عباد الله: (اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، وراقبوه في السر والعلن، واعلموا أنه يعلم سركم ونجواكم.
أيها المؤمنون: إن المراقبة لله -جل وعلا- من أعظم مقامات الدين.
والمراقبة هي دوام علم العبد بأن الله يراه، وأنه يعلم سره ونجواه، وأن لا يخفى عليه شيء من أمره، قال الله -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، وقال: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا)[الأحزاب: 52]، وقال جل وعلا: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[المجادلة: 7]، وقال: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[الأنعام: 59]، وقال: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[المجادلة:1 ].
إذا راقب المسلم ربه استقامت أموره، وصلحت أحواله.
ومن أعظم الثمرات -يا عباد الله- للمراقبة: أداء العبادة وإتقانها، “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” يؤدي الواجبات التي أمره الله بها وأمره رسوله -صلى الله عليه وسلم- بها.
إذا سمع الداعي إلى الصلاة ترك الدنيا كلها وذهب إلى بيت الله.
إذا وقف في الصلاة علم أنه يقف بين يدي علام الغيوب، وخشع قلبه، ويستحضر الآيات التي يتلوها أو يسمعها من الإمام.
يؤدي زكاة ماله، يقوم بجميع الواجبات التي أمره الله بها، يبر والديه، يؤدي حقوق الخلق؛ لأنه يعلم بأن الله مطلع عليه، ويراه، ويعلم سره ونجواه.
ومن ثمراتها -يا عباد الله-: صلاح السريرة، ترك الذنوب والمعاصي إذا خلا الإنسان وغاب عن أعين البشر علم بأن الله يراهن وأن الله رقيب عليه، وإن سافر هنا أو هناك وإن أغلق على نفسه الباب، فيعلم بأن الله يراه: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)[غافر: 19] فيترك النظر المحرم والكلام المحرم، لا يرى إلا ما يحبه الله، ولا يتكلم إلا بما يحبه الله، لا يطلق بصره بالمحرمات وبالصور الإباحية.
وقد بُلينا في هذا الزمان عبر هذه الوسائل التي هي من نعم الله لمن استغلها في طاعة الله، لمن استغلها في الدعوة إلى الله، في نشر الخير وإيصال الخير للغير.
لكن أقول -بكل أسى وأسف-: من الناس من أطلق بصره إلى هذه الصور المحرمة الماجنة، ينظر ما حرمه الله، ولو دخل عليه شخص لارتعدت فرائصه، لو دخل عليه بشر مثله ولكن يغلق الباب ويرى تلك الصور المحرمة، وربنا يعلم سره ونجواه، يراه ويسمع كلامه ويقلب بصره في هذه الموقع الإباحية.
والنظرة -يا عباد الله- سهم مسموم من سهام إبليس، النظرة -يا عباد الله- تؤثر على قلب البشر، تمرض قلبه وربما تحرمه من خيرات كثيرة، ربما ينظر الإنسان إلى هذا الخنا والفساد فيختم له -والعياذ بالله- على ذلك، هنا تظهر قوة الإيمان -يا عباد الله-، النفس والشيطان والهوى، هذه كلها تأمرك أن تقع في معصية الله.
وإذا قوي الإيمان وقويت مراقبة الرحمن ترك الإنسان هذه الأمور تعظيما لله وإجلالا لله، تذكروا معي -يا رعاكم الله- حديث ثوبان عندما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ووصف أناس يأتون بأعمال كجبال فيجعلها الله هباءً منثورا، قال ثوبان: جلهم يا رسول الله لنا لا نكون منهم ونحن لا نعلم؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “هم من جلدتكم، ويأخذون من الليل ما تأخذون، غير أنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها“، ولا يعني ذلك -يا عباد الله- أن الإنسان لا يقع في الذنب، فالإنسان سوف يقع في الذنب، كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، وكل أمتي معافى إلا المجاهرين، لكن الشأن فيمن يستهين بعلم الله، الشأن فيمن يستهين بنظر الله إليه ويستمرئ هذا الذنب ويفعل الذنب مرات ومرات.
ولكن المؤمن إذا وقع في الذنب تألم قلبه وعاد إلى رشده وإلى صوابه، وعمل أعمال جليلة من صلاة وصدقة وتوبة صادقة، هذا هو المؤمن، لكن من اتصف بهذه الصفة وهي من صفات المنافقين أنهم يخشون الناس ولا يخشون الله، فعلى الإنسان أن يتق الله في خلواته.
ومن ثمرات المراقبة لله: دخول الجنة -نسأل الله الكريم من فضله-، قال الله: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[الملك: 12]، وقال سبحانه: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)[الرحمن: 46] يخشون الله، ويعلمون بأنه مطلع عليهم، وأنه يعلم سرهم ونجواهم.
فاتقوا الله -يا عباد الله-، وراقبوا الله في حركاتكم وفي سكناتكم وفي أقوالكم، واعلموا أن الله لا يخفى عليه شيء من أمركم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم وسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه أنه هو الغفور الرحيم.
طهر قلبه من الرياء ومن العجب ومن الكبر ومن الحقد ومن الحسد، ومن حب الشر للغير، ومن حب الانتقام والإفساد في الأرض؛ لأنه يعلم بأن الله يراه، وملأ قلبه صدقا وإخلاصا وتوكلا، وإنابة وخشوعا وتعظيما وإجلالا لله -جل في علاه-؛ لأن القلب -يا عباد الله- إذا صلح صلحت سائر الجوارح، وإذا فسد فسدت سائر الجوارح، فيطهر قلبه لأنه يعلم بأن الله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)[غافر: 19]، (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)[طـه: 7].
ما هو الشيء الذي أخفى من السر الأمور التي تكون للعبد في مستقبل أمره لا يعلمها وربنا يعلم ما كان وما سيكون إلى أن تقوم الساعة، يعلم كل شيء، علمه -جل وعلا- أحاط بكل شيء، فيطهر قلبه من سائر الأمراض، ويصلح بذلك سره وعلانيته.
فعلينا بمراقبة الله -جل وعلا-، ونربي الأبناء -أيها الآباء أيها المعلمون أيها المربون- قولوا لأبنائكم: إن الله يرانا، إن الله يسمع كلامنا، إن الله يعلم سرنا ونجوانا، اختبروهم بهذا المعنى.
أيها المربي: اغرس هذا المعنى في قلوب الأبناء، واختبرهم بذلك، واخرج من الفصل وانظر إلى مراقبتهم لله -جل في علاه- لابد أن نربي الأبناء، فالرقيب من البشر يغفل مهما وجهت الأبناء، ومهما وجهت الطلاب، فالرقيب يغفل، لكن ربنا -جل وعلا- أحاط بكل شيء ولا يغفل.
فعلى الإنسان أيضا أن يربي أولاده، وهذا المعنى النبيل أعني المراقبة لله -جل وعلا- إذا غرسناه في نفوس الأبناء، فإنهم سيسعدون في الدنيا والآخرة، ستصلح أحوالهم.