تفسير سورة الأنعام الآيات (44: 47)
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الأنعام: 44 - 47].
﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون ﴾ [سورة الأنعام:44].
﴿ فَلَمَّا نَسُواْ ﴾ تَرَكُوا ﴿ مَا ذُكِّرُواْ ﴾ وعِظُوا وخُوِّفُوا[1] ﴿ بِهِ ﴾ مِنَ البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ فَلَمْ يَتَّعِظُوا[2] ﴿ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي: فَتَحْنَا عَلَيهِمْ أَبْوابًا مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعَمِ كَالصِّحَّةِ والسِّعَةِ وَرَاحَةِ الْبَالِ وَالْأمْنِ وَالرِّزقِ اسْتِدْراجًا لَهُمْ[3]، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُون * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين ﴾[سورة القلم:44- 4٥][4].
﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ ﴾ فَرِحَ: بَطَرَ وَأَشرَ، كَمَا فَرِحَ قَارونُ لَمَّا أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيا[5] ﴿ أَخَذْنَاهُم ﴾ بِالعَذابِ ﴿ بَغْتَةً ﴾ فَجْأَةً.
﴿ فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون ﴾ آيِسُونَ مُنْقَطِعُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ[6].
وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أحْمَدُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأيْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيا عَلى مَعاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإنَّما هُوَ اسْتِدْراجٌ، ثُمَّ تَلا قَوْلَهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون ﴾ [سورة الأنعام:44]»[7] ، قَالَ الْحَسَنُ: مَكَرَ بِالْقَوْمِ ورَبِّ الْكَعْبَةِ، أُعْطُوا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ أُخِذُوا[8].
يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: "وقالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا رَأيْتَ اللَّهَ يُتابِعُ عَلَيْكَ نِعَمَهُ وأنْتَ مُقِيمٌ عَلى مَعاصِيهِ فَاحْذَرْهُ، فَإنَّمَا هُوَ اسْتِدْراجٌ مِنهُ يَسْتَدْرِجُكَ بِهِ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُون * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُون * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِين ﴾ [سورة الزخرف:33-35].
وَقَدْ رَدَّ سُبْحَانَهُ عَلى مَنْ يَظُنُّ هَذَا الظَّنَّ بِقَوْلِهِ: ﴿ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَن * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن * كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيم ﴾[سورة الفجر:١٥-١٧] أيْ: لَيْسَ كُلُّ مَنْ نَعَّمْتُهُ ووَسَّعْتُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أَكُونُ قَدْ أكْرَمْتُهُ، ولَيْسَ كُلُّ مَنِ ابْتَلَيْتُهُ وضَيَّقْتُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أكُونُ قَدْ أهَنْتُهُ، بَلْ أبْتَلِي هَذا بِالنِّعَمِ، وأُكْرِمُ هَذَا بِالِابْتِلاءِ"[9].
﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين ﴾[سورة الأنعام:45].
﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ بِأَنْ اُسْتُؤْصِلُوا جَمِيعًا[10].
﴿ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين ﴾ أيْ: عَلى هَلاكِهِمْ[11].
قالَ الشَّوكَانِي رَحِمَهُ اللهُ: "وفِيهِ تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ يَحْمَدُونَهُ سُبْحانَهُ عِنْدَ نُزُولِ النِّعَمِ الَّتِي مِن أجَلِّها هَلاكُ الظَّلَمَةِ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ ولا يُصْلِحُونَ، فَإنَّهم أشَدُّ عَلى عِبادِ اللَّهِ مِن كُلِّ شَدِيدٍ، اللَّهُمَّ أرِحْ عِبادَكَ المُؤْمِنِينَ مِنْ ظُلْمِ الظّالِمِينَ، واقْطَعْ دابِرَهُمْ، وأبْدِلْهُمْ بِالعَدْلِ الشَّامِلِ لَهُمْ"[12].
*
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُون ﴾ [سورة الأنعام:46].
﴿ قُلْ ﴾ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ: ﴿ أَرَأَيْتُمْ ﴾ أخْبِرُونِي ﴿ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ ﴾ أَصَمَّكُمْ ﴿ وَأَبْصَارَكُمْ ﴾ أعْماكُمْ[13] ﴿ وَخَتَمَ ﴾ طَبَعَ[14] ﴿ عَلَى قُلُوبِكُم ﴾ فَلا تَفْقَهُونَ شَيْئًا[15].
﴿ مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ ﴾ بِذَلِكَ الْمَأْخُوذِ مِنْكُمْ[16].
﴿ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ﴾ أي: نُبَيِّنُ لَهُمْ وَنُنوِّعُ[17] ﴿ الآيَاتِ ﴾ الدَّلَالَاتِ وَالْحُجَجَ وَالبراهينَ، فَنَجْعَلُهَا عَلَى وُجُوهٍ شتَّى؛ لِيَتَّعِظُوا وَيَعْتَبِرُوا[18].
﴿ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُون ﴾ يُعْرِضُونَ عَنْها فَلَا يُؤْمِنُونَ[19]، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُون ﴾ [سورة يونس:101].
﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُون ﴾ [سورة الأنعام:47].
﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً ﴾ فَجَأْةً مِنْ غَيْرِ مُقَدِّمَةٍ[20]، كَمَا لَو أَتَى الْعَذَابُ وَهُمْ نَيامٌ وَالْعِياذُ بِاللهِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُون ﴾ [سورة الأعراف:4]، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُون ﴾ [سورة الأعراف:97].
﴿ أَوْ جَهْرَةً ﴾ ظَاهِرًا عَيانًا[21]، بَعدَ ظُهورِ مُقَدِّمَاتٍ وَأَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَيهِ[22].
﴿ هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُون ﴾ الْاسْتِفْهَامُ في قَولِهِ: ﴿ يُهْلَكُ ﴾ بِمَعْنَى النَّفِي، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ النَّفِي الْمُجَرَّدِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ النَّفِيَ وَالتَّحَدِّي[23]، وَالْمَعْنَى: مَا يُهْلَكُ إِلَّا الْقَومُ الظَّالِمُونَ الَّذِينَ تَجَاوزُوا الْحَدَّ، بِصَرْفِهِمُ الْعِبَادَةَ إِلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا[24].