شبت النار
في بداية فصل الشتاء استيقظ حظي من سباته ورفرف بجناحيه وحط رحاله فوق كثيب رملي في أعماق الصحراء
حصل ذلك بعد معاناة ووساطات من هنا وهناك، المهم انني حصلت على وظيفة في بلدة تحيط بها الكثبان الرملية من كل اتجاه
فرحت بهذه الوظيفة فرحًا لا يمكن لي وصفه، في ذلك اليوم استأجرت شاحنة لحمل عزالي
وسافرت لهذه البلدة قبل ان تتحرك الشاحنة كي أجد مسكن هنالك
كان تخطيطي السكن في أحد الفنادق مؤقتا لأستريح وابحث عن منزل اوي اليه
وما ان وصلت لم أجد فندق بل لم أجد شخصا يقبل بي ساكن عنده رغم وجود المنازل المتناثرة في هذه البلدة التي هجرها ساكنيها الى المدن الكبيرة والسبب انني اعزب
فهؤلاء القوم لا يسمحون بعزوبي ان يسكن بينهم
المهم ان مدير عملي سمح مجاملة لي ان اسكن في موقع العمل مؤقتا حتى أجد سكن خاص بي رغم علمه ان هذا الامر من سابع المستحيلات
جاءت الشاحنة المحملة بأغراضي ووافق المدير على مضض على ان اضعها في حوش الإدارة
في الشهر الأول تكفل زملائي بدعوتي بالتناوب الى وجبة طعام فالمطاعم في هذه البلدة نادرة بندرة المطر الذي يهطل على صحرائهم
كانت هذه المطاعم والتي تعد على يد الأصابع الواحده مخصصه للعمالة الوافدة والتي كانت وجباتهم لا تناسبني من جميع النواحي
أخيرا توقفت انا عن قبول دعوة زملائي فقد شعرت بالخجل وقمت بإخراج أدوات المطبخ من بين أنقاض اغراضي المرمية وسط حوش العمل وقمت بإعداد بعض الوجبات في حوش العمل وسط ذلك البرد القارص رغم معرفتي ان هذا الامر يغضب مديري
على كل حال كنت كل يوم اخرج بعد العصر من مبنى العمل منطلقا للخلاء المترامي الأطراف الذي يطوق هذه البلدة فهو الموقع الترفيهي الوحيد لسكان هذه البلدة
وانا في الطريق لهذا الخلاء كنت كل يوم انظر بحقد الى تلك المنازل والتي كانت عبارة عن عدد قليل من الغرف احيطت بسور او حوش عظيم يتوسط هذا الحوش بيت الشعر، "خيمه" منصوبة وموقد للنار
وما تغرق الشمس في الأفق حتى تتعالى ألسنة اللهب في تلك المواقد في بعض هذه البيوت ويجتمع خلق كثير حول النار
كنت اعلم ان هذه النيران التي اشعلت ماهي سوى طقس من الطقوس توارثوها هؤلاء البدو من اجدادهم القدماء في محاولة منهم لاستعادة ذكريات ماض غادر واقعهم، ولكنه ما زال يعيش في وجدانهم كحاضر جميل
اعلم ان هذه النار والتي يتم اشعالها كل يوم وفي منازل محدده ترمز الى مكانة صاحب الدار بين قومه وجيرانه
وفي أحد الأيام وانا عائد من هذا الخلاء بعد ان غابت الشمس شعرت وانا انظر الى تلك المنازل انني لست على ما يرام لقد اصابني نوع من الجنون
فما ان رأيت منزل ذا حوش عظيم يتوسطه بيت شعر او خيمة عظيمة حتى استدرت بمركبتي نحوه واندفعت بها الى داخل الحوش متجاوزا البوابة وما ان وصلت الخيمة خرجت من مركبتي ثائرا الشرر يتطاير من عيني
عندها ارتفعت اعناق جميع من كانوا حول النار واخذوا يحدقون في بذهول وما ان توسط خيمتهم وأصبحت فوق نارهم انشدت بأعلى صوتي وانا أحرك يدي الاثنتين مثل شاعر متمرس ببعض الابيات من قصيدة حاتم الطائي
إذا ما البجيل الخب أخمدَ ناره
أقولُ لمَنْ يَصْلى بناريَ: أوقِدوا
توَسّعْ قليلاً، أو يَكُنْ ثَمّ حَسْبُنا
وموقدها الباري أعف وأحمدُ
كذاكَ أُمورُ النّاسِ راضٍ دَنِيّةً
وسامٍ إلى فَرْعِ العُلا، مُتَوَرِّدُ
فمِنْهُمْ جَوادٌ قَد تَلَفّتُّ حَوْلَهُ
ومنهُمْ لَئيمٌ دائمُ الطّرْفِ، أقوَدُ
وداع دعاني دعوة، فأجبته
وهل يدع الداعين إلا المبلَّدُ؟
وما ان انتهيت نظرت لرجل الذي كان يتوسط الخيمة وقلت لقد كان العرب تشعل النيران للمسافرين وعابري السبيل، ليقبلوا عليهم ليجدوا المأوى والزاد.
انا لست بمسافر ولا عابر سبيل انا موظف في بلدتكم أقوم بخدمتكم
هل لمثلي ان يعيش في مقر عمله ذليلا او في الخلاء
ومن اجل ماذا؟!
لأنني رجل عزوبي
هل كان أولئك القوم الذين تنتسبون إليهم وتتفاخرون بهم يسألون المسافر او عابر السبيل
هل انت متزوج او عزوبي؟
عندها التفت الي أحد الجالسين" صاحب البقالة" الذي كنت اتردد عليه واشتكي اليه معاناتي
وقال بغضب: ولماذا لا تتزوج مثل خلق الله وتريح نفسك من هذا العناء
عندها نظرت اليه وانا مشوش الفكر وقلت له:
هل تعرف الفرق بين البرتقال الخاص بالعصير والبرتقال الذي يؤكل
فتح الرجل فمه وهز راسه وصرخ في قائلا: سألتك لماذا لم تتزوج كخلق الله وتتكلم عن البرتقال؟ هل انت مجنون ؟!
فرددت عليه بهدوء أعصاب: لماذا تتهرب من سؤالي إذا كنت لا تعلم فانا سأجيبك
فقال بغضب: لا اعلم
حسنا سأخبرك إذا قمت بتقشير برتقالة وفتحتها جزين انظر الى النواة المركزية إذا رايتها عصب ابيض كأنه خيط غليظ سهل نزعه فهذه برتقالة تؤكل بسهوله
ام إذا وجدت هذا العصب مقسم على شكل خيوط بيضاء دقيقه فوق الجراب التي تحمل حويصلات العصير فاعلم انه من الصعب اكلها فقد تسبب لك بمشكله فهي صعبة البلع
نظر الي باشمئزاز وقال: سؤالي يحتاج لإجابة واحده وما دخل البرتقال
فأجبته أولا لا يوجد سؤال له إجابة واحدة
ثانيا عن طريق معرفتك بأنواع البرتقال وهذا يشمل كل شيء خلقه الله تصل لإجابات مذهله
اما بالنسبة لحديثي عن البرتقال فمعرفتك بأنواعه تجعلك تدرك مع من تتكلم
عندها قام الرجل من مكانه ثائرا ثم عاد الى مكانه بإشارة من ذلك الرجل الذي يتوسط المجلس والتفت الى ببشاشة وجه : "ففهمت منه أكمل كلامك فكلنا اذان صاغية"
واصلت حديثي وان انظر لصاحب البقالة وقلت: يا صديقي الكثير يعتقد انه في الماضي السؤال يحمل إجابة واحدة فقط خلافا لهذا الزمن فالسؤال لديه أكثر من إجابة
ويسال: لماذا ؟!
قد يقول قائل ان السبب هو ان العالم أصبح قرية صغيره بسبب المواصلات والاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي لذا السؤال الواحد يتم إجابته من العالم اجمع
وللعلم يا صديقي لم يكن في الماضي ولا اليوم ولن يكون في المستقبل السؤال يحمل إجابة واحدة
وواصلت حديثي والجميع ينصت الي قائلا:
أتذكر ان حكيم قريتنا قال لي عندما كنت في الخامسة عشر من عمري:
مشكلتك يأبني أنك تستمع للجميع بدون ان تبدي رأيك تتكلم بما يريده الاخرين ولا تتكلم بما تراه انت
تحرر، دع الاخرين يرونك، أنطق أطلق للسانك العنان وأرح صدرك
اتعلم يا صديقي انني سمعت نصيحته فعلت وتكلمت، وفي اليوم التالي لتحرري جاء حكيم القرية الى منزلنا ثائرا وما ان راني صفعني وصرخ في وجهي قائلا:
لو سمعتك تتحدث بعد اليوم سأقطع لسانك!
من يومها عدت لما كنت، اغمضت عيني وطويت اللسان، فتلك الصفعة ما زالت تدوي في أذني توقظني من منامي
أتعلم لماذا صفعني حكيم القرية ؟!
فهز البقال راسه وكذلك هز جميع من في الخيمة رؤوسهم بالنفي
عندها أجبت قائلا: لأنه كان يريد مني ان أتكلم بما يروق له
لذا يا صديقي منذ فجر التاريخ كان لكل سؤال أكثر من جواب فمصالح الناس واطماعهم إضافة لما يؤمنون به كل ما تم ذكره هي التي قررت ان يكون لسؤال أكثر من جواب!
عندها ضحك الرجل الذي كان يتوسط المجلس حتى كاد ان يغمى عليه والجميع ينظر اليه في ذهول
وعندما افاق قال لي:
حكيم قريتك يا صديقي لم يكن حكيم ولا تسألني لماذا ؟!
فانت لديك الجواب!
على كل حال سأهديك أحد بيوتي في بلدتنا هذه وبدون مقابل وبالطبع بدون صك زواج!
=
عبدالعزيز صلاح الظاهري
|