التشاؤم وآثاره السيئة
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ
وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
فالتَّشاؤمُ من العادات الجاهلية المَنْهِيِّ عنها، قال الله تعالى: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ [آل عمران: 154]
ويُعَرَّفُ التَّشاؤمُ بأنه: "سُوءُ ظَنٍّ بالله تعالى بِغَيرِ سَبَبٍ مُحَقَّق"، وهو توقُّعٌ سلبيٌّ للأحداث القادمة، يجعل المرءَ ينتظر حُدوثَ الأسوأ
ويتوقَّع الشرَّ، والفشلَ، وخيبةَ الأمل، وهذا مِمَّا يُضْعِفُ التَّوحيدَ في قلب المُسلم.
وقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن التشاؤم وهو في آخر حياته المباركة؛ فعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، يَقُولُ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»؛ رواه مسلم. قال ابن القيم رحمه الله:
(فَمَنْ ظَنَّ بِأَنَّهُ لَا يَنْصُرُ رَسُولَهُ، وَلَا يُتِمُّ أَمْرَهُ، وَلَا يُؤَيِّدُهُ وَيُؤَيِّدُ حِزْبَهُ، وَيُعْلِيهِمْ وَيُظْفِرُهُمْ بِأَعْدَائِهِ، وَيُظْهِرُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَنْصُرُ دِينَهُ
وَكِتَابَهُ، وَأَنَّهُ يُدِيلُ الشِّرْكَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ إدَالَةً مُسْتَقِرَّةً يَضْمَحِلُّ مَعَهَا التَّوْحِيدُ وَالْحَقُّ اضْمِحْلَالًا
فَقَدْ ظَنَّ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَنَسَبَهُ إِلَى خِلَافِ مَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَصِفَاتِهِ وَنُعُوتِهِ).
ومن سُنَنِ الله الماضيةِ في خَلْقِه أنَّ الله سبحانه ينصرُ ويُؤيِّدُ مَنْ أحسنَ الظنَّ به، ويقطَعُ عونَه ومَدَدَه عن الذين أساؤوا ظنَّهم به
وتشاءموا؛ ﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ ﴾ [فصلت: 23].
والمتشائِمُون ينظُرون إلى العصاة نظرةَ اليائِسِ من صلاحهم، بالحُكْمِ عليهم مُسبقًا، وتناسوا أنَّ الله تعالى يُقلِّبُ القلوبَ
والأبصارَ كما يقلِّبُ الليلَ والنهارَ؛ ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: 56]، فالنَّظرةُ المُتشائمة
تُجاهَ العُصاة والمذنبين، والتَّعاملُ اليائس والبائس، ونَهْرُهم بِغِلْظَةٍ وقسوةٍ - ربما تدفعهم إلى المُكابرة، والتَّمادي في غيهم
وقد كانوا يرجون كلمةً حانِية، ونصيحةً هادِية.
وليتأمل المتشائمون اليائسون هذا الحديثَ العظيمَ الشأنِ؛ فعَنْ جُنْدَبٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ:
وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ [أي: يَحْلِفُ عَلَيَّ] أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ»؛ رواه مسلم.
فينبغي على المسلم أنْ يُنَقِّيَ قلبَه من كلِّ ظنٍّ سيِّئٍ بالله، حتى لو أُصيب بأعظم المصائب، ووقعتْ عليه أشدُّ الكروب، ويجب عليه أنْ يعتقد
بأنَّ الله تعالى يفعل ما يشاء، لا رادَّ لِحُكمه وقضائه، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ
وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»؛ رواه مسلم.
والتشاؤم داءٌ نفسيٌّ خطير يُصيب كثيرًا من الناس، وله آثارٌ خطيرة؛ فيُصيب صاحِبَه بالهزيمة النَّفسية، وباليأسِ والقنوطِ من رحمة الله
فيقتل الآمالَ، ويغتال الأحلامَ، ويتحوَّل الإنسانُ لمهزومٍ نفسِيًّا، وينعكس ذلك على قراراته وخطواته وتحركاته، وتنعكس هذه الهزيمةُ - أيضًا -
على سلوكه وهديه، فترى كثيرًا من المهزومين نفسِيًّا أسرى الأوهام والظُّنون، ويتولَّد عندهم فُقدان الثقة.
والتشاؤم مظهرٌ من مظاهر اعتلال الصِّحة النفسية؛ لأنه يستنزف الطاقة، ويُقلِّل النشاطَ، ويُضعف التفكيرَ، ويُبعد صاحبَه
عن مظانِّ الأملِ والسعادة، والثقةِ بالنَّفس والنجاح؛ ولذلك فإنَّ التفاؤل من مظاهر الصحة النفسية الجيدة.
والتشاؤم يؤدي إلى الاكتئاب، وكثيرٍ من الأمراض النفسية، فالدراساتُ الطِّبية تُثْبِتُ وجودَ علاقةٍ وطيدةٍ بين التشاؤم والاكتئاب
واليأس، والقلق، والوسواس القهري، وبين التشاؤم وقِلَّةِ ساعات النوم، والشعورِ بالوحدة، والشخصيةِ الفصامية
والأعراضِ الجِسمية، واعتلالِ الصحة النفسية.
والمتشائمون يُقَيِّمون أداءَهم بصورة أكثر سلبية، ويُقلِّلون من قيمة كفاءة أدائهم، بل يُبالغون في اتِّهام أنفسهم بالضَّعف
والقُصور، ودائمًا ما تُسيطر عليهم المشاعِرُ السلبية نحوَ الأشياءِ والأحداث، وجوانبِ الحياة بصفةٍ عامة.
ويؤدي التشاؤم إلى الانطواءِ والانعزال، والانسحاب الاجتماعي؛ لأن الرُّوح السلبية، والكآبة التي يعيشها المتشائم
تجعله يرى أنه لا فائدة تُرجى من الحياة والناس، فيدعوه ذلك إلى الانطواء على الذات، والانعزال عن الناس.
ويؤثر التشاؤم على صحة البدن؛ فيؤدي إلى ضعف البدن وهُزالِه، لأنَّ المُتشائم يظن أنْ لا فائدة تُرجى من العلاج، فيستسلم للمرض
فيقعد عن التَّطبُّب الذي أمَرَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قوله: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ؛ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»؛ رواه مسلم.
قال ابن القيم رحمه الله: (فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ» تَقْوِيَةٌ لِنَفْسِ الْمَرِيضِ وَالطَّبِيبِ، وَحَثٌّ عَلَى طَلَبِ ذَلِكَ الدَّوَاءِ
وَالتَّفْتِيشِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْمَرِيضَ إِذَا اسْتَشْعَرَتْ نَفْسُهُ أَنَّ لِدَائِهِ دَوَاءً يُزِيلُهُ، تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِرُوحِ الرِّجَاءِ، وَبَرَدَتْ عِنْدَهُ حَرَارَةُ الْيَأْسِ
وَانْفَتَحَ لَهُ بَابُ الرَّجَاءِ، وَكَذَلِكَ الطَّبِيبُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ لِهَذَا الدَّاءِ دَوَاءً؛ أَمْكَنَهُ طَلَبُهُ، وَالتَّفْتِيشُ عَلَيْهِ).
والتشاؤم يُضعف جهاز المناعة، ويُقلل من نِسبة الشِّفاء، ويؤدي إلى الشعور بآلامٍ حِسِّيَّةٍ تتضاعف
بسبب الآلام المعنوية، ويؤثر على العقل بسبب كثرة التفكير، والظنونِ السيئة.
_ د. محمود بن أحمد الدوسري.
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|