03-16-2021
|
03-16-2021
|
#2
|


أسماء القرآن (2)
د. محمود بن أحمد الدوسري
البرهان
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
معنى «البرهان» في اللغة:
جاءت لفظة: «البرهان» في اللُّغة بمعانٍ عِدَّة نأخذ منها ما له صلة بموضوعنا وهي: «البُرْهان: الحُجَّةُ الفاصلة البيِّنة، يقال: بَرْهَنَ يُبَرْهِنُ بَرْهَنَةً، إِذا جاء بِحُجَّةٍ قاطعةٍ لِلَدَدَ الخَصم، فهو مُبَرْهِنٌ» [1].
والبرهان: مصْدَرُ بَرَهَ يَبْرَهُ إذا ابْيَضَّ، وَرَجُلٌ أَبْرَهُ، وامْرأَةٌ بَرْهَاءُ، وَقَوْمٌ بُرْهٌ، وبَرَهْرَهَةٌ: شابَّةٌ بَيْضَاءُ[2]. ومن هنا جاء التشبيه ببياض الحجة وإشراقها كبياض الحق وإشراقه.
«وقد بَرْهَنَ عليه: أَقَامَ الحُجَّة» [3]. و«البُرْهَانُ أَوْكَدُ الأدِلَّةِ، وهو الذي يَقْتَضِي الصِّدْقَ أبداً، لا مَحَالَةَ» [4].
معنى «البرهان» اسماً للقرآن:
سمَّى اللهُ القرآنَ برهاناً في آية واحدة من كتابه العزيز، وهي قوله تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ï´¾ [النساء: 174].
فهذا خطابٌ لكلِّ أصحاب الملل؛ اليهودِ والنصارى والمشركين وغيرهم أن الله تعالى أقام بهذا القرآن الحُجَّةَ عليهم تُبرهن لهم بطلان ما هم عليه من الدِّين المنسوخ، وهذه الحُجَّة تشمل الأدلة العقلية والنَّقلية والآيات الآفاقيَّة كما قال تعالى: ï´؟ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ï´¾ [فصلت: 53]. بل كفى بالقرآن العظيم - وحده - برهاناً على صِدْقِ الرسول صلّى الله عليه وسلّم في دعوى الرِّسالة [5].
فالقرآن العظيم برهان من الله تعالى لعباده، أقام به الحُجَّة عليهم، وأظهر من خلاله أوضح الدَّلالات وأقواها، على موضوعاته ومعانيه وحقائقه في العقيدة والحياة، وكلُّ مَنْ تعامل مع أدلة القرآن في يُسرها ووضوحها وتَأثَّرَ قلبُه وعقلُه بها، وقارَنَها بالأدلة والبراهين والأقيسة التي أوجدتها العقول البشرية وقررتها وبيَّنتها، كل مَنْ فعل ذلك يُدركُ طرفاً من البرهان القرآني ويُسْره ووضوحه.
ولمَّا كان البرهان هو أوكد الأدلَّة، ويقتضي الصِّدق لا محالة، فلم يحتج إلى أن يتكرَّر ذكره في القرآن؛ بل ورد مرَّة واحدة فقط؛ لتكون فصل الخطاب الموجَّه من الله تعالى إلى البشر على أنَّ هذا الكتاب دليل كافٍ على صدق النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وصدق نبوَّته.
وتتجلَّى عظمةُ القرآن الكريم ومنزلتُه العالية من خلال تسميته بالبرهان؛ ذلك لأنَّ الله تعالى أقام به الحُجَّة على عباده، تُبرهن لهم بطلان ما هم فيه من الدِّين المنسوخ، وهي حُجَّة متنوِّعة في الاستدلال؛ لتستوعِبَها عقولُ البشر على اختلاف فهومهم وثقافاتهم، وهذا من رحمة الله تعالى وحكمته.
[1] لسان العرب (13/ 51)، مادة: «برهن».
[2] انظر: المفردات في غريب القرآن، للأصفهاني (ص55)، مادة: «بره».
[3] لسان العرب (13/ 51)، مادة: «برهن».
[4] لسان العرب (13/ 51)، مادة: «برهن».
[5] انظر: فتح القدير (1/ 542)، أضواء البيان (7/ 79، 80)، تفسير السعدي (1/ 217).
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
03-16-2021
|
#3
|


أسماء القرآن (3)
د. محمود بن أحمد الدوسري
الـحـقّ
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
معنى «الحق» في اللغة:
جاءت لفظة: «الحق» في اللُّغة بمعانٍ عدة نأخذ منها ما يدل على المقصود: عَرَّفها ابن فارس بقوله: «الحاء والقاف أصلٌ واحد، وهو يدلُّ على إحكام الشيءِ وصحَّته» [1].
و«أصلُ الحقِّ: المطابقةُ والموافقة» [2]. و«الحقُّ ضِدُّ الباطل» [3]. والحقُّ من أسماءِ الله عزّ وجل، وقيل: من صفاته.
قال ابن الأثير: هو الموجود حقيقةً المُتَحَقِّقُ وُجودُه وإِلهِيَّتُه. قال تعالى: ï´؟ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمْ الْحَقِّ ï´¾ [الأنعام: 62]. وقال تعالى: ï´؟ وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ï´¾ [المؤمنون: 71]. قال ثعلب: الحقُّ – هنا - اللهُ عزّ وجل، وقال الزَّجاج: ويجوز أن يكون الحقُّ – هنا - التنزيلُ؛ أي: لو كان القرآن بما يُحِبُّونه لفَسَدَتِ السماواتُ والأرضُ.
وقال صلّى الله عليه وسلّم لِمُعاذٍ: «هَلْ تَدْرِي ما حَقُّ العِبَادِ على اللهِ» [4]؛ أي: ثوابُهم الذي وَعَدَهم به فهو واجبُ الإِنجازِ ثابتٌ بوعدِه الحقِّ [5].
«والأَحَقُّ من الخيل: الذي لا يَعْرَقُ، وهو من الباب؛ لأنَّ ذلك يكون لصلابَتِه وقُوَّتِه وإحكامِه» [6].
معنى «الحق» اسمًا للقرآن:
سَمَّى اللهُ تعالى القرآنَ حقًّا في مواضع عِدَّة من كتابه، نأخذ منها ما له صلة بموضوعنا وهي:
1- قوله تعالى: ï´؟ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ï´¾ [الحاقة: 51]. «أي: وإنَّ القرآن - لكونه من عند الله - حقٌّ، فلا يحولُ حوله ريب ولا يتطرَّقُ إليه شك» [7]. وهذا القرآن العظيم عميقٌ في الحق، عميقٌ في اليقين، وإنه لَيَكْشِف عن الحقِّ الخالص في كلِّ آية من آياته ما ينبئ بأن مصدره هو الحقُّ الأوحد والأصيل.
2- قوله تعالى: ï´؟ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ï´¾ [الأنبياء: 18]. قال الواحدي رحمه الله: «نُلقي بالقرآن على باطلهم» [8]. و« القذف: الرَّمي؛ أي: نرمي بالحقِّ على الباطل. ï´؟ فَيَدْمَغُهُ ï´¾؛ أي: يقهره ويهلكه.
وأصل الدَّمغ: شَجُّ الرأس حتى يبلغ الدِّماغ، ومنه الدَّامِغَةُ [9]. والحقُّ - هنا - القرآن، والباطل الشيطان - في قول مجاهد» [10].
3- قوله تعالى: ï´؟ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ï´¾ [الأنعام: 66]. قال الثَّعالبي رحمه الله: «الضَّمير في ï´؟ بِهِ ï´¾ عائد على القرآن الذي فيه جاء تصريف الآيات، قاله السُّدِّي، وهذا هو الظاهر» [11].
وقوله تعالى: ï´؟ وَهُوَ الْحَقُّ ï´¾ جملة اعتراضية تتضمن شهادة الله بأن هذا القرآن المنزل على هذا النبيِّ الكريم صلّى الله عليه وسلّم هو الحقُّ من الله [12].
والمعنى: «ï´؟ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ï´¾؛ أي: بالقرآن الذي جئتهم به، والهدى والبيان. ï´؟ قَوْمُكَ ï´¾، يعني: قريشًا. ï´؟ وَهُوَ الْحَقُّ ï´¾؛ أي: الذي ليس وراءه حق. ï´؟ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ï´¾؛ أي: لَسْتُ عليكم بحفيظ، ولست بموكل بكم» [13].
4- قوله تعالى: ï´؟ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ï´¾ [هود: 17].
قوله تعالى: ï´؟ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ ï´¾؛ أي: بالقرآن ولم يُصَدِّقْ بتلك الشَّواهد الحقَّة. وقوله: ï´؟ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ï´¾؛ أي: في شكٍّ من أمر القرآن وكونه من عند الله عزّ وجل [14]. «وفيه تعريضٌ بغيره صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه معصومٌ عن الشَّك في القرآن» [15].
وقوله تعالى: ï´؟ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ï´¾؛ أي: القرآن حَقٌّ من الله تعالى لا مرية ولا شكَّ فيه، كما قال تعالى: ï´؟ الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ï´¾ [السجدة: 1، 2]. وقال تعالى: ï´؟ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ï´¾ [البقرة: 1، 2] [16].
«وتعريف ï´؟ الْحَقّ ï´¾؛ لإفادة قَصْرِ جنسِ الحقِّ على القرآن. وهو قَصْرُ مبالغةٍ لكمال جنس الحقِّ فيه حتى كأنه لا يوجد حق غيره، مثل قولك: حاتم الجواد»[17].
وقوله تعالى: ï´؟ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ï´¾ «إمَّا جَهْلًا منهم وضَلالًا، وإِمَّا ظُلمًا وعِنادًا وبغيًا. وإلاَّ فَمَنْ كان قَصْدُه حَسَنًا، وفهمُه مستقيمًا، فلا بد أن يؤمن به؛ لأنه يرى ما يدعوه إلى الإيمان مِنْ كلِّ وَجْه» [18].
5- قوله تعالى: ï´؟ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ï´¾ [سبأ: 48، 49]. والقذف: الرَّمي بالسَّهم والحصى والكلام، ومعناه: أتى بالحقِّ وبالوحي ينزله من السَّماء فيقذفه إلى الأنبياء [19]. وقوله تعالى: ï´؟ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ ï´¾ «وهو الإسلام والقرآن» [20].
فهذا القرآن العظيم الذي جاء به النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم هو الحق: الحقُّ القويُّ الذي يقذف به الله تعالى. وكأنَّما الحقُّ قذيفةٌ تصدع وتخرق وتنفذ ولا يقف لها أحد في طريق، يقذف بها الله تعالى علاَّمُ الغيوب، فهو تعالى يقذف بها عن عِلم، ويوجهها علاَّم الغيوب، فلا يخفى عليه هدف، ولا تغيب عنه غاية، فالطريق أمامه تعالى مكشوف ليس فيه ستور، فمَنْ ذا يقف للحقِّ الذي يقذف به الله تعالى؟
ومن خلال تسمية القرآن الكريم باسم (الحقِّ) تبرز عظمتُه ومنزلتُه العالية، فلا بدَّ أن يؤمن النَّاس بهذا الحقِّ الأوحد ويستجيبوا له؛ لأنَّ مصدره هو الإله الأوحد جلَّ جلالُه، ولا يوجد حقٌّ غيره، ففيه تعريضٌ بغيره من الكتب المُحَرَّفة؛ لاختلاط الحقِّ بالباطل فيها.
[1] معجم مقاييس اللغة (1/ 269)، مادة: «حقَّ».
[2] المفردات في غريب القرآن (ص132)، مادة: «حق».
[3] مختار الصحاح (1/ 62)، مادة: «حقق».
[4] رواه البخاري، (4/ 1973)، (ح6267)؛ ومسلم، (1/ 58)، ( 0).
[5] انظر: لسان العرب (10/ 50)، مادة: «حقق».
[6] معجم مقاييس اللغة (1/ 270).
[7] فتح القدير، للشوكاني (15/ 401).
[8] تفسير الواحدي (2/ 713).
[9] «الدَّامِغَةُ منَ الشِّجَاج: إِحْدَى الشِّجاجِ العَشْرِ، وهي التي تَبْلُغُ الدِّماغَ، فَتَقْتُلُ لِوَقْتِهَا». انظر: المعجم الوسيط (ص297)، مادة: «دمغ».
[10] تفسير القرطبي (11/ 295).
[11] تفسير الثعالبي (1/ 529).
[12] انظر: أضواء البيان (7/ 246).
[13] تفسير ابن كثير (3/ 315).
[14] انظر: تفسير أبي السعود (4/ 195).
[15] فتح القدير، للشوكاني (2/ 488).
[16] انظر: تفسير ابن كثير (2/ 441).
[17] التحرير والتنوير (11/ 227).
[18] تفسير السعدي (2/ 359).
[19] انظر: تفسير البغوي (3/ 562، 563).
[20] زاد المسير (6/ 466).
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
03-16-2021
|
#4
|


أسماء القرآن (4)
د. محمود بن أحمد الدوسري
النبأ العظيم
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ, وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا, وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا, مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
معنى «النَّبأ» في اللغة:
جاءت لفظة: «النَّبأ» في اللُّغة بمعانٍ عِدَّة نأخذ منها ما يدلُّ على المقصود:
فقد عرَّفها ابن فارس بقوله: «النون والباء والهمزة قياسه الإتيانُ من مكانٍ إلى مكان. يقال للذي يَنْبأ من أرضٍ إلى أرضٍ: نابئٌ، وسَيلٌ نابئ: أَتَى من بلدٍ إلى بلد، ورجل نابئ مثله، ومن هذا القياس النبأ: الخبر؛ لأنَّه يأتي من مكانٍ إلى مكان، والمُنبئ: المُخْبِر» [1]. وَجَمْعُ النَّبَأ: أَنْباءٌ، وَإِنَّ لفلان نَبَأً؛ أي: خَبَراً. واسْتَنْبَأَ النَّبأَ: بَحَثَ عنه [2].
و«النَّبَأُ: خَبَرٌ ذُو فائِدةٍ عظيمة يَحْصُلُ به عِلْمٌ أو غَلَبَةُ ظَنٍّ، ولا يقالُ للخَبرِ في الأصلِ نَبَأٌ حتى يَتَضَمَّنَ هذه الأَشْيَاء الثَّلاثة، وحَقُّ الخَبَرِ الذي يُقالُ فيه: نَبَأ أنْ يَتَعَرَّى عن الكَذِب؛ كالتَّواتُرِ وخَبَرِ اللهِ تعالى وخَبَرِ النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام» [3].
معنى «النبأ» اسماً للقرآن:
سَمَّى اللهُ تعالى القرآنَ نبأ عظيماً في موضعين: في سورة «ص»، وفي سورة «النبأ»، ولا شكَّ بأن القرآن نبأ عظيم، فمنذ إيجاد البشرية وتكوينها، ما رأت ولا سمعت بمثل هذا القرآن العظيم، فهو عظيم في أسلوبه، وعظيم في روعته، وعظيم في معناه، وعظيم في جمال تركيبه، وعظيم في وعده ووعيده، وعظيم في أحكامه، وعظيم في أمره ونهيه، وعظيم في أخباره وقصصه وأمثاله.
وَحِكْمَةُ الله تعالى تقتضي ذلك؛ لأنه الكتاب الذي جاء مُصدِّقاً ومهيمناً على كل كتاب قبله؛ ولأنه آخر الكتب السَّماوية. ولأنه نزل تشريعاً عاماً لكل أمة ولكل جيل من أجيال العالم، وناسخاً لكل ما خالفه من الكتب قبله، فاقتضت حكمة الله أن يكون نبأً عظيماً، جاء بالصَّلاح والإصلاح، وبالخير والسَّعادة.
يُنبئ القرآن عن الله وعظمته وكبريائه، ينبئ القرآن عن وجوب توحيد الله وإفراده بالعبادة، ينبئ عن أحكام العبادات، وعن أحكام المعاملات، ينبئ عن كل ما يحتاجه البشر في الدِّين والدنيا.
يُنبئ القرآن عن الأمم التي تقادم عهدها وما جرى عليها من عذاب ونكال، بسبب تكذيبها وفسقها وطغيانها، ينبئ عن البعث والنشور، والحساب والعقاب، والنعيم والعذاب.
ينبئ النَّبأ العظيم عن كل شيء، من البداية إلى النهاية، من بداية خلق هذا الكون، حتى يستقر أهل الجنة في النعيم، وأهل النار في الجحيم [4].
فالقرآن الكريم سُمِّي نبأ؛ حيث إنَّه من ناحية المعنى اللُّغوي لمادَّة نبأ، يتجاوز حدود المكان والزَّمان، فينتقل من مكانٍ إلى مكان، ومن زمانٍ إلى زمان، ومن ناحيةٍ إلى أخرى، فإنَّ ما أخبر به لا يحتمل الشَّك فضلاً عن التَّكذيب؛ لأنَّ جميع ما أخبر به هو الصِّدق، وهو اليقين المحض، والنَّبأ لا يُطلق إلاَّ على الأخبار الثَّابتة الصَّادقة.
قال الله تعالى - عن القرآن العظيم: ï´؟ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ï´¾ [ص: 67، 68]. «أي: خبر عظيم وشأن بليغ، وهو إرسال الله إيَّايَ إليكم، ï´؟ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ï´¾؛ أي: غافلون. قال مجاهد، وشريح القاضي، والسُّدِّي - في قوله عزّ وجل: ï´؟ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ï´¾، يعني: القرآن» [5].
قال السَّمرقندي رحمه الله: «قوله عزّ وجل: ï´؟ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ï´¾ يقول القرآن: حديث عظيم؛ لأنه كلام ربِّ العالمين ï´؟ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ï´¾، يعني: تاركون فلا تُؤمنون به» [6].
وقال ابن الجوزي رحمه الله: «وفي المُشَار إليه قولان: أحدهما: أنه القرآن. قاله ابن عباس ومجاهد والجمهور. والثاني: أنه البعث بعد الموت» [7].
ولقد جاء هذا النَّبأ العظيم ليتجاوز قريشاً في مكة، والعربَ في الجزيرة؛ ليتجاوز هذا المدى المحدود من المكان والزمان، ويؤثِّر في مستقبل أهل الأرض كلهم, ويُكَيِّفَ مصائرَهم منذ نزوله إلى الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها.
ولقد حَوَّلَ هذا النبأ العظيم خَطَّ سير الناس إلى الطَّريق الأقوم, ولم يمر بالتاريخ كلِّه حادِثٌ أو نبأٌ تَرَكَ من الآثار ما تركه هذا النَّبأ العظيم، وفيه إبرازٌ لعظمته، وعلوِّ شأنه، ومنزلته وتأثيره.
ولقد أنشأ من القِيَمِ والتَّصورات، وأرسى من القواعد والنُّظُم في هذه الأرض كلِّها، وفي الأجيال جميعها، ما لم يخطر للعرب على بال, وما كانوا يُدركون في ذلك الزمان أن هذا النبأ العظيم إنما جاء لِيُغَيِّر وجهَ الأرض من شركٍ إلى توحيد، ومن ظلمٍ إلى عدل.
[1] معجم مقاييس اللغة (2/ 539)، مادة: «نبأ».
[2] انظر: لسان العرب (1/ 162)، مادة: «نبأ».
[3] المفردات في غريب القرآن (ص482)، مادة: «نبأ».
[4]انظر: الهدى والبيان في أسماء القرآن (2/ 34 ـ 36).
[5] تفسير ابن كثير (4/ 43).
[6] تفسير السمرقندي (3/ 165).
[7] زاد المسير (7/ 154).
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
03-16-2021
|
#5
|


أسماء القرآن (5)
د. محمود بن أحمد الدوسري
البلاغ
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ, وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا, وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا, مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
معنى «البلاغ» في اللغة:
جاءت لفظة: «البلاغ» في اللُّغة بمعانٍ عِدَّة نأخذ منها ما له صلة بموضوعنا:
عرَّفها ابن فارس بقوله: «الباء واللام والغين أصلٌ واحد، وهو الوُصول إلى الشيء: تقول بَلَغْتُ المكانَ، إذا وصَلْتَ إليه» [1].
و«بَلَغَ الشيءُ يَبْلُغُ بُلُوغاً وبَلاغاً: وصَلَ وانْتَهَى» [2]. و«البلوغُ والبلاغُ: الانتهاءُ إِلى أَقْصى المَقْصِد وَالمُنتهى؛ مكاناً كانَ أو زَماناً أو أمراً مِنَ الأُمورِ المُقدَّرَةِ» [3].
والبُلْغَةُ ما يُتَبَلَّغُ به من عَيشٍ، كأنَّه يُرادُ أنه يبلُغُ رُتْبَةَ المُكْثِرِ إذا رَضِيَ وقَنَع؛ وكذلك البَلاغَةُ التي يُمْدَحُ بها الفَصِيحُ اللِّسان؛ لأنه يبلُغُ بها ما يريده.
وقولهم: بلَّغَ الفارسُ، يُرَادُ به أنه يمدُّ يَدَه بِعِنانِ فَرسِهِ لِيَزيدَ في عَدْوِهِ [4].
معنى «البلاغ» اسماً للقرآن:
قال الله تبارك وتعالى في مَدْحِ القرآن: ï´؟ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ ï´¾ [إبراهيم: 52].
قال السعدي رحمه الله: «فَلَمَّا بيَّن البيان المبين في هذا القرآن قال في مدحه: ï´؟ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ ï´¾ أي: يتبلَّغون به ويتزوَّدون إلى الوصول إلى أعلى المقامات، وأفضل الكرامات، لما اشتمل عليه من الأصول والفروع وجميع العلوم التي يحتاجها العباد ï´؟ وَلِيُنذَرُوا بِهِ ï´¾ لِمَا فيه من الترهيب من أعمال الشر وما أعد الله لأهلها من العقاب» [5].
وذَكَرَ السيوطيُّ رحمه الله سببَ تسمية القرآن بالبلاغ، فقال: «وأمَّا البلاغ؛ فلأنه أَبْلَغَ به النَّاسَ ما أُمروا به ونُهوا عنه؛ أو لأنَّ فيه بلاغةً وكفايةً عن غيره، قال السِّلَفِيُّ في بعض أجزائه: سمعتُ أَبا الكرم النحويّ يقول: سمعتُ أبا القاسم التنوخيّ، يقول: سمعتُ أبا الحسن الرُّمانيّ سئل: كل كتاب له ترجمة، فما ترجمة كتاب الله؟ فقال: ï´؟ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ ï´¾» [6].
ومن خلال ما تقدَّم يتبيَّن لنا بجلاء أنَّ القرآن العظيم بلاغٌ للنَّاس أجمعين يتبلَّغون به ويتزوَّدون به إلى الجنة إنْ استجابوا له؛ ذلك أنَّ الله تعالى أَبْلَغَهم به ما فيه صلاحُهم وفلاحُهم في الدُّنيا والآخرة.
وفي القرآن العظيم كذلك بلاغَةٌ وكفايةٌ عن غيره من الكتب المحرَّفة فَضْلاً عن قوانين البشر الوضعية، كُلُّ ذلك يدلُّ على عظمتِه، وعلوِّ شأنه، ومنزلتِه عند الله تعالى. فينبغي أن يكون القرآنُ - في قلوب المؤمنين - عظيماً لِيتبلَّغوا به إلى جنَّاتِ النعيم.
[1] معجم مقاييس اللغة (1/ 156)، مادة: «بلغ».
[2] لسان العرب (8/ 419)، مادة: «بلغ».
[3] المفردات في غريب القرآن (ص70)، مادة: «بلغ».
[4] انظر: معجم مقاييس اللغة (1/ 156).
[5] تفسير السعدي (1/ 428).
[6] الإتقان في علوم القرآن (ص138).
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
03-16-2021
|
#6
|
طرح جميـــــل ..||
دام التألق ...ودام عطاء نبضك
كل الشكر لهذا الإبداع,والتميز
لك مني كل التقدير ...!!
وبآنتظار روائع جديدك بكل شوق...!
ودي وعبق وردي ..||
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 09:46 PM
| | | | | |