داخل الصف المسلم , ومدى الحاجة للكشف عن ألاعيبهم ودسهم اللئيم .
وزيادة في الإيضاح , يمضي السياق يضرب الأمثال لهذه الطائفة ويكشف عن طبيعتها , وتقلباتها وتأرجحها ليزيد هذه الطبيعة جلاء وإيضاحا:
(مثلهم كمثل الذي استوقد نارا , فلما أضاءت ما حوله , ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون . صم بكم عمي فهم لا يرجعون). .
. إنهم لم يعرضوا عن الهدى ابتداء , ولم يصموا آذانهم عن السماع , وعيونهم عن الرؤية وقلوبهم عن الإدراك , كما صنع الذين كفروا . ولكنهم استحبوا العمى على الهدى بعد ما استوضحوا الأمر وتبينوه . . لقد استوقدوا النار , فلما أضاء لهم نورها لم ينتفعوا بها وهم طالبوها . عندئذ (ذهب الله بنورهم)الذي طلبوه ثم تركوه: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون)جزاء إعراضهم عن النور !
وإذا كانت الآذان والألسنة والعيون , لتلقي الأصداء والأضواء , والانتفاع بالهدى والنور , فهم قد عطلوا آذانهم فهم(صم)وعطلوا ألسنتهم فهم(بكم)وعطلوا عيونهم فهم(عمي). . فلا رجعة لهم إلى الحق , ولا أوبة لهم إلى الهدى . ولا هداية لهم إلى النور !
ومثل آخر يصور حالهم ويرسم ما في نفوسهم من اضطراب وحيرة وقلق ومخافة:
(أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق , يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت . والله محيط بالكافرين . يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه , وإذا أظلم عليهم قاموا , ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم . إن الله على كل شيء قدير). .
إنه مشهد عجيب , حافل بالحركة , مشوب بالاضطراب . فيه تيه وضلال , وفيه هول ورعب , وفيه فزع وحيرة , وفيه أضواء وأصداء . . صيب من السماء هاطل غزير (فيه ظلمات ورعد وبرق). . (كلما أضاء لهم مشوا فيه). . (وإذا أظلم عليهم قاموا). . أي وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون . وهم مفزعون: (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت). .
إن الحركة التي تغمر المشهد كله:من الصيب الهاطل , إلى الظلمات والرعد والبرق , إلى الحائرين المفزعين فيه , إلى الخطوات المروعة الوجلة , التي تقف عندما يخيم الظلام . . إن هذه الحركة في المشهد لترسم - عن طريق التأثر الإيحائي - حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون . . بين لقائهم للمؤمنين , وعودتهم للشياطين . بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة . بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام . . فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ; ويجسم صورة شعورية . وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس .
دعوة الناس للإنحياز إلى المتقين
وعندما يتم استعراض الصور الثلاث يرتد السياق في السورة نداء للناس كافة , وأمرا للبشرية جمعاء , أن تختار الصورة الكريمة المستقيمة . الصورة النقية الخالصة . الصورة العاملة النافعة . الصورة المهتدية المفلحة . . صورة المتقين:
(يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون . الذي جعل لكم الأرض فراشا , والسماء بناء , وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم , فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون). .
إنه النداء إلى الناس كلهم لعبادة ربهم الذي خلقهم والذين من قبلهم . ربهم الذي تفرد بالخلق , فوجب أن يتفرد بالعبادة . . وللعبادة هدف لعلهم ينتهون إليه ويحققوه:
(لعلكم تتقون). . لعلكم تصيرون إلى تلك الصورة المختارة من صور البشرية . صورة العابدين لله . المتقين لله . الذين أدوا حق الربوبية الخالقة , فعبدوا الخالق وحده ; رب الحاضرين والغابرين , وخالق الناس أجمعين , ورازقهم كذلك من الأرض والسماء بلا ند ولا شريك:
(الذي جعل لكم الأرض فراشا). .
وهو تعبير يشي باليسر في حياة البشر على هذه الأرض , وفي إعدادها لهم لتكون لهم سكنا مريحا وملجأ واقيا كالفراش . . والناس ينسون هذا الفراش الذي مهده الله لهم لطول ما ألفوه . ينسون هذا التوافق الذي جعله الله في الأرض ليمهد لهم وسائل العيش , وما سخره لهم فيها من وسائل الراحة والمتاع . ولولا هذا التوافق ما قامت حياتهم على هذا الكوكب في مثل هذا اليسر والطمأنينة . ولو فقد عنصر واحد من عناصر الحياة في هذا الكوكب ما قام هؤلاء الأناسي في غير البيئة التي تكفل لهم الحياة . ولو نقص عنصر واحد من عناصر الهواء عن قدره المرسوم لشق على الناس أن يلتقطوا أنفاسهم حتى لو قدرت لهم الحياة !
(والسماء بناء). .
فيها متانة البناء وتنسيق البناء . والسماء ذات علاقة وثيقة بحياة الناس في الأرض , وبسهولة هذه الحياة . وهي بحرارتها وضوئها وجاذبية اجرامها وتناسقها وسائر النسب بين الأرض وبينها , تمهد لقيام الحياة على الأرض وتعين عليها . فلا عجب أن تذكر في معرض تذكير الناس بقدرة الخالق , وفضل الرازق , واستحقاق المعبود للعبادة من العبيد المخاليق .
(وأنزل من السماء ماء , فأخرج به من الثمرات رزقا لكم). .
وذكر إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به , ما يفتأ يتردد في مواضع شتى من القرآن في معرض التذكير بقدرة الله , والتذكير بنعمته كذلك . . والماء النازل من السماء هو مادة الحياة الرئيسية للأحياء في الأرض جميعا . فمنه تنشأ الحياة بكل أشكالها ودرجاتها (وجعلنا من الماء كل شيء حي). . سواء أنبت الزرع مباشرة حين يختلط بالأرض , أو كون الأنهار والبحيرات العذبة , أو انساح في طبقات الأرض فتألفت منه المياه الجوفية , التي تتفجر عيونا أو تحفر آبارا , أو تجذب بالآلات إلى السطح مرة أخرى .
وقصة الماء في الأرض , ودوره في حياة الناس , وتوقف الحياة عليه في كل صورها وأشكالها . . كل هذا أمر لا يقبل المماحكة , فتكفي الإشارة إليه , والتذكير به , في معرض الدعوة إلى عبادة الخالق الرازق الوهاب .
وفي ذلك النداء تبرز كليتان من كليات التصور الإسلامي:وحدة الخالق لكل الخلائق: (الذي خلقكم والذين من قبلكم). . ووحدة الكون وتناسق وحداته وصداقته للحياة وللإنسان: (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء . وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم). . فهذا الكون أرضه مفروشة لهذا الإنسان , وسماؤه مبنية بنظام , معينة بالماء الذي تخرج به الثمرات رزقا للناس . . والفضل في هذا كله للخالق الواحد:
(فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون). .
تعلمون أنه خلقكم والذين من قبلكم . وتعلمون أنه جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء . وأنه لم يكن له شريك يساعد , ولا ند يعارض . فالشرك به بعد هذا العلم تصرف لا يليق !
والأنداد التي يشدد القرآن في النهي عنها لتخلص عقيدة التوحيد نقية واضحة , قد لا تكون آلهة تعبد مع الله على النحو الساذج الذي كان يزاوله المشركون . فقد تكون الأنداد في صور أخرى خفية . قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله في أي صورة , وفي الخوف من غير الله في أي صورة . وفي الاعتقاد بنفع أو ضر في غير الله في أي صورة . . عن ابن عباس قال:" الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل . وهو أن يقول:والله وحياتك يا فلان وحياتي . ويقول:لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة , ولولا البط في الدار لأتى اللصوص . وقول الرجل لصاحبه:ما شاء الله وشئت ! وقول الرجل:لولا الله وفلان . . هذا كله به شرك " . . . وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله "" صلى الله عليه وسلم ""ما شاء الله وشئت . قال:" أجعلتني لله ندا ? " !
هكذا كان سلف هذه الأمة ينظر إلى الشرك الخفي والأنداد مع الله . . فلننظر نحن أين نحن من هذه الحساسية المرهفة , وأين نحن من حقيقة التوحيد الكبيرة !!!
|
|
|
|
|
|
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
08-10-2022
|
#21
|
تابع – سورة البقرة
تحدي الكفار بمعارضة القرآن
ولقد كان اليهود يشككون في صحة رسالة النبي "" صلى الله عليه وسلم ""وكان المنافقون يرتابون فيها - كما ارتاب المشركون وشككوا في مكة وغيرها - فهنا يتحدى القرآن الجميع . إذ كان الخطاب إلى "الناس " جميعا . يتحداهم بتجربة واقعية تفصل في الأمر بلا مماحكة:
(وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله , وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين). .
ويبدأ هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال . . يصف الرسول "" صلى الله عليه وسلم ""بالعبودية لله: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا). . ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات منوعة متكاملة:فهو أولا تشريف للنبي وتقريب بإضافة عبوديته لله تعالى ; دلالة على أن مقام العبودية لله هو أسمى مقام يدعى إليه بشر ويدعى به كذلك . وهو ثانيا تقرير لمعنى العبودية , في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده , واطراح الأنداد كلها من دونه . فها هو ذا النبي في مقام الوحي - وهو أعلى مقام - يدعى بالعبودية لله , ويشرف بهذه النسبة في هذا المقام .
أما التحدي فمنظور فيه إلى مطلع السورة . . فهذا الكتاب المنزل مصوغ من تلك الحروف التي في أيديهم , فإن كانوا يرتابون في تنزيله , فدونهم فليأتوا بسورة من مثله ; وليدعوا من يشهد لهم بهذا - من دون الله - فالله قد شهد لعبده بالصدق في دعواه .
وهذا التحدي ظل قائما في حياة الرسول "" صلى الله عليه وسلم ""وبعدها , وما يزال قائما إلى يومنا هذا وهو حجة لا سبيل إلى المماحكة فيها . . وما يزال القرآن يتميز من كل كلام يقوله البشر تميزا واضحا قاطعا . وسيظل كذلك أبدا . سيظل كذلك تصديقا لقول الله تعالى في الآية التالية:
(فإن لم تفعلوا - ولن تفعلوا - فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين). .
والتحدي هنا عجيب , والجزم بعدم إمكانه أعجب , ولو كان في الطاقة تكذيبه ما توانوا عنه لحظة . وما من شك أن تقرير القرآن الكريم أنهم لن يفعلوا , وتحقق هذا كما قرره هو بذاته معجزة لا سبيل إلى المماراة فيها . ولقد كان المجال أمامهم مفتوحا , فلو أنهم جاءوا بما ينقض هذا التقرير القاطع لأنهارت حجية القرآن ولكن هذا لم يقع ولن يقع كذلك فالخطاب للناس جميعا , ولو أنه كان في مواجهة جيل من أجيال الناس .
على أن كل من له دراية بتذوق أساليب الأداء ; وكل من له خبرة بتصورات البشر للوجود وللأشياء ; وكل من له خبرة بالنظم والمناهج والنظريات النفسية أو الاجتماعية التي ينشئها البشر . . لا يخالجه شك في أن ما جاء به القرآن في هذه المجالات كلها شيء آخر ليس من مادة ما يصنعه البشر . والمراء في هذا لا ينشأ إلا عن جهالة لا تميز , أو غرض يلبس الحق بالباطل . .
ومن ثم كان هذا التهديد المخيف لمن يعجزون عن هذا التحدي ثم لا يؤمنون بالحق الواضح:
(فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين). .
ففيم هذا الجمع بين الناس والحجارة , في هذه الصورة المفزعة الرعيبة ? لقد أعدت هذه النار للكافرين . الكافرين الذين سبق في أول السورة وصفهم بأنهم (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم , وعلى أبصارهم غشاوة). . والذين يتحداهم القرآن هنا فيعجزون , ثم لا يستجيبون . . فهم إذن حجارة من الحجارة ! وإن تبدوا في صورة آدمية من الوجهة الشكلية ! فهذا الجمع بين الحجارة من الحجر والحجارة من الناس هو الأمر المنتظر !
على أن ذكر الحجارة هنا يوحي إلى النفس بسمة أخرى في المشهد المفزع:مشهد النار التي تأكل الأحجار . ومشهد الناس الذين تزحمهم هذه الأحجار . . في النار . .
وهي ألوان من النعيم يستوقف النظر منها - إلى جانب الأزواج المطهرة - تلك الثمار المتشابهة , التي يخيل إليهم أنهم رزقوها من قبل - أما ثمار الدنيا التي تشبهها بالاسم أو الشكل , وأما ثمار الجنة التي رزقوها من قبل - فربما كان في هذا التشابه الظاهري والتنوع الداخلي مزية المفاجأة في كل مرة . . وهي ترسم جوا من الدعابة الحلوة , والرضى السابغ , والتفكه الجميل , بتقديم المفاجأة بعد المفاجأة , وفي كل مرة ينكشف التشابه الظاهري عن شيء جديد !
وهذا التشابه في الشكل , والتنوع في المزية , سمة واضحة في صنعة الباريء تعالى , تجعل الوجود أكبر في حقيقته من مظهره . ولنأخذ الإنسان وحده نموذجا كاشفا لهذه الحقيقة الكبيرة . . الناس كلهم ناس , من ناحية قاعدة التكوين:رأس وجسم وأطراف . لحم ودم وعظام وأعصاب . عينان وأذنان وفم ولسان . خلايا حية من نوع الخلايا الحية . تركيب متشابه في الشكل والمادة . . ولكن أين غاية المدى في السمات والشيات ? ثم أين غاية المدى في الطباع والاستعدادات ? إن فارق ما بين إنسان وإنسان - على هذا التشابه - ليبلغ أحيانا أبعد مما بين الأرض والسماء !
وهكذا يبدو التنوع في صنعة الباريء هائلا يدير الرؤوس:التنوع في الأنواع والأجناس , والتنوع في الأشكال والسمات , والتنوع في المزايا والصفات . . وكله . . كله مرده إلى الخلية الواحدة المتشابهة التكوين والتركيب .
فمن ذا الذي لا يعبد الله وحده , وهذه آثار صنعته , وآيات قدرته ? ومن ذا الذي يجعل لله اندادا , ويد الإعجاز واضحة الآثار , فيما تراه الأبصار , وفيما لا تدركه الأبصار ?
اختلاف أثر الأمثال القرآنية على المؤمنين والكافرين
بعد ذلك يجيء الحديث عن الأمثال التي يضربها الله في القرآن:
(إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما , بعوضة فما فوقها , فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم , وأما الذين كفروا فيقولون:ماذا أراد الله بهذا مثلا ? يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا , وما يضل به إلا الفاسقين . الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه , ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل , ويفسدون في الأرض . . أولئك هم الخاسرون). .
وهذه الآيات تشي بأن المنافقين الذين ضرب الله لهم مثل الذي استوقد نارا ومثل الصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق - وربما كان اليهود كذلك والمشركون - قد اتخذوا من ورود هذه الأمثال في هذه المناسبة , ومن وجود أمثال أخرى في القرآن المكي الذي سبق نزوله وكان يتلى في المدينة , كالذي ضربه الله مثلا للذين كفروا بربهم (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون). . وكالذي ضربه الله مثلا لعجز آلهتهم المدعاة عن خلق الذباب: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه . ضعف الطالب والمطلوب). .
نقول:إن هذه الآيات تشي بأن المنافقين - وربما كان اليهود والمشركون - قد وجدوا في هذه المناسبة منفذا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن , بحجة أن ضرب الأمثال هكذا بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم لا تصدر عن الله , وأن الله لا يذكر هذه الأشياء الصغيرة كالذباب والعنكبوت في كلامه ! . . وكان هذا طرفا من حملة التشكيك والبلبلة التي يقوم بها المنافقون واليهود في المدينة , كما كان يقوم بها المشركون في مكة .
فجاءت هذه الآيات دفعا لهذا الدس , وبيانا لحكمة الله في ضرب الأمثال , وتحذيرا لغير المؤمنين من عاقبة الاستدراج بها , وتطمينا للمؤمنين أن ستزيدهم إيمانا .
(إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما , بعوضة فما فوقها). .
فالله رب الصغير والكبير , وخالق البعوضة والفيل , والمعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل . إنها معجزة الحياة . معجزة السر المغلق الذي لا يعلمه إلا الله . . على أن العبرة في المثل ليست في الحجم والشكل , إنما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير . وليس في ضرب الأمثال ما يعاب وما من شأنه الاستحياء من ذكره . والله - جلت حكمته - يريد بها اختبار القلوب , وامتحان النفوس:
(فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم). .
ذلك أن إيمانهم بالله يجعلهم يتلقون كل ما يصدر عنه بما يليق بجلاله ; وبما يعرفون من حكمته . وقد وهبهم الإيمان نورا في قلوبهم , وحساسية في أرواحهم , وتفتحا في مداركهم , واتصالا بالحكمة الإلهية في كل أمر وفي كل قول يجيئهم من عند الله .
|
|
|
|
|
|
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
08-10-2022
|
#22
|
تابع – سورة البقرة
(وأما الذين كفروا فيقولون:ماذا أراد الله بهذا مثلا ?). .
وهو سؤال المحجوب عن نور الله وحكمته , المقطوع الصلة بسنة الله وتدبيره . ثم هو سؤال من لا يرجو للهوقارا , ولا يتأدب معه الأدب اللائق بالعبد أمام تصرفات الرب . يقولونها في جهل وقصور في صيغة الاعتراض والاستنكار , أو في صورة التشكيك في صدور مثل هذا القول عن الله !
هنا يجيئهم الجواب في صورة التهديد والتحذير بما وراء المثل من تقدير وتدبير:
(يضل به كثيرا , ويهدي به كثيرا , وما يضل به إلا الفاسقين). .
والله - سبحانه - يطلق الابتلاءات والامتحانات تمضي في طريقها , ويتلقاها عباده , كل وفق طبيعته واستعداده , وكل حسب طريقه ومنهجه الذي اتخذه لنفسه . والابتلاء واحد . . ولكن آثاره في النفوس تختلف بحسب اختلاف المنهج والطريق . . الشدة تسلط على شتى النفوس , فأما المؤمن الواثق بالله وحكمته ورحمته فتزيده الشدة التجاء إلى الله وتضرعا وخشية . وأما الفاسق أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعدا , وتخرجه من الصف إخراجا . والرخاء يسلط على شتى النفوس , فأما المؤمن التقي فيزيد الرخاء يقظة وحساسية وشكرا . وأما الفاسق أو المنافق فتبطره النعمة ويتلفه الرخاء ويضله الابتلاء . . وهكذا المثل الذي يضربه الله للناس . . (يضل به كثيرا). . ممن لا يحسنون استقبال ما يجيئهم من الله , (ويهدي به كثيرا)ممن يدركون حكمة الله . (وما يضل به إلا الفاسقين). . الذين فسقت قلوبهم من قبل وخرجت عن الهدى والحق , فجزاؤهم زيادتهم مما هم فيه !
ويفصل السياق صفة الفاسقين هؤلاء , كما فصل في أول السورة صفة المتقين ; فالمجال ما يزال - في السورة - هو مجال الحديث عن تلك الطوائف , التي تتمثل فيها البشرية في شتى العصور:
(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه , ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل , ويفسدون في الأرض . أولئك هم الخاسرون). .
فأي عهد من عهود الله هو الذي ينقضون ? وأي أمر مما أمر الله به أن يوصل هو الذي يقطعون ? وأي لون من الفساد في الأرض هو الذي يفسدون ?
لقد جاء السياق هنا بهذا الإجمال لأن المجال مجال تشخيص طبيعة , وتصوير نماذج , لا مجال تسجيل حادثة , أو تفصيل واقعة . . إن الصورة هنا هي المطلوبة في عمومها . فكل عهد بين الله وبين هذا النموذج من الخلق فهو منقوض ; وكل ما أمر الله به أن يوصل فهو بينهم مقطوع ; وكل فساد في الأرض فهو منهم مصنوع . . إن صلة هذا النمط من البشر بالله مقطوعة , وإن فطرتهم المنحرفة لا تستقيم على عهد ولا تستمسك بعروة ولا تتورع عن فساد . إنهم كالثمرة الفجة التي انفصلت من شجرة الحياة , فتعفنت وفسدت ونبذتها الحياة . . ومن ثم يكون ضلالهم بالمثل الذي يهدي المؤمنين ; وتجيء غوايتهم بالسبب الذي يهتدي به المتقون .
وننظر في الآثار الهدامة لهذا النمط من البشر الذي كانت الدعوة تواجهه في المدينة في صورة اليهود والمنافقين والمشركين ; والذي ظلت تواجهه وما تزال تواجهه اليوم في الأرض مع اختلاف سطحي في الأسماء والعنوانات !
(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه). .
وعهد الله المعقود مع البشر يتمثل في عهود كثيرة:إنه عهد الفطرة المركوز في طبيعة كل حي . . أن يعرف خالقه , وأن يتجه إليه بالعبادة . وما تزال في الفطرة هذه الجوعة للاعتقاد بالله , ولكنها تضل وتنحرف فتتخذ من دون الله أندادا وشركاء . . وهو عهد الاستخلاف في الأرض الذي أخذه الله على آدم - كما سيجيء -: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). . وهو عهوده الكثيرة في الرسالات لكل قوم أن يعبدوا الله وحده , وأن يحكموا في حياتهم منهجه وشريعته . . وهذه العهود كلها هي التي ينقضها الفاسقون . وإذا نقض عهد الله من بعد ميثاقه , فكل عهد دون الله منقوض . فالذي يجرؤ على عهد الله لا يحترم بعده عهدا من العهود .
(ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل). .
والله أمر بصلات كثيرة . . أمر بصلة الرحم والقربى . وأمر بصلة الإنسانية الكبرى . وأمر قبل هذا كله بصلة العقيدة والأخوة الإيمانية , التي لا تقوم صلة ولا وشيجة إلا معها . . وإذا قطع ما أمر الله به أن يوصل فقد تفككت العرى , وانحلت الروابط , ووقع الفساد في الأرض , وعمت الفوضي .
(ويفسدون في الأرض). .
والفساد في الأرض ألوان شتى , تنبع كلها من الفسوق عن كلمة الله , ونقض عهد الله , وقطع ما أمر الله به أن يوصل . ورأس الفساد في الأرض هو الحيدة عن منهجه الذي اختاره ليحكم حياة البشر ويصرفها . هذا مفرق الطريق الذي ينتهي إلى الفساد حتما , فما يمكن أن يصلح أمر هذه الأرض , ومنهج الله بعيد عن تصريفها , وشريعة الله مقصاة عن حياتها . وإذا انقطعت العروة بين الناس وربهم على هذا النحو فهو الفساد الشامل للنفوس والأحوال , وللحياة والمعاش ; وللأرض كلها وما عليها من ناس وأشياء .
إنه الهدم والشر والفساد حصيلة الفسوق عن طريق الله . . ومن ثم يستحق أهله أن يضلهم الله بما يهدي به عباده المؤمنين .
استنكار كفر الكفار بالله
وعند هذا البيان الكاشف لآثار الكفر والفسوق في الأرض كلها يتوجه إلى الناس باستنكار كفرهم بالله المحيي المميت الخالق الرازق المدبر العليم:
(كيف تكفرون بالله , وكنتم أمواتا فأحياكم , ثم يميتكم , ثم يحييكم , ثم إليه ترجعون ? هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ; ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم). .
والكفر بالله في مواجهة هذه الدلائل والآلاء كفر قبيح بشع , مجرد من كل حجة أو سند . . والقرآن يواجه البشر بما لا بد لهم من مواجهته , والاعتراف به , والتسليم بمقتضياته . يواجههم بموكب حياتهم وأطوار وجودهم . لقد كانوا أمواتا فأحياهم . كانوا في حالة موت فنقلهم منها إلى حالة حياة ولا مفر من مواجهة هذه الحقيقة التي لا تفسير لها إلا بالقدرة الخالقة . إنهم أحياء , فيهم حياة . فمن الذي أنشأ لهم هذه الحياة ? من الذي أوجد هذه الظاهرة الجديدة الزائدة على ما في الأرض من جماد ميت ? إن طبيعة الحياة شيء آخر غير طبيعة الموت المحيط بها في الجمادات . فمن أين جاءت ? إنه لا جدوى من الهروب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على العقل والنفس ; ولا سبيل كذلك لتعليل مجيئها بغير قدرة خالقة ذات طبيعة أخرى غير طبيعة المخلوقات . من أين جاءت هذه الحياة التي تسلك في الأرض سلوكا آخر متميزا عن كل ما عداها من الموات ? . . لقد جاءت من عند الله . . هذا هو أقرب جواب . . وإلا فليقل من لا يريد التسليم:أين هو الجواب !
وهذه الحقيقة هي التي يواجه بها السياق الناس في هذا المقام:
(كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ?). .
كنتم أمواتا من هذا الموات الشائع من حولكم في الأرض فأنشا فيكم الحياة(فأحياكم). . فكيف يكفر بالله من تلقى منه الحياة ?
(ثم يميتكم). .
ولعل هذه لا تلقى مراء ولا جدلا , فهي الحقيقة التي تواجه الأحياء في كل لحظة , وتفرض نفسها عليهم فرضا , ولا تقبل المراء فيها ولا الجدال .
(ثم يحييكم). .
وهذه كانوا يمارون فيها ويجادلون ; كما يماري فيها اليوم ويجادل بعض المطموسين , المنتكسين إلى تلك الجاهلية الأولى قبل قرون كثيرة . وهي حين يتدبرون النشأة الأولى , لا تدعو إلى العجب , ولا تدعو إلى التكذيب .
(ثم إليه ترجعون). .
كما بدأكم تعودون , وكما ذرأكم في الأرض تحشرون , وكما انطلقتم بإرادته من عالم الموت إلى عالم الحياة , ترجعون إليه ليمضي فيكم حكمه ويقضي فيكم قضاءه . .
وهكذا في آية واحدة قصيرة يفتح سجل الحياة كلها ويطوى , وتعرض في ومضة صورة البشرية في قبضة الباريء:ينشرها من همود الموت أول مرة , ثم يقبضها بيد الموت في الأولى , ثم يحييها كرة أخرى , وإليه مرجعها في الآخرة , كما كانت منه نشأتها في الأولى . . وفي هذا الاستعراض السريع يرتسم ظل القدرة القادرة , ويلقي في الحس إيحاءاته المؤثرة العميقة .
llثم يعقب السياق بومضة أخرى مكملة للومضة الأولى:
(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ; ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ; وهو بكل شيء عليم). .
ويكثر المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق الأرض والسماء , يتحدثون عن القبلية والبعدية . ويتحدثون عن الاستواء والتسوية . . وينسون أن "قبل وبعد" اصطلاحان بشريان لا مدلول لهما بالقياس إلى الله تعالى ; وينسون أن الاستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقربان إلى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود . . ولا يزيدان . . وما كان الجدل الكلامي الذي ثار بين علماء المسلمين حول هذه التعبيرات القرآنية , إلا آفة من آفات الفلسفة الإغريقية والمباحث اللاهوتية عند اليهود والنصارى , عند مخالطتها للعقلية العربية الصافية , وللعقلية الإسلامية الناصعة . . وما كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة , فنفسد جمال العقيدة وجمال القرآن بقضايا علم الكلام !!
فلنخلص إذن إلى ما وراء هذه التعبيرات من حقائق موحية عن خلق ما في الأرض جميعا للإنسان , ودلالة هذه الحقيقة على غاية الوجود الإنساني , وعلى دوره العظيم في الأرض , وعلى قيمته في ميزان الله , وما وراء هذا كله من تقرير قيمة الإنسان في التصور الإسلامي ; وفي نظام المجتمع الإسلامي . .
(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا). .
إن كلمة(لكم)هنا ذات مدلول عميق وذات إيحاء كذلك عميق . إنها قاطعة في أن الله خلق هذا الإنسان لأمر عظيم . خلقه ليكون مستخلفا في الأرض , مالكا لما فيها , فاعلا مؤثرا فيها . إنه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض ; والسيد الأول في هذا الميراث الواسع . ودوره في الأرض إذن وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول ; إنه سيد الأرض وسيد الآلة ! إنه ليس عبدا للآلة كما هو في العالم المادي اليوم . وليس تابعا للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم كما يدعي أنصار المادية المطموسون , الذين يحقرون دور الإنسان ووضعه , فيجعلونه تابعا للآلة الصماء وهو السيد الكريم ! وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان , ولا أن تستذله أو تخضعه أو تستعلي عليه ; وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان , مهما يحقق من مزايا مادية , هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنساني . فكرامة الإنسان أولا , واستعلاء الإنسان أولا , ثم تجيء القيم المادية تابعة مسخرة .
والنعمة التي يمتن الله بها على الناس هنا - وهو يستنكر كفرهم به - ليست مجرد الإنعام عليهم بما في الأرض جميعا , ولكنها - إلى ذلك - سيادتهم على ما في الأرض جميعا , ومنحهم قيمة أعلى من قيم الماديات التي تحويها الأرض جميعا . هي نعمة الاستخلاف والتكريم فوق نعمة الملك والانتفاع العظيم .
|
|
|
|
|
|
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
08-10-2022
|
#23
|
تابع – سورة البقرة
(ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات). .
ولا مجال للخوض في معنى الاستواء إلا بأنه رمز السيطرة , والقصد بإرادة الخلق والتكوين . كذلك لا مجال للخوض في معنى السماوات السبع المقصودة هنا وتحديد أشكالها وأبعادها . اكتفاء بالقصد الكلي من هذا النص , وهو التسوية للكون أرضه وسمائه في معرض استنكار كفر الناس بالخالق المهيمن المسيطر على الكون , الذي سخر لهم الأرض بما فيها , ونسق السماوات بما يجعل الحياة على الأرض ممكنة مريحة .
(وهو بكل شيء عليم). .
بما أنه الخالق لكل شيء , المدبر لكل شيء . وشمول العلم في هذا المقام كشمول التدبير . حافز من حوافز الإيمان بالخالق الواحد , والتوجه بالعبادة للمدبر الواحد , وإفراد الرازق المنعم بالعبادة اعترافا بالجميل .
وهكذا تنتهي الجولة الأولى في السورة . . وكلها تركيز على الإيمان , والدعوة إلى اختيار موكب المؤمنين المتقين . .
قصة آدم واستخلافه
يرد القصص في القرآن في مواضع ومناسبات . وهذه المناسبات التي يساق القصص من أجلها هي التي تحدد مساق القصة , والحلقة التي تعرض منها , والصورة التي تأتي عليها , والطريقة التي تؤدى بها . تنسيقا للجو الروحي والفكري والفني الذي تعرض فيه . وبذلك تؤدي دورها الموضوعي , وتحقق غايتها النفسية , وتلقي إيقاعها المطلوب .
ويحسب أناس أن هنالك تكرارا في القصص القرآني , لأن القصة الواحدة قد يتكرر عرضها في سور شتى . ولكن النظرة الفاحصة تؤكد أنه ما من قصة , أو حلقة من قصة قد تكررت في صورة واحدة , من ناحية القدر الذي يساق , وطريقة الأداء في السياق . وأنه حيثما تكررت حلقة كان هنالك جديد تؤديه , ينفي حقيقة التكرار .
ويزيغ أناس فيزعمون أن هنالك خلقا للحوادث أو تصرفا فيها , يقصد به إلى مجرد الفن - بمعنى التزويق الذي لا يتقيد بواقع - ولكن الحق الذي يلمسه كل من ينظر في هذا القرآن , وهو مستقيم الفطرة , مفتوح البصيرة , هو أن المناسبة الموضوعية هي التي تحدد القدر الذي يعرض من القصة في كل موضع , كما تحدد طريقة العرض وخصائص الأداء . والقرآن كتاب دعوة , ودستور نظام , ومنهج حياة , لا كتاب رواية ولا تسلية ولا تاريخ . وفي سياق الدعوة يجيء القصص المختار , بالقدر وبالطريقة التي تناسب الجو والسياق , وتحقق الجمال الفني الصادق , الذي لا يعتمد على الخلق والتزويق , ولكن يعتمد على إبداع العرض , وقوة الحق , وجمال الأداء .
وقصص الأنبياء في القرآن يمثل موكب الإيمان في طريقه الممتد الواصل الطويل . ويعرض قصة الدعوة إلى الله واستجابة البشرية لها جيلا بعد جيل ; كما يعرض طبيعة الإيمان في نفوس هذه النخبة المختارة من البشر , وطبيعة تصورهم للعلاقة بينهم وبين ربهم الذي خصهم بهذا الفضل العظيم . . وتتبع هذا الموكب الكريم في طريقه اللاحب يفيض على القلب رضى ونورا وشفافية ; ويشعره بنفاسة هذا العنصر العزيز - عنصر الإيمان - وأصالته في الوجود . كذلك يكشف عن حقيقة التصور الإيماني ويميزه في الحس من سائر التصورات الدخيلة . .
إن السياق - فيما سبق - يستعرض موكب الحياة , بل موكب الوجود كله . ثم يتحدث عن الأرض - في معرض آلاء الله على الناس - فيقرر أن الله خلق كل ما فيها لهم . . فهنا في هذا الجو تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض , ومنحه مقاليدها , على عهد من الله وشرط , وإعطائه المعرفة التي يعالج بها هذه الخلافة . كما أنها تمهد للحديث عن استخلاف بني إسرائيل في الأرض بعهد من الله ; ثم عزلهم عن هذه الخلافة وتسليم مقاليدها للأمة المسلمة الوافية بعهد الله [ كما سيجيء ] فتتسق القصة مع الجو الذي تساق فيه كل الاتساق .
فلنعش لحظات مع قصة البشرية الأولى وما وراءها من إيحاءات أصيلة:
ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات الاستشراف - في ساحة الملأ الأعلى ; وها نحن أولاء نسمع ونرى قصة البشرية الأولى:
(وإذ قال ربك للملائكة:إني جاعل في الأرض خليفة). .
وإذن فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود , زمام هذه الأرض , وتطلق فيها يده , وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين , والتحليل والتركيب , والتحوير والتبديل ; وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات , وكنوز وخامات , وتسخير هذا كله - بإذن الله - في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه .
وإذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة , والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الأرض من قوى وطاقات , وكنوز وخامات ; ووهب من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية .
وإذن فهنالك وحدة أو تناسق بين النواميس التي تحكم الأرض - وتحكم الكون كله - والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته , كي لا يقع التصادم بين هذه النواميس وتلك ; وكي لا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون الضخمة !
وإذن فهي منزلة عظيمة , منزلة هذا الإنسان , في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة . وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم .
هذا كله بعض إيحاء التعبير العلوي الجليل: (إني جاعل في الأرض خليفة). . حين نتملاه اليوم بالحس اليقظ والبصيرة المفتوحة , ورؤية ما تم في الأرض على يد هذا الكائن المستخلف في هذا الملك العريض !
(قالوا:أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء , ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ?). .
ويوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من شواهد الحال , أو من تجارب سابقة في الأرض , أو من إلهام البصيرة , ما يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق , أو من مقتضيات حياته على الأرض ; وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الأرض , وأنه سيسفك الدماء . . ثم هم - بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق , وإلا السلام الشامل - يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له , هو وحده الغاية المطلقة للوجود , وهو وحده العلة الأولى للخلق . . وهو متحقق بوجودهم هم , يسبحون بحمد الله ويقدسون له ,ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته !
لقد خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا , في بناء هذه الأرض وعمارتها , وفي تنمية الحياة وتنويعها , وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها , على يد خليفة الله في أرضه . هذا الذي قد يفسد أحيانا , وقد يسفك الدماء أحيانا , ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل . خير النمو الدائم , والرقي الدائم . خير الحركة الهادمة البانية . خير المحاولة التي لا تكف , والتطلع الذي لا يقف , والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير .
عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء , والخبير بمصائر الأمور:
(قال:إني أعلم ما لا تعلمون). .
(وعلم آدم الأسماء كلها , ثم عرضهم على الملائكة , فقال:أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . قالوا:سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا . إنك أنت العليم الحكيم . قال:يا آدم أنبئهم بأسمائهم . فلما أنبأهم بأسمائهم , قال:ألم أقل لكم:إني أعلم غيب السماوات والأرض , وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون). .
ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات الاستشراف - نشهد ما شهده الملائكة في الملأ الأعلى . . ها نحن أولاء نشهد طرفا من ذلك السر الإلهي العظيم الذي أودعه الله هذا الكائن البشري , وهو يسلمه مقاليد الخلافة . سر القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات . سر القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها - وهي ألفاظ منطوقة - رموزا لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة . وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض . ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى , لو لم يوهب الإنسان القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات , والمشقة في التفاهم والتعامل , حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع الآخرين على شيء أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه . . الشأن شأن نخلة فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا باستحضار جسم النخلة ! الشأن شأن جبل . فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بالذهاب إلى الجبل ! الشأن شأن فرد من الناس فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بتحضير هذا الفرد من الناس . . . إنها مشقة هائلة لا تتصور معها حياة ! وإن الحياة ما كانت لتمضي في طريقها لو لم يودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات .
فأما الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية , لأنها لا ضرورة لها في وظيفتهم . ومن ثم لم توهب لهم . فلما علم الله آدم هذا السر , وعرض عليهم ما عرض لم يعرفوا الأسماء . لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظية للأشياء والشخوص . . وجهروا أمام هذا العجز بتسبيح ربهم , والاعتراف بعجزهم , والإقرار بحدود علمهم , وهو ما علمهم . . وعرف آدم . . ثم كان هذا التعقيب الذي يردهم إلى إدراك حكمة العليم الحكيم:
(قال:ألم أقل لكم:إني أعلم غيب السماوات والأرض , وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ?). .
(وإذ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم . فسجدوا). .
إنه التكريم في أعلى صوره , لهذا المخلوق الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء , ولكنه وهب من الأسرار ما يرفعه على الملائكة . لقد وهب سر المعرفة , كما وهب سر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق . . إن ازدواج طبيعته , وقدرته على تحكيم إرادته في شق طريقه , واضطلاعه بأمانة الهداية إلى الله بمحاولته الخاصة . . إن هذا كله بعض أسرار تكريمه .
ولقد سجد الملائكة امتثالا للأمر العلوي الجليل .
(إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين). .
وهنا تتبدى خليقة الشر مجسمة:عصيان الجليل سبحانه ! والاستكبار عن معرفة الفضل لأهله . والعزة بالإثم . والاستغلاق عن الفهم .
ويوحي السياق أن إبليس لم يكن من جنس الملائكة , إنما كان معهم . فلو كان منهم ما عصى . وصفتهم الأولى أنهم (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون). . والاستثناء هنا لا يدل على أنه من جنسهم , فكونه معهم يجيز هذا الاستثناء , كما تقول:جاء بنو فلان إلا أحمد . وليس منهم إنما هو عشيرهم وإبليس من الجن بنص القرآن , والله خلق الجان من مارج من نار . وهذا يقطع بأنه ليس من الملائكة .
والآن . لقد انكشف ميدان المعركة الخالدة . المعركة بين خليقة الشر في إبليس , وخليفة الله في الأرض . المعركة الخالدة في ضمير الإنسان . المعركة التي ينتصر فيها الخير بمقدار ما يستعصم الإنسان بإرادته وعهده مع ربه , وينتصر فيها الشر بمقدار ما يستسلم الإنسان لشهوته . ويبعد عن ربه:
(وقلنا:يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة , وكلا منها رغدا حيث شئتما , ولا تقربا هذه الشجرة , فتكونا من الظالمين). .
لقد أبيحت لهما كل ثمار الجنة . . إلا شجرة . . شجرة واحدة , ربما كانت ترمز للمحظور الذي لا بد منه في حياة الأرض . فبغير محظور لا تنبت الإرادة , ولا يتميز الإنسان المريد من الحيوان المسوق , ولا يمتحن صبر الإنسان على الوفاء بالعهد والتقيد بالشرط . فالإرادة هي مفرق الطريق . والذين يستمتعون بلا إرادة هم من عالم البهيمة , ولو بدوا في شكل الآدميين !
(فأزلهما الشيطان عنها , فأخرجهما مما كانا فيه). .
ويا للتعبير المصور أزلهما). . إنه لفظ يرسم صورة الحركة التي يعبر عنها . وإنك لتكاد تلمح الشيطان وهو يزحزحهما عن الجنة , ويدفع بأقدامهما فتزل وتهوي !
عندئذ تمت التجربة:نسي آدم عهده , وضعف أمام الغواية . وعندئذ حقت كلمة الله , وصرح قضاؤه:
(وقلنا:اهبطوا . . بعضكم لبعض عدو , ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين). .
وكان هذا إيذانا بانطلاق المعركة في مجالها المقدر لها . بين الشيطان والإنسان . إلى آخر الزمان .
ونهض آدم من عثرته , بما ركب في فطرته , وأدركته رحمة ربه التي تدركه دائما عندما يثوب إليها ويلوذ بها .
(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه , إنه هو التواب الرحيم). .
وتمت كلمة الله الأخيرة , وعهده الدائم مع آدم وذريته . عهد الاستخلاف في هذه الأرض , وشرط الفلاح فيها أو البوار .
(قلنا:اهبطوا منها جميعا . فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). .
وانتقلت المعركة الخالدة إلى ميدانها الأصيل , وانطلقت من عقالها ما تهدأ لحظة وما تفتر . وعرف الإنسان في فجر البشرية كيف ينتصر إذا شاء الانتصار , وكيف ينكسر إذا اختار لنفسه الخسار . . .
لقد قال الله تعالى للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة). . وإذن فآدم مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى . ففيم إذن كانت تلك الشجرة المحرمة ? وفيم إذن كان بلاء آدم ? وفيم إذن كان الهبوط إلى الأرض , وهو مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى ?
لعلني المح أن هذه التجربة كانت تربية لهذا الخليفة وإعدادا . كانت إيقاظا للقوى المذخورة في كيانه . كانت تدريبا له على تلقي الغواية , وتذوق العاقبة , وتجرع الندامة , ومعرفة العدو , والالتجاء بعد ذلك إلى الملاذ الأمين .
إن قصة الشجرة المحرمة , ووسوسة الشيطان باللذة , ونسيان العهد بالمعصية , والصحوة من بعد السكرة , والندم وطلب المغفرة . . إنها هي هي تجربة البشرية المتجددة المكرورة !
لقد اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق أن يهبط إلى مقر خلافته , مزودا بهذه التجربة التي سيتعرض لمثلها طويلا , استعدادا للمعركة الدائبة وموعظة وتحذيرا . .
وبعد . . مرة أخرى . . فأين كان هذا الذي كان ? وما الجنة التي عاش فيها آدم وزوجه حينا من الزمان ? ومن هم الملائكة ? ومن هو إبليس ? . . كيف قال الله تعالى لهم ? وكيف أجابوه ? . . .
هذا وأمثاله في القرآن الكريم غيب من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه ; وعلم بحكمته أن لا جدوى للبشر في معرفة كنهه وطبيعته , فلم يهب لهم القدرة على إدراكه والإحاطة به , بالأداة التي وهبهم إياها لخلافة الأرض , وليس من مستلزمات الخلافة أن نطلع على هذا الغيب . وبقدر ما سخر الله للإنسان من النواميس الكونية وعرفه بأسرارها , بقدر ما حجب عنه أسرار الغيب , فيما لا جدوى له في معرفته . وما يزال الإنسان مثلا على الرغم من كل ما فتح له من الأسرار الكونية يجهل ما وراء اللحظة الحاضرة جهلا مطلقا , ولا يملك بأي أداة من أدوات المعرفة المتاحة له أن يعرف ماذا سيحدث له بعد لحظة , وهل النفس الذي خرج من فمه عائد أم هو آخر أنفاسه ? وهذا مثل من الغيب المحجوب عن البشر , لأنه لا يدخل في مقتضيات الخلافة , بل ربما كان معوقا لها لو كشف للإنسان عنه ! وهنالك الوان من مثل هذه الأسرار المحجوبة عن الإنسان , في طي الغيب الذي لا يعلمه إلا الله .
ومن ثم لم يعد للعقل البشري أن يخوض فيه , لأنه لا يملك الوسيلة للوصول إلى شيء من أمره . وكل جهد يبذل في هذه المحاولة هو جهد ضائع , ذاهب سدى , بلا ثمرة ولا جدوى .
وإذا كان العقل البشري لم يوهب الوسيلة للاطلاع على هذا الغيب المحجوب ; فليس سبيله إذن أن يتبجح فينكر . . فالإنكار حكم يحتاج إلى المعرفة . والمعرفة هنا ليست من طبيعة العقل , وليست في طوق وسائله , ولا هي ضرورية له في وظيفته !
|
|
|
|
|
|
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
08-10-2022
|
#24
|
تابع – سورة البقرة
إن الاستسلام للوهم والخرافة شديد الضرر بالغ الخطورة . ولكن أضر منه وأخطر , التنكر للمجهول كله وإنكاره , واستبعاد الغيب لمجرد عدم القدرة على الإحاطة به . . إنها تكون نكسة إلى عالم الحيوان الذي يعيش في المحسوس وحده , ولا ينفذ من أسواره إلى الوجود الطليق .
فلندع هذا الغيب إذن لصاحبه , وحسبنا ما يقص لنا عنه , بالقدر الذي يصلح لنا في حياتنا , ويصلح سرائرنا ومعاشنا . ولنأخذ من القصة ما تشير إليه من حقائق كونية وإنسانية , ومن تصور للوجود وارتباطاته , ومن إيحاء بطبيعة الإنسان وقيمه وموازينه . . فذلك وحده أنفع للبشرية وأهدى .
وفي اختصار يناسب ظلال القرآن سنحاول أن نمر بهذه الإيحاءات والتصورات والحقائق مرورا مجملا سريعا .
إن أبرز إيحاءات قصة آدم - كما وردت في هذا الموضع - هو القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان ولدوره في الأرض , ولمكانه في نظام الوجود , وللقيم التي يوزن بها . ثم لحقيقة ارتباطه بعهد الله , وحقيقة هذا العهد الذي قامت خلافته على أساسه . .
وتتبدى تلك القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان في الإعلان العلوي الجليل في الملأ الأعلى الكريم , أنه مخلوق ليكون خليفة في الأرض ; كما تتبدى في أمر الملائكة بالسجود له . وفي طرد إبليس الذي استكبر وأبى , وفي رعاية الله له أولا وأخيرا . .
ومن هذه النظرة للإنسان تنبثق جملة اعتبارات ذات قيمة كبيرة في عالم التصور وفي عالم الواقع على السواء .
وأول اعتبار من هذه الاعتبارات هو أن الإنسان سيد هذه الأرض , ومن أجله خلق كل شيء فيها - كما تقدم ذلك نصا - فهو إذن أعز وأكرم وأغلى من كل شيء مادي , ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعا . ولا يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادية أو شيء مادي . . لا يجوز أن يعتدي على أي مقوم من مقومات إنسانيته الكريمة , ولا أن تهدر أية قيمة من قيمه لقاء تحقيق أي كسب مادي , أو إنتاج أي شيء مادي , أو تكثير أي عنصر مادي . . فهذه الماديات كلها مخلوقة - أو مصنوعة - من أجله . من أجل تحقيق إنسانيته . من أجل تقريروجوده الإنساني . فلا يجوز إذن أن يكون ثمنها هو سلب قيمة من قيمه الإنسانية , أو نقص مقوم من مقومات كرامته .
والاعتبار الثاني هو أن دور الإنسان في الأرض هو الدور الأول . فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها ; وهو الذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها . وليست وسائل الإنتاج ولا توزيع الإنتاج , هي التي تقود الإنسان وراءها ذليلا سلبيا كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر من دور الإنسان وتصغر , بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر !
[/ce
إن النظرة القرآنية تجعل هذا الإنسان بخلافته في الأرض , عاملا مهما في نظام الكون , ملحوظا في هذا النظام . فخلافته في الأرض تتعلق بارتباطات شتى مع السماوات ومع الرياح ومع الأمطار , ومع الشموس والكواكب . . وكلها ملحوظ في تصميمها وهندستها إمكان قيام الحياة على الأرض , وإمكان قيام هذا الإنسان بالخلافة . . فأين هذا المكان الملحوظ من ذلك الدور الذليل الصغير الذي تخصصه له المذاهب المادية , ولا تسمح له أن يتعداه ? !
وما من شك أن كلا من نظرة الإسلام هذه ونظرة المادية للإنسان تؤثر في طبيعة النظام الذي تقيمه هذه وتلك للإنسان ; وطبيعة احترام المقومات الإنسانية أو إهدارها ; وطبيعة تكريم هذا الإنسان أو تحقيره . . وليس ما نراه في العالم المادي من إهدار كل حريات الإنسان وحرماته ومقوماته في سبيل توفير الإنتاج المادي وتكثيره , إلا أثرا من آثار تلك النظرة إلى حقيقة الإنسان , وحقيقة دوره في هذه الأرض !
كذلك ينشأ عن نظرة الإسلام الرفيعة إلى حقيقة الإنسان ووظيفته إعلاء القيم الأدبية في وزنه وتقديره , وإعلاء قيمة الفضائل الخلقية , وتكبير قيم الإيمان والصلاح والإخلاص في حياته . فهذه هي القيم التي يقوم عليها عهد استخلافه: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . . .)وهذه القيم أعلى وأكرم من جميع القيم المادية - هذا مع أن من مفهوم الخلافة تحقيق هذه القيم المادية , ولكن بحيث لاتصبح هي الأصل ولا تطغى على تلك القيم العليا - ولهذا وزنه في توجيه القلب البشري إلى الطهارة والارتفاع والنظافة في حياته . بخلاف ما توحيه المذاهب المادية من استهزاء بكل القيم الروحية , وإهدار لكل القيم الأدبية , في سبيل الاهتمام المجرد بالإنتاج والسلع ومطالب البطون كالحيوان !
وفي التصور الإسلامي اعلاء من شأن الإرادة في الإنسان فهي مناط العهد مع الله , وهي مناط التكليف والجزاء . . إنه يملك الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم إرادته , وعدم الخضوع لشهواته , والاستعلاء على الغواية التي توجه إليه . بينما يملك أن يشقي نفسه ويهبط من عليائه , بتغليب الشهوة على الإرادة , والغواية على الهداية , ونسيان العهد الذي يرفعه إلى مولاه . وفي هذا مظهر من مظاهر التكريم لا شك فيه , يضاف إلى عناصر التكريم الأخرى . كما أن فيه تذكيرا دائما بمفرق الطريق بين السعادة والشقاوة , والرفعة والهبوط , ومقام الإنسان المريد ودرك الحيوان المسوق !
وفي أحداث المعركة التي تصورها القصة بين الإنسان والشيطان مذكر دائم بطبيعة المعركة . إنها بين عهد الله وغواية الشيطان بين الإيمان والكفر . بين الحق والباطل . بين الهدى والضلال . . والإنسان هو نفسه ميدان المعركة . وهو نفسه الكاسب أو الخاسر فيها . وفي هذا إيحاء دائم له باليقظة ; وتوجيه دائم له بأنه جندي في ميدان ; وأنه هو صاحب الغنيمة أو السلب في هذا الميدان !
وأخيرا تجيء فكرة الإسلام عن الخطيئة والتوبة . . إن الخطيئة فردية والتوبة فردية . في تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض . . ليست هنالك خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده - كما تقول نظرية الكنيسة - وليس هنالك تكفير لاهوتي , كالذي تقول الكنيسة إن عيسى - عليه السلام - [ ابن الله بزعمهم ] قام به بصلبه , تخليصا لبني آدم من خطيئة آدم ! . . كلا ! خطيئة آدم كانت خطيئته الشخصية , والخلاص منها كان بالتوبة المباشرة في يسر وبساطة . وخطيئة كل ولد من أولاده خطيئة كذلك شخصية , والطريق مفتوح للتوبة في يسر وبساطة . . تصور مريح صريح . يحمل كل إنسان وزره , ويوحي إلى كل إنسان بالجهد والمحاولة وعدم اليأس والقنوط . . (إن الله تواب رحيم). .
هذا طرف من إيحاءات قصة آدم - في هذا الموضع - نكتفي به في ظلال القرآن . وهو وحده ثروة من الحقائق والتصورات القويمة ; وثروة من الإيحاءات والتوجيهات الكريمة ; وثروة من الأسس التي يقوم عليها تصور اجتماعي وأوضاع اجتماعية , يحكمها الخلق والخير والفضيلة . ومن هذا الطرف نستطيع أن ندرك أهمية القصص القرآني في تركيز قواعد التصور الإسلامي ; وإيضاح القيم التي يرتكز عليها . وهي القيم التي تليق بعالم صادر عن الله , متجه إلى الله , صائر إلى الله في نهاية المطاف . . عقد الاستخلاف فيه قائم على تلقي الهدى من الله , والتقيد بمنهجه في الحياة . ومفرق الطريق فيه أن يسمع الإنسان ويطيع لما يتلقاه من الله , أو أن يسمع الإنسان ويطيع لما يمليه عليه الشيطان . وليس هناك طريق ثالث . . إما الله وإما الشيطان . إما الهدى وإما الضلال . إما الحق وإما الباطل . إما الفلاح وإما الخسران . . وهذه الحقيقة هي التي يعبر عنها القرآن كله , بوصفها الحقيقة الأولى , التي تقوم عليها سائر التصورات , وسائر الأوضاع في عالم الإنسان .
( يتبع - سورة ال عمران )
|
|
|
|
|
|
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
|
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 02:08 PM
| | | | | |