أخلاق العرب قبل الإسلام: عروة بن الورد (من أجواد العرب
أخلاق العرب قبل الإسلام
عروة بن الورد (من أجواد العرب)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أمَّا بعد:
فقد قلت لصاحبي:
هلمَّ نتابع الحديث عن الأجواد والمؤْثِرين في العرب قبل الإسلام.
قال صاحبي: على شريطة ألَّا تُفرِطَ في الإعجاب بهم، وألَّا تذهب في مدحهم المذاهب.
قلت: لك ذلك، وسأدَعُ لك أنت التعليق على ما أذكره، ولك الحريَّة في أن تُبديَ إعجابك أو أن تُظهر سخطك مما تسمع.
قال صاحبي: أنا معك ما دمتَ على ذلك.
قلت لصاحبي: قد حدَّثتك في اللقاء الماضي عن قصة الغلام اليتيم الذي شهد له حاتم الطَّائي بأنه أكرم منه، واليوم أواصل ما بدأته فأقول:
من أراد أن يتتبع الكرماء في العرب فلن يُعييَه تطلُّبهم، فالأجواد والكرماء أكثر من أن يحصيَهم العدُّ، ولا تحسبنَّ أنه ساقني إلى هذه الأحاديث حب الحصر، أو التأريخ لحقبة من الزمان، وإنما ساقني إليها الإعجاب بهؤلاء القوم.
فقاطعني صاحبي قائلًا: أعي ذلك جيدًا، وقد ذكرتَه في محاضرتك الأولى، فلا حاجة لإعادته هنا.
قلت: صدقت، فهلُمَّ نستأنف الحديث.
وليكن أول من نبدأ به (أبا الصَّعاليك).
قال لي صاحبي: على رِسلك، من هم الصعاليك؟ ومن أبوهم؟
قلت: يا سيدي، الصعاليك قوم من العرب خلعهم قومهم لخروجهم على تقاليد قبائلهم وعاداتها، فتبرَّأ منهم قومهم، وأشاعوا بين الناس براءتهم منهم، وأنهم لا يُسألون عن أفعالهم، ولا يُطالِبون بدمائهم إن قُتلوا.
قال لي صاحبي: ومن أبوهم؟
قلت: هو عروة بن الورد.
قال: الشاعر الذائع الصيت؟
قلت: نعم.
قال صاحبي: وماذا كان من خبره؟
قلت: سأنبئك بخبره، فأعِرني سمعك.
قال صاحبي: كلِّي آذان مصغية.
ثم استقبلت الحديث أسوقه، فقلت:
كان مِن شأن عروة بن الورد أنه كان إذا أصاب الناس شدة، وخرجوا للغزو، وتركوا في ديارهم المريض والكهل المُسِنَّ، والعاجز الواهن، يقوم فيجمعهم ثم يبني لهم خيمة كبيرة، فيداوي مرضاهم، ويكسو فقيرهم، ويُطعم جائعهم، فإذا شُفيَ مريضهم، وقويَ ضعيفهم، غزا بهم، فما غنموه من غنيمة اقتسموه بينهم، ويجعل لغير القادرين على الغزو ممن تركه في الخيمة نصيبًا من الغنيمة، وكان يؤثر غيره على نفسه في القِسمة، فيرجع غيره موفور الحظ من الغنيمة، ويرجع هو بأقل القليل منها.
ولقد ذاع خبر عروة، وامتدَّ عبر الأجيال حتى شهد له عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي، فقال: "مَن قال: إن حاتم الطائي أسمح من عروة - فقد ظلم عروة".
وقال أيضًا: "ما أُحب أنَّ أحدًا ممن لم يلدني قد ولدني إلا عروة بن الورد".
وقال عنه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: "لو أنَّ لعروة أبناء لأحببتُ أن أُنكح إليهم".
قال صاحبي: لقد شوَّقتني للحديث عن عروة، حتى إني أتمنَّى أن تسرد الحديث سردًا خوفًا من نهاية المجلس.
قلت: لا تخف، فلن أقطع الحديث قبل أن أُشبع نَهْمَتَك من الكلام حول عروة بن الورد، فاطمئنَّ وقرَّ عينًا.
كان مِن كرم عروة أنَّه كان يقول:
وإنِّي امرؤٌ عافي إنائي شِركةٌ
وأنت امرؤ عافي إنائِكَ واحدُ
أُقَسِّم جسمي في جسوم كثيرةٍ
وأحسو قَراح الماء والماء باردُ
يريد عروة أن يقول: إن من يأتي للأكل من طعامه (شركة)؛ أي: عدد كبير، ثم هو يضيف إلى هذا الوصف وصفًا آخر أجملَ وأفضلَ، وهو قوله: (أقَسِّم جسمي)، وانظر إلى جمال التعبير في تقسيم الجسم في جسوم كثيرة، إنه يجعل جسمه كأنَّه شيءٌ يُقسَّم، فهو يُقسمه في جسوم كثيرة.
أرأيت معي يا صاحبي جمال نفسه، وحلاوة كرمه؟
قال صاحبي: أجل، رأيتُ ذلك وأعجبني تحليلك لأبياته، لكن الوقت يمرُّ سريعًا فهلمَّ ألقِ عليَّ من أخباره ما يُشبع نهمتي إلى معرفته.
قلت: على الرحب والسعة.
كان عروة يقول:
فِراشي فِراش الضيف والبيت بيته
ولم يُلهني عنه غزال مُقنَّعُ
أحدِّثه إن الحديث من القِرى
وتعلم نفسي أنه سوف يهجعُ
أسَرَ عروةُ امرأة في بعض غزواته، فتزوجها عن رضًا منها، ورأت من شمائله ونُبل أخلاقه ما حبَّبه إليها، إلا أنها كان يؤذيها تلقيب قومه لها بـ"سبية عروة"، وهي الحُرَّة الكريمة بنت الكرام، فاحتالت عليه رغم حبها له، حتى سمح لها بأن تحُجَّ معه، فلما تيقنت من خروجه بها أرسلت إلى قومها ليأتوا المدينة، ويلقَوا عروة، ويطلبوا منه أن يفدوها بما شاء من مال، وأخبرتهم بأنَّه سيوافق؛ لأنه على يقين من حبها له.
ولما أتى عروة المدينة سقَوه خمرًا حتى لعِبت الخمر برأسه، ثم طلبوا منه مفاداتها، فواعدهم الغد، فلما كان الغد جاؤوا لمفاداتها، فأنكر أن يكون قد وعدهم بمفاداتها، فشهد من كان هنالك بأنَّه قد وعدهم بذلك.
فأجابهم قائلًا: خيِّروها، فإن اختارتكم فهي لكم، فاختارتهم.
لكنها قالت: يا عروة، أما إني أقول فيك - وإن فارقتك – الحقَّ، والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعلٍ خيرٍ منك، وأغضَّ طرفًا وأقل فُحشًا، وأجود يدًا، وأحمى لحقيقة، وما مر عليَّ يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إليَّ من الحياة بين قومك؛ لأني لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول: "قالت أمة عروة كذا وكذا"، إلا سمعته، ووالله لا أنظر في وجه غطفانية أبدًا، فارجع راشدًا إلى ولدك وأحسِنْ إليهم.
هذا ثناء امرأته عليه، رغم أنها كانت أسيرة عنده، إلا أن شخصيته العظيمة جعلتها لا تملك إلا أن تُبديَ الإعجاب بهذه الشخصية الآسِرَة.
ولقد ذاع هذا الثناء في العرب حتى سارت به الرُّكبان.
ولقد تزوجت المرأة بعد أن عادت إلى ديار قومها من ابن عمٍّ لها، وعاشت معه مدَّة من الزمان ثم طلب منها أن تثنيَ عليه كما أثنت على عروة، فأخبرته أنها لا تقول سوى الحق، وأنها لن تكذب، لذا فمن الأفضل ألَّا تقول فيه شيئًا.
فصمَّم على ذلك وجمع القوم، ليسمعوا ثناء سلمى عليه، فإذا بها تقول: "أنعموا صباحًا، إن هذا عزم عليَّ أن أثنيَ عليه بما أعلم.
ثم أقبلت عليه، فقالت: والله إن شملتك لالتحاف، وإن شُربك لاشتفاف، وإنك لتنام ليلة تخاف، وتشبع ليلة تضاف، وما تُرضي الأهل ولا الجانب.
فلامه القوم على ذلك.
هكذا كان عروة، فهل أعجبك شأنه؟
قال صاحبي: نعم، لكنه قطعنا عن حديث الجود والكرم، فهل تُراك ستترك الحديث عن الجود والكرم، أو ستواصل الحديث عنهما؟
قلت: لك ما أحببت.
قال: أحب أن تُواصِلَ الحديث في اللقاء القادم عن الجود والكرم عند العرب قبل الإسلام.
قلت: لك ذلك.
ثم انصرفت مودِّعًا صاحبي، على وعد بلقاء مع الكرماء في اللقاء القادم.