قال [شيخنا العلامة، المحقق الفهامة، محقِّق ما اندرس من العلوم بأبدع إحياء، مجلِّي ما انحبس عن الأفهام من العلوم مبتديًا][1]: قال العبد الفقير إلى الله - تعالى - مرعي بن يوسف الحنبلي المقدسي[2]:
الحمد لمن أبدع الكائنات، فهو البديع، رفيع الدرجات، ذي العرش، معلِّم البديع[3]، والصلاة [والسلام][4] على مَن حاكت[5] ألفاظه الدراري، لمَّا حاكتْ[6] نسج زهر الربيع[7]، وعلى آله وأصحابه الذين هم أفصح وأصفح[8]، وأرجح وأجرح[9] في القَول والفعل، والعقل والخطب المنيع، ما خفق جناح النجاح، فلاحَ فلاحُ التقسيم والتنويع.
وبعد:
فهذه فرائد في معرفة أنواع البديع، وفوائد في غاية التَّهذيب والتَّرصيع، مراعيًا في ذلك الاختِصار، وإلى ذلك ميْل نفوس الأخيار، وما كان قصدي من هذا أن أدون اسمي في ديوان المصنِّفين، ولا أن أدرج ذِكْري في طبقات المؤلِّفين، بل القصد رياضة الطبيعة، وامتِحان الجِبِلَّة والقريحة، مع رجاء الغفران، ودعاء الإخوان.
[وأسميته][10] "القول البديع في علم البديع".
اعلم أنَّ البديع إنَّما يبحثُ [فيه][11] عن وجوه تحسين الكلام، بشرط أن يكون بعد رعاية مطابقته لمقتضى الحال، ووضوح الدلالة؛ لأنه إنما يعدُّ محسِّنًا بعد ذلك، وإلاَّ فقد قال الشيخ سعد الدين[12]: الاعتناء بوجوه تحسين الكلام دون رعاية مطابقته لمقتضى الحال، ووضوح الدلالة، بمنزلة "تعليق الدُّرِّ على أعناق الخنازير"[13].
وأنواع البديع كثيرة جدًّا تزيد على المائتين[14]، وهأنا أذكر ما تيسَّر ذكره مع رعاية الاختصار في التمثيل.
وعلم البديع منحصر[15] في فنَّين: لفظي ومعنوي:
فاللفظي: ما تعلَّق تحسينه بالألفاظ[16]، كالجناس ونحوه، والمعنوي: بالمعاني.
والمتعلق باللفظ أنواع، ونبدأ[17] به؛ لأن اللفظ وسيلة إلى المعنى، وحق الوسيلة أن تكون متقدمة.
ومن العجب أن الخليل بن أحمد[18] - واضع علم العروض - ذهب[19] في علم القوافي[20] إلى منع إعادة الكلمة التي فيها الروي في بيت آخر، سواء اتفق المعنى كرَجُلٍ ورَجُلٍ، أم اختلف[21] كثغر الفم، وثغر دار الحرب، وسمَّاه إيطاء[22]، وجعله من عيوب القوافي[23]، وهذا يؤدي إلى سدِّ باب كبير من أبواب البلاغة[24]، وهو غالب الجناس المماثل [1أ/1ب] أحد قسمي التَّام.
ولذلك ردَّ عليه أئمَّة البلاغة، وخالفوه[25]، وغلَّطه ابن [القطَّاع][26] وغيره[27] قائلين: إن الإيطاء مخصوص بإعادة الكلمة بلفظها ومعناها قبل سبعة أبيات أو عشرة[28]، إلا أن الأخفش[29] يقول[30]: إذا كان أحدهما معرَّفًا والآخر نكرة، فليس بإيطاء.
وإنما كان عيبًا؛ لدلالته على ضعف طبع الشاعر، وقلَّة مادته؛ حيث قصر فكره، وأحجم طبعه عن أن يأتي بقافية أخرى، فاسترْوح إلى الأوَّل، مع ما جُبِلت عليه النفوس من معاداة المعادات.
وأمَّا إذا أُعيدت بلفظها دون معناها، فليس بإيطاء كقولي[31] من مطلع قصيدة:
يَا سَاحِرَ الطَّرْفِ يَا مَنْ مُهْجَتِي سَحَرَا كَمْ ذَا تَنَامُ وَكَمْ أَسْهَرْتَنِي سَحَرَا[32]
قالوا[33]: لوقوعه كثيرًا في أشعار الفصحاء، ودلالته على غزارة مادة الشاعر، وقوَّة ملكته، واقتداره على اقتناص المعاني المختلفة، بالألفاظ المتفقة، حتى جعلوه من محاسن الكلام، وسمَّوه تجنيسًا.
[باب الجناس[34]]
إذا تقرر هذا، فالجناس - ويقال التجنيس - قال الرماني[35]: "هو بيان المعاني بأنواع من الكلام، يجمعها أصل واحد"[36]، واشتراك المعاني في ألفاظ متجانسة، أو الجناس بين اللفظين: هو تشابههما في اللفظ، وهو سبعة أنواع: تام، وناقص، ومحرَّف [أو][37] مصحَّف، ومقلوب، ومضارع، ولاحق، وملحق بالجناس.
وهذه السبعة تنقَسم نَحو ستِّين[38] نوعًا:
النوع الأول: الجناس التَّام:
وهو أن يتفق اللفظ حروفًا، وعددًا، وهيئة، وترتيبًا، ونوعًا: اسمًا، أو فعلاً، أو حرفًا.
وهو قسمان: مفرد ومركب، وكلٌّ منهما أنواع:
فالمفرد: إن اتفقَّت فيه الكلِمتان فيما مرَّ مع اختِلاف المعنى - بخلاف: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}[39] - فتام مماثل، نحو: خال، وخال، لخال الخد، وأخي الأم، واستوى طعام زيد لمَّا استوى راكبًا، ونحو: "أَظَبْيَ النَّقَا أَبَارِقٌ بِثَغْرِك؟[40]"، وقع الجناس بين همزة النداء في ظبي، وهمزة الاستفهام في بارق.
ونحو: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}[41]، ولا اعتبار بزيادة (أل) في مثل ذلك [1ب/2أ].
ونحو: ممَّا جرى دمعي جرى[42]، عن وجْهِه أسفر والصَّبح قد أسفر.
والظَّاهر أنه لو اتَّفق النوع وكان مع أحدهما ضمير - أنَّه تام مماثل لا مستوفى، نحو:
يَا خَلِيلَيَّ سَلا إِنْ كانَ قَلْبِي قَدْ سَلا[43]
وإن اتَّفقتْ فيه الكلِمتان دون النَّوع، كاسم وفعل، فتام مستوفى، ويقال له: جناس التغاير، والتجنيس المطلق، نحو:
(يحيا لدى يحيى)[44].
ونحو: وضعتُه في فيَّ، وجئت إلى إلى زيد، أي: نِعَمِه، ونحو: علَّ زيدًا علَّ؛ أي: اعتلَّ، ونحو: يعجبني أنَّ زيدًا أنَّ[45] - من الأنين.
والمركَّب نوعان: ملفوف، ومرفو:
فالملفوف: ما تركب من كلمتين تامتين.
والمرفو: ما تركب من كلمة وبعض أخرى.
والمرفوُّ المفروق: نحو: عندما صرت قُلامهْ، رمت الأحداقُ لامهْ[58].
فهو مرْفوٌّ؛ لأنَّ لامه رفيت بالقاف من الأحْداق، حتَّى جانست قُلامه، ومفروق؛ لاختِلافهما في صورة الكتابة، ونحو: [2أ/2ب].
يَا مَنْ بِأَلْحَاظِهِ المَرْضَى أَرَاقَ دَمِي وَمَنْ إِلَيْهِ بِإِتْلافِي سَعَى قَدَمِي[59]
والمرفوُّ المشتبه: نحو: ما صفَّ أوراقْ[60] مذ صفا أو راقْ، مرفوّ؛ لأنَّ راق رُفي بأو، حتى جانس أوراق، ومشتبه؛ لاتحاد صورة الكتابة، ونحو:
نُحُولِي وَأَشْجَانِي لِحَالِي فَوَاضِحُ وَأَمَّا افْتِضَاحِي فِي الغَرَام فَوَاضِحُ[61]
النوع الثاني: الجناس المحرَّف والمصحَّف:
ويدخلان في سائر أنواع الجناس، فالمحرف: ما اتفقتْ فيه الكلمتان دون الشكل، والمصحف: ما اتفقت فيه الكلمتان دون النقط.
فالمحرَّف نحو: البدعة شَرَك الشِّرْك[62].
ونحو: الجاهل إما مُفْرِطٌ وإمَا مُفَرِّطٌ[63]، والحرف المشدَّدُ في حكم المخفف، وقوله - تعالى -: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُنْذَرِينَ}[64].
وقد اجتمعا في قولهم: "جُبَّةُ البُرد، جُنَّةُ البَرْد"[66]، وقوله - تعالى -: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[67]، وقوله - عليه السلام -: ((يتكلم بما لا يَعْنِيه، ويبخل بما لا يُغْنيه))[68].
لأن ما التعجبيَة رُفِيَتْ بالدال من ورد، حتَّى جانست دمًا، ومثله: "في الورد ما يحكي دما"[71].
- ومحرف مركب ملفوف مفروق، نحو: "جاء منصور من صور"[72]، ونحو:
غَزَالٌ نَفُورٌ عِنْدَمَا مَالَ جِيدُهُ رَوَى عَنْ دُمَى الجَرْعَاءِ حُسْنَ التَّلَفُّتِ[73]
ودُمَى: جمع دُمْية، وهي الغزالة[74] الصغيرة.
- ومحرَّف مركب ملفوف مشتبه: نحو:
لا صَبْرَ فِي بَوَاطِنِ قَوْمٍ تَحُلُّ بِوَاطِنِ[75]
ملفوف؛ لأنَّ واطن الثاني لفظ مستقل، اسم موضع[76]، وباء الجرِّ حرف مستقل دخل عليه، ومشتبه صورة ومحرف؛ لاختلاف حركة الباء.
النوع الثالث: الجناس الناقص:
ويقال التجنيس الزائد باعتبار الكلمة الأخرى، فناقص حرفٍ من الآخر مطرف، وحرفين مذيَّل، ومن الأوَّل أو الوسط غير مطرف وغير مذيَّل، ويسمى الجناس [2ب/3أ] المكتنف في اسمين، أو فعلين، أو مختلفين.
ونحو: رقرق دمعي حين رق جسمي[90]، ونحو: حمى وحمايل[91].
ونحو هذا: مسا مساكين[92]، ونحو سل وسلسل[93].
ومن الأول: نحو بال وبلبال[94]، ونحو:
وافى لمَّا فاء[95]، أي: رجع، ونحو: مذ صال قطع أوصال[96].
ومن الوسط: نحو دلال ودل[97]، وحاول وحل، ونَمَّام ونَمّ[98].
النوع الرابع: الجناس المقلوب:
ويقال[99] تجنيس العكس: وهو أن تختلف الكلمتان في ترتيب الحروف تقديمًا وتأخيرًا، وهو إمَّا قلب الكلِمة بأسْرِها، نحو: قلم وملق، وحتف وفتح[100]، وحلب وبلح، ولحم ومحل.
أو الوسط نحو: أفْصَح وأصْفَح[101].
أو الآخر نحو: قلب وقبل، وأرحام [و][102] أرماح، أو غير الوسط[103]، نحو: بَرْقٍ وقُرب[104]، وربح وحِبْر[105].
أو غير الآخر[106] نحو: جنس [و][107] نجس، وهند ونهد[108].
وإذا وقع أحد متجانسي القلب أول البيت، والآخر آخره، سمِّي - حينئذٍ - مقلوبًا مجنَّحًا؛ لأن اللفظين بمنزلة جناحين للبيت[109]، نحو:
لاحَ أَنْوَارُ الهُدَى مِنْ كَفِّهِ فِي كُلِّ حَالْ[110]
النوع السادس: الجناس اللاحق:
وهو ما اختلف بحرف غير مشابهٍ لمخالفه خطًّا، ولا مقاربًا له مخرجًا، نحو: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}[119]، وتفرحون وتمرحون[120]، وبدر وبحر، [ونحو][121]: {جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ}[122]، وحرف الاختلاف إمَّا في أوَّل، أو وسط، أو آخر، في اسْمين، أو فِعْلين، أو مختلفين، نحو: دمع وهمع، ونبال ونكال[123]، وترتيب وتركيب، وصادح وصادع[124]، ونحو: عاد وجاد[125]، ونحو:
تُغَرِّبُ فِي أَلْحَانِهَا وَتُغَرِّدُ[126]
ونحو: حمل وأمل[127]، ونفر ونهر[128]، وأسل وأسر[129].
النوع السابع: الملحق بالجناس:
وهو شيئان[130]:
أحدهما: أن يجمع اللفظين الاشتقاقُ، وهو توافق الكلِمَتين في الحروف الأصول، مع الاتفاق في أصل المعنى، نحو: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ}[131]، مشتقَّان من قام يقوم.
- ومشتق غير حقيقي، ويسمَّى[133] المطلق، نحو: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ القَالِينَ}[134]، الأول من القول، والثاني من القِلى، ونحو:
جَرَّعَتْنَا الغَمَامَ بِالجَرْعَاءِ[135].
- ومشوش نحو: سرور وسعود، وغبون وغموم[136]، فإن قلتَ: مختلف الوسط فاتَ اتفاق آخره، أو مختلف الآخر فاتَ اتفاق وسطه، فيبقى الناظر متحيرًا؛ فلهذا سمي مشوشًا.
ونحو:
مُحَرَّفُ الطَّبْعِ حَيْثُ القَلْبُ مُحْتَرِقٌ[137]
فإن التاء لو فقدت منه، لكان جناسَ تصحيف، ولو كانت القاف فاء، لكان جناسًا ناقصًا.
وإذا ولي أحد المتجانسين أيُّ تجانس، كان سمي الجناس مزدوجًا ومكرَّرًا ومردَّدًا، نحو: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}[138] من اللاَّحق: ومن طلب شيئًا وجدَّ وَجَدْ.
يتبع في العدد القادم
ـــــــــــــــ
[1] ما بين المعقوفتين من نسخة (ب).
[2] انظر ترجمته في مقدمة الدراسة.
[3] لعل المؤلف - رحمه الله - أراد التنبيه على موضوع الكتاب، وأنه في البديع، وقوله عن الله - عز وجل -: مُعلِّم البديع، استنادًا على ما ورد في قوله – سبحانه -: {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151]، والله أعلم.
[4] في الأصل والصلات، وما دُوَّن من نسخة (ب)، وإن كنت لا أستبعد أن المؤلف يريد الصلات؛ جريًا على عادته في التجنيس.
[5] حاكت - هنا - بمعنى شابهت.
[6] وحاكت - هنا - من الحياكة: وهي النسيج والخياطة، وتحسين أثر الصنعة في الثوب، انظر: "القاموس المحيط" (حيك)، ويقصد بها أن ألفاظه نسجت أحسن القول وأجمله.
[7] لعل فيه إشارة إلى كتاب "زهر الربيع"، لابن قرقماس، الذي اكتشفت أن المؤلف أفاد منه كثيرًا في الأمثلة.
[8] أصفح: أكثر صفحًا وعفوًا، فالصفوح: هو الكريم العفو، انظر: "القاموس المحيط" (صفح).
[9] أجرح: لعلها من جرح كمنع؛ أي: اكتسب، فيكون المعنى تفضيل الصحابة فيما اكتسبوه في أقوالهم وأفعالهم، وفي المواقف الحاسمة، انظر: "القاموس المحيط" (جرح).
[10] وفي الأصل: (وأسميه)، ولعلها تحريف عن أسميته، وفي الثانية: (وسمية).
[11] من (ب)، وهي ساقطة في الأصل.
[12] هو سعد الدين التفتازاني: مسعود بن عمر بن عبدالله (712 - 791هـ)، وصفه أحد الباحثين بأنه فيلسوف الماتريديَّة، له ثلاثة كتب في البلاغة: "المختصر"، و"المطول"، وكلاهما على تلخيص القزويني، والكتاب الثالث شرح فيه القسم الثالث من مفتاح السكاكي.
انظر: "بغية الوعاة" 2/285، و"الماتريدية وموقفهم من الصفات" 1/294.
[13] انظر قول التفتازاني في "المختصر"، "مختصر الدسوقي على مختصر المعاني" (ص505)، وفي "المطول" 416، وفيه كتعليق الدرر، ولعله خطأ طباعي، وذكر السيوطي هذا القول دون عزو للتفتازاني، انظر: "عقود الجمان" 104.
أقول: لعل سعد الدين التفتازاني أخذ هذه العبارة من قول الشاعر:
إِنِّي وَتَزْيِينِي بِمَدْحِيَ مَعْشَرًا كَمُعَلِّقٍ دُرًّا عَلَى خِنْزِيرِ