من فقه السنن الإلهية (1)
من فقه السنن الإلهية (1)
محمد شلبي محمد
7 مليارات مِن النفوس تملأُ الآن جنباتِ العالَم.
7 مليارات من الحرَكات والتوجُّهات، والاحتياجات والصراعات.
كم يغرق في محيطها اللَّجب مِن قتيلٍ وجريح، وفقير ومريض! وكم يطفو فوقَ سطحها مِن ظالِم وغني، وذي منصِب وشُهرة!
والحياة لا تتوقَّف رحاها، تطحن هؤلاء وهؤلاء!
﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20].
وإنَّما يُعطيهم الله تعالى بقدْر ما يأخذون بأسباب الرِّزق، ويُعافيهم بقدْر ما يأخذون بأسبابِ الوقاية، وينصر المؤمنين بقدْر ما يأخذون بأسباب الإيمان، وينصُر غيرَهم بقدر ما يأخذون بأسباب الإعْداد؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [يونس: 44].
لا مساغَ لمسلِم أن يَرْجِع فقْره ومرَضه وذُلَّه لله، محتجًّا بالقدَر، وهو لم يأخذْ بأسباب القدَر، كما قيل لعمر: أتفِرُّ مِن قدَر الله؟ فقال: "أفرُّ مِن قدَر الله إلى قدَر الله"، وهكذا الناس كلهم يدفع القدَرَ بالقدر، لا يخرجون عن مشيئته تعالى فيما قدَّر عليهم، ولا فيما شاء لهم أن يَدفعوا به ما قدَّر عليهم، كالمريض الذي يَطلُب العافية بالعلاج، والعائِل الذي يطلب الكفايةَ بالعمل، وفي تقدير الله تعالى للأوَّل حِكمة التمحيص، وفي تقديره للثاني حِكمة الرحمة.
ومَن لم يفقهِ القدر حقَّ الفقه، أودَى به ذلك إلى مهاوٍ قد لا يعود بعدَها للإيمان؛ يقول ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "ولهذا يُروى: "الله ينصر الدولة العادلة وإنْ كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة" كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه - (28/63)]، هذا قانون الأسباب الذي خلَقه الله يومَ خَلَق السموات والأرض، فمِن آخِذ به أو تارِك له، فلكلِّ نفس ما كسبَتْ، وعليها ما اكتسبت.
ولعلَّ قائلاً يقول: بذلتُ الجهد فلم أجنِ الثمرة، وكيف أثْمر في مجتمعٍ يَظلم فيه الغنيُّ الفقير، ويستعبِد فيه ذو المنصب مَن حمَلوه على كواهلهم؟!
ولكن ألاَ يَرَى هؤلاء أنَّ الإسلام دِينٌ له تكليفٌ جماعي، قد كلَّف الناس بالوَحْدة، التي بها يأخذون على يدِ الظلمة، و"يأطرونهم على الحقِّ أطرًا" - كما قال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم؟
فهناك فرْض عيْن، وهناك فرْض كفاية، الخَلَل في الأوَّل يُعاقَب عليه الفرْد وحدَه، والخَلَل في الثاني يُعاقَب عليه المجتمعُ الذي هو مجموع أفراد، فالفَرْد معاقَب في الحالين؛ لأنَّه في الأول فرَّط فيما عليه فعْله، وفي الثاني وقَف موقفًا سلبيًّا فيما عليه الإنكار فيه، وقضية السلبيَّة تُؤذي الفرد من حيثُ كان تابعًا للمجتمع.
من هنا وجَبَ على المرء الاستنكار، فهذا قد برِئ، أمَّا الواضعُ خدَّه على كفِّه يتحسَّر، فليس له براءة، أين نحن من مراتبِ الإنكار الثلاثة، ولعلَّ تغيير المنكر بالقلْب - الذي ليس وراءَه مثقال ذرة من إيمان - سبَبٌ لأنْ يُغيِّر الله به حالَ المجتمع جميعًا؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
فليبدأ المتأذِّي بنفسه، وليكنْ هو "التغييرَ الذي يحبُّ أن يراه في العالَم".
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|