من يكن في الدّنيا ذليلاً وفي الآخرة شريفًا، خير من أن يكون في الدّنيا شريفًا، وفي الآخرة ذليلاً.
ينقل عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: « حقًّا أقول: لم يكن لقمان نبيًّا ».
عن نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: « لم يكن لقمان نبيًّا، ولكن كان عبدًا كثير التّفكّر، حسن اليقين، أحبّ الله فأحبّه، ومنّ عليه بالحكمة، كان نائمًا نصف النّهار، إذ جاءه نداء: يا لقمان! هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض، تحكم بين النّاس بالحقّ؟ فأجاب الصّوت: إن خيّرني ربّي قبلت العافية، ولم أقبل البلاء، وإن عزم علَيَّ فسمعًا وطاعة، فإنّي أعلم أنّه إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني. فقالت الملائكة بصوت لا يراهم. لمَ يا لقمان؟ قال: لأنّ الحكم أشدّ المنازل وآكدها، يغشاه الظّلم من كلّ مكان، إن وُقِيَ فبالحريّ أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة. ومن يكن في الدّنيا ذليلاً، وفي الآخرة شريفًا، خير من أن يكون في الدّنيا شريفًا، وفي الآخرة ذليلاً. ومن يختر الدّنيا على الآخرة، تفته الدّنيا، ولا يصيب الآخرة. فتعجبّت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فأعطي الحكمة، فانتبه يتكلّم بها. ثمّ كان يؤازر داود بحكمته »، فقال له داود (عليه السّلام): طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة وصرفت عنك البلوى. ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ﴾ معناه. وقلنا له اشكر لله تعالى على ما أعطاك من الحكمة ﴿ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾ أي: من يشكر نعمة الله، ونعمة من أنعم عليه، فإنّه إنّما يشكر لنفسه لأنَّ ثواب شكره عائد عليه، ويستحقّ مزيد النّعمة، والزّيادة [6] .
يقول تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [7] .
4- نعمة الإخوّة
قبل الإسلام كان بين الأوس والخزرج حروبًا تطاولت لأكثر من مائة وعشرين سنة، وكانت الأحقاد بين القبيلتَيْن تتناقل من جيل إلى جيل ومن نسل إلى نسل، فقد كانوا يتقاتلون ليلهم ونهارهم وكانت الحروب فيما بينهم لا تهدأ، حتّى بعث الله تعالى رسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فدخلوا في الإسلام وألّف الله بين قلوبهم فزالت تلك الأحقاد، وحلّ مكانها الصّلح والوئام، وأصبحوا بعد العداوة أخوة ببركة الدّين الجديد الإسلام، يقول تعالى: ﴿ ... وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ... ﴾ [8] .
وكان في اليهود رجل يدعى شمّاس بن قيس، وهو شيخ عظيم الكفر شديد الطّعن على المسلمين، مرّ على نفر من الأوس والخزرج وكانوا معًا في مجلس، فلمّا رأى من ألفتهم ومحبّتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الّذي كان بينهم في الجاهليّة، إمتلأ غيظًا وحقدًا، ولم يستطع رؤية الألفة والمحبّة بينهم، فدعا شابًّا من اليهود أن يجلس بينهم ويذكّرهم بما كان بينهم من الحرب في يوم (بعاث) وما تقوّلوا فيه من الأشعار، ففعل، وتكلّم، وذكّرهم بما كان بينهم في أيّام الجاهليّة، فحرّك فيهم العصبيّة القبليّة، فتنازعوا وتواثبوا، حتّى جرح من كلّ قبيلة نفر، عندما وصل الخبر إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، نهض مع جماعة من المهاجرين حتّى جاء مجلسهم، فلمّا رأوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هدأوا وندموا على ما صدر من فعلهم، وأدركوا أنّ نزاعهم من طباع الجاهليّة وكيد الشّيطان، لذلك وضعوا سيوفهم جانبًا وندموا على عملهم [9] فعانق بعضهم بعضًا ثمّ انصرفوا، فنزلت الآية الشّريفة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾ [10] .