![]() |
على أطراف الشمس
1- ماوراء الأفق :
رغم التبدل الهائل الذي جرى على أبنية المدينة ، وشوارعها واتجاهات السير وكل مرافقها ، سواء بمساحاتها الشاسعة أو بأحجامها وارتفاعاتها ،إلاّ أن مدخلها الغربي بطبيعة جغرافيته ، ظل محافظاً على شخصيته أو تكوينه ، كما هو لم تطاله يد الحداثة أوالعصرنة ، فظل ّ مرتفعا كأنه هضبة ، ينزلق منه طريقاً عريضاً منحدراً بهدوء وانسياب ،وهو يدخل أجزاء المدينة ، وتتدرج الأبنية على أطرافه بذات السهولة ، فالذي ينظر إليه أو يكون ذاهباّ أو قاصداً ذلك المرتفع من المدينة ، يبدو له الكتف ملتحماً بالأفق لامحالة ، وما فيه وما بعده لايرى منه شيئاً أبدا . و هناك ماوراء الكتف أو الأفق تقبع صالة الشمس للفنون الجميلة ، فلا يرى البناء الذي يحتويها، إلاّ إذا ارتقينا أعلى الطريق ، من نهاية تلك الأبنية المتناثرة على امتداده نحو الغرب الممتد من هناك إلى البعيد . لايعلم أحد لم اختير هذا المكان ليكون صالة الشمس ، وكذلك اختيار اسمها ، إلاّ أن شدة سطوع الشمس وابيضاضها وهي في أوج تحصنها في كبد السماء ، قد يكون السبب مثلما يرجح ذلك الذي بقي يحمل بعضاً من ذاكرة ، يقول : ومنذ زمن بعيد أنه من كان يأتي إلى هنا ، يذوب ويتلاشى ، او تأخذه الشمس معها حين تغرب وتذهب إلى البعيد إلى ما وراء الأفق . و من كان يسمع هذا القول يجده غريباً ، فلايصدقه فينساه أو يتناساه ، و ربما كان البعض منهم يضعه في خانة الأحلام ، لولا أن نوعاً من تلك الحكايا كانت مفزعة وتفند ذلك ، منها حكايا مثل كوابيس الليل ،تأتي لبعضهم وهم في أوج يقضتهم . ومثلما أن الصالة تذوب في النهار ، فلا تكاد ترى أبداً من شدة سطوع الشمس ، و لاتجد أحداً يصل إليها في قارعة النهار إلاّ إذا كان يقصدها لأمرما في شأنه ، فإن الليل حين يرخي سدوله ، ليغطي كل من يستسلم لظلامه في ذلك المرتفع ، بادئاً أومنتهياً بهذه الصالة ، فإن الصالة والبناء الذي يحتويها يختفون كذلك في تلابيبه ، وحتى إنارة أضوائها هي الأخرى ، لاتكاد تقاوم وحشة تكالب الظلام خارجها ،فتخجل من الظهور علانية حتى لناظرها المباشر ، والأمر بظاهره لايكاد يصدق وما يقال عنها ، خاصة عندما يقابل مديرها الفنان التشكيلي الأستاذ نادرأي من الزائرين أو الروّاد ، فهاهو يعمل فيها منذ سنوات ولم يذوب ، أو تاخذه الشمس إلى البعيد ، مثلما يشاع عن هذا المكان ، شاهدا عليها صباح مساء . وكذلك من كان يقصدها هم عادة روادها الذين يتوافدون إليها ، لتداول الآراء والتحليلات ، حول مايعرض أحدهم أوبعضهم من لوحات فنية برسومات كل منها يعبّر صاحبها بما تكتنز نفسه من تأويلات وأفكار وفلسفات ، يظل الزائر العادي في معزل وغربة مما يرى ويسمع . 2- لوحة الدمعة الحزينة : يعلّق أحدهم على ما كان يسمعه من تفسيرلصاحب لوحة من الفن السيريالي متسائلاً: أين المسافة التي يتحدث عنها مابين حلم الفنان ، وواقعه الذي ينفر ويتأفف منه ؟ ..لاأجدها مجسدة أو واضحة ، ولو في خط أوأي لون ! بل كأنه يتحدث عن وهم أو خيال قابع في ذهنه الهلامي ! . لم لا وهؤلاء الرواد يتبادلون هز الرؤس والإبتسامات وأحياناً الضحكات العالية بالتوافق على مايسمع بعضهم من بعض ، ولكن عندما يشتد التركيز بالجدال عما يصل إلى أسماعهم ،من ازدياد مضطرد في عدد الجولات التي يكسبها جفاء وقسوة الواقع يوماً بعد يوم ، وبمقابلها انهزام محاولات أحلامهم ورؤآهم ، فيلاحظ فيهم التقهقر ، بل يتعدى ذلك التقهقرإلى نقصان عددهم فيما بعد وتقلص جمعهم في الحضور ، وكذلك في فتور حماستهم ، واندفاعهم مما بجعل قيمة ما تكوّن اللوحة المرسومة في آرائهم وأذهانهم ، هي الأمثل في اجتياز أي صعوبة في أي من تكوينات اجتماعيتهم ! . يعود مدير الصالةالأستاذ نادر ليعلق ، وكان الأبرز دائماً من بين كل الرواد بإصراره على الإمساك برأس أي خيط ،يرى فيه شدّ انتباه ، كتلك الحوارات التي تمارس فيما بينهم ،في تحليل رسوم اللوحات ، من أجل تعرية الواقع كما يقولون ، وإظهارترديه المخيف اليومي ، باستمرار التدميرالمتعمد في كل مرافق الحيا ة : - أين لوحة الدمعة الحزينة ؟... يسأله زائرغريب ! يجيب الأستاذ نادر : - لست أدري ! من صاحبها ؟ - هو ذاته الذي أطلق أسم صالة الشمس ! - ومن يكون ؟ - لا أعرفه مطلقاً ، ولكن لا بد من أن أحداً ما وراء هذا الإسم ! ويقول ذاك الذي عنده بقية من ذاكرة ،وهو الغريب كذلك بينهم : لو أردت أن أفسرمعنى اسم هذه الصالة ، لألفيت ذاتي متململاً من ثقل المعاني ، ذلك لأني لو استعنت بما يتداول في التاريخ كأمثلة لأصبح هو الآخرعبئاً ثقيلاً ، فيعود إليّ التأكيد مرة أخرى ، أن هذه الصالة تفتقر للوحة الدمعة الحزينة ! 3- بقايا من الزمن الهارب : أخذت الأيام بالتسارع ، حتى أصبحت بضع سنين مضت هاربة مسرعة، و أعداد الروّاد آخذة بالتناقص المضطرد ، ومعها خبتت تلك الضجة والأصوات ، وكذلك الحماسة في الآراء والتحليل ،ولم يبالغ بعضهم في صريح اندهاشهم وتعجبهم ، أن أنوار مصابيح الصالة ، هي الأخرى قد اعتراها الفتور وخبتت إضاءتها ، وكأن ظلام الليل خارجها ، أخذت تلابيبه تزحف إلى داخلها ، وفي مقابلها علت همهمات ممن لازال متجلداً مقاوماً ما كان يسمعه ، وبمقدمتهم مدير الصالة ، فبلغت جولات إنتصارواقع الحرب في البلاد ذروتها، ووصلت متفاخرة إلى قلبها ، وقد أختفى على أثرها أوغاب أو ( ذاب )عدداً منهم ، فما كان من بقي متشبثاً وهم قلة ، إلاّ أن أظهروا محاولتهم المستميتة ، فعبروا عنها برسم عدة لوحات لبيوت مدمرة ، وأجساد أطفال مشوّهة ، وأجساد رجال معذبة حتى الموت ، ولوحة واحدة لصاروخ حربي ذكي حديث لم ينفجر! ، وقالوا أن هذه الأعمال الفنية ، تنتمي بأساليب رسمها لعدة مدارس فنية تقليدية ، نعرضها في الصالة تحت مسمّى (حوار السلام ) !! لكن كوابيس الحكايا القديمة التي خزنتها الذاكرة وغشّاها النسيان ، بقيت تلقي بحبالها وظلّت تتلوى وتسحر العيون ، إلاّ أن التحمت شدة أشعة الشمس ، مع طغيان النسيان وفقد الذاكرة في ساعة كابوس عات ،غلب فيه الواقع كل ما رسم في لوحات صالة الشمس المستميتة . وكأنّ وقائع هذا المكان الآن (مكان موقع الصالة ) ظلّت تكمّل دوراً ما ، منذ ذلك الزمن الهارب الذي لازال تأثيره يتراءى من وراء الأفق . ولا أحد يستطيع أن يحصر في تفكيره ، كيف يصل كل هذا الجمع الغفير من الناس ، من رجال ونساء وشيوخ وشباب وأطفال ، يفدون من كل مكان ، من المدينة والبلدات المجاورة والقرى والأرياف ، يتجمعون شيئاً فشيئاً ، في مشهد عظيم حزين وكئيب ، تحت أشعة الشمس اللاهبة ، في قيض شديد الحرارة ، وإذا كان الشتاء فالبرد والزمهرير ،صنوان ذلك ، لايوجد في هذا المكان كسرة ظل ، ولاحتى ظل حجرة أو شجرة أوظل جدار . في هذا المكان المنبسط الواسع الممتد إلى الأفق اللانهائي ،والذي تقبع فيه الآن صالة الشمس ، كان هنا بناء قديم يقال له ( القشلة) ، يحتوي على غرفة يقال لها ( القاووش ) ، كانت عالية وطويلة وجدرانها متصدعة ذات سقف من القرميد ، يحيط بها بقايا سور مهدم ، يضم فناء كبيراً يقال له (حوش)، وفيه ينحشر كل هذا الحشد الغفير الهائل من الشباب ، يعيشون في يوم كابوس ثقيل ،إنهم مساقون إجبارياًجنوداً إلى (السفر برلك) !. تطلّ الحافلات البدائية وسيارات الشحن العسكرية المهلهلة ،وهي تترنح على الطريق الترابي، آتية من الغرب البعيد ، ومع وصولها يعلو صراخ الناس والبكاء والعويل ، من كل هؤلاء الذين جاء كل منهم يودع ولده الشاب الوداع الأخير ، وفي آخر النهار تعود محملة بحمولتها الثقيلة الغالية ، من ذات الطريق وتظل تبتعد وتبتعد حتى تصبح نقطة سوداء ، ثم لاتلبث أن تذوب وتتلاشى مع الأفق المتوهج الأحمر، فيزيد البكاء والنحيب أكثر وأكثر ، على فلذة كبد أخذته الشمس معها ، وربما كما علق في الذاكرة ، أن أغلبهم سيغيب ولن يعود لدياره أبداً ! . في هذا المكان من كتف المدينة ، تكاملت كل الأحداث في الأدوار ، وصالة الشمس للفنون الجميلة ، قد أكملت دور تلك القشلة بإسمها الجديد الغريب، وقد ودّعت مديرها الجلد الأستاذ نادرآخرمتشبثيها ، مهاجراً إلى البعيد فيما وراء الأفق ، لم يستطع انجاز لوحة الدمعة الحزينة ، وقد حمل الأمل بانتصار الحوار بجولة جديدة ،هناك على أطراف الشمس ..! ............................ نهاية |
-
جلب جميل ومعاني رائعة سلمت اناملك لهذة الذائقة في انتظار جديدك المتميز تحيتي.~:85: |
سلمت يمينك على ما نثرت من رقي و إبداع
أتمنى لكـ دوام التألق و التميز تقديري يسبقه إحترامي |
-
ألف شكر لـ أختيارك الراقي تقديري :241:. |
يعطيك العافية على الطرح المميز
مودتي |
تسسسلم الايـآدي على روعه طرحك
الله يعطيك الف عافيه يـآرب بانتظـآر جــديدك القــآدم آحتـرآمي لك |
الساعة الآن 12:01 AM |
Powered by vBulletin Hosting By
R-ESHQ
HêĽм √ 3.1 BY: ! RESHQ ! © 2010
new notificatio by R-ESHQ
User Alert System provided by
Advanced User Tagging (Lite) -
vBulletin Mods & Addons Copyright © 2025 DragonByte Technologies Ltd.
تنويه : المشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس بالضرورة تمثل رأي أدارة الموقع