تفسير سورة التوبة (الحلقة الأولى) شهادة الله تعالى على الأمة آخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بها
الحلقة الأولى: شهادة الله تعالى على الأمة
آخرَ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بها
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه الغر الميامين.
لئن كانت سورة الأنفال - وقد نزلت في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة - جسرًا بين فترة استضعاف للمسلمين سبقت في مكة، وهم قليل يخافون أن يتخطفهم الناس[1]، وبين قيام أمرهم نصرًا مؤزرًا بالدعم الإلهي، وحيًا وملائكة وقيادة نبوية حكيمة بقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران: 123]، فقامت لهم أول دولة وثقت سورةُ الأنفال بآياتها وتوجيهاتها عرى الوحدة الإيمانية بينهم، ولاء لله وحده، وأخوة بين المؤمنين، جهادًا وصمودًا ومدافعة، وكانت بذلك وصفا دقيقا للحالة الإسلامية الجنينية للأمة الناشئة، وسماتها الغالبة التي استحدثتها فيها التربية القرآنية والقيادة النبوية، وصورةً واضحة لما سارت عليه الأحداث بعدها بناءً عقديًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا للجيل الأول، وإشادةً بما قدمه، انتصارًا للدين وفدائيةً له، وحمايةً لدولته الناشئة، بأهدافها في إحقاق الحق وإبطال الباطل كما يريده الله تعالى بقوله: ﴿ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [الأنفال: 7، 8]، فإن سورة التوبة بعدها كانت جسرًا بين الدولة الإسلامية النبوية التي أقام أركانها رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بداية هجرته إلى المدينة ومقامه بها إلى آخر عهد له بها، وبين الدولة التي أقامها صحابته رضي الله عنهم، فهما للقرآن والسنة واجتهادًا، وما تركهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم اشتدَّ به وجَعُه، فيما رواه الشيخان[2] من حديث عبدالله ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "لما حُضِر[3] رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلم أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعده)، فقال عمر: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله"، فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (قوموا)، وكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، من اختلافهم وَلَغَطِهم"[4].
كما كانت هذه السورة في الوقت نفسه صورة واضحة لما آل إليه المجتمع المسلم المتكامل في تفاعله مع أحكام الدين وتوجيهات الرسول الأمين في السنوات الثلاثة: الثامنة، والتاسعة، والعاشرة للهجرة، التي ختم في نهايتها الوحي والتحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وترك الناس خلائف في الأرض بين أيديهم القرآن وآخر سورتين نزلتا، سورة المائدة في موسم الحج من السنة العاشرة إكمالًا لأحكام دينهم، فلم تبق لهم حجة في الإخلال بها أو الزيغ عنها، وسورة براءة قبلها في موسم حج السنة التاسعة، فيها تشخيص دقيق لأحوالهم النفسية وخلجات قلوبهم وخفايا نواياهم وسرائرها، ومسبار كاشف لصدق إيمانهم، ووصف دقيق لأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، ورصد لما نشأ في بعضهم أو تسلل إلى صفِّهم من الأمراض دقها وجليلها، واختبار لمدى وفائهم بعهودهم ومواثيقهم مع ربهم ونبيهم والناس أجمعين، بعد أن خرجوا من ضائقة الاستضعاف والفاقة إلى رحابة الغنى والسعة والنصر، وقد كثر عددهم وتشبَّب أطفالهم، وترجَّل شبابهم، واكتهل رجالهم، وشاخ كهولهم، وتنوَّعت مشاربهم، واختلفت آراؤهم ومطالبهم ومطامحهم، وظهرت فيهم قيادات وكفاءات سياسية وعسكرية ذات مشارب ومآرب، واسترجعت في الوقت نفسه طوائف الطلقاء والعتقاء[5] أنفاسها بالعفو النبوي يوم فتح مكة، فأخلص منهم الإيمان من أخلص، ونافق من نافق، واندسَّ في المجتمع منهم من يخرب ويبلبل الصفَّ ويتآمر في الظلام، وبقيت في أطراف الجزيرة وأعرابها على الشرك والوثنية طوائف وقبائل وبطون، وأصبح موسم الحج يجمع مع المسلمين خليطًا من المعتقدات الفاسدة والعادات الجاهلية التي تتعارض مع القيم الإسلامية ومجتمعها الناشئ الجديد.
كل ذلك والرسول صلى الله عليه وسلم بما يوحيه إليه ربُّه سبحانه، يواصل الإصلاح والتوجيه والفرز والتمييز للمجتمع المسلم عن غيره، ويتابع ترميم ما يحدث فيه من شقوق وأغباش تصور وخلل تصرف، ويتحسب للعدو الخارجي الشمالي بأرض الشام وما حولها، حيث الإمبراطورية البيزنطية تحكم أمرها وتجند أهلها من عجم الروم وعرب الغساسنة وقضاعة في أطراف الشام وشمال الحجاز، ويدافع في الوقت نفسه مؤامرات المنافقين والمخالفين المستترين والظاهرين، ويغزو المشركين الذين يحاولون تخريب المشروع الإسلامي الناشئ في ذات السلاسل[6] بجمادى الآخرة من السنة الثامنة للهجرة، وفي حنين ثم في الطائف[7] في شهر واحد هو شوال من السنة الثامنة نفسها، ثم في تبوك التي خرج لها من المدينة مشيّعًا بالإمام علي كرم الله وجهه [8]، في رجب من السنة التاسعة، ومخلفًا له عليها[9]، فقال: "يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان؟" فقال صلى الله عليه وسلم: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي؟).
لقد كانت كل هذه الطوائف الضالَّة بعد الهزائم التي مُنيت بها تأمل نقض عرى الدين، وتخطط له ولو بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ بهم الأمر حد الإعداد لاغتياله صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من غزوة تبوك[10] في السنة التاسعة للهجرة، ومحاولة تزييف دعوته ومصادرتها موازاة لذلك على يد أبي عامر الراهب الذي سمَّاه الرسول صلى الله عليه وسلم "أبا عامر الفاسق" ومجموعة من المنافقين الذين أسسوا مسجدًا وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم تزكيته بالصلاة فيه، كي يكون بديلًا للمسجد النبوي في حال نجاح مؤامرتهم باغتياله وتصفيته، فنزل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم كاشفًا مكرهم وسمَّاه "مسجد ضرار" وأمر بهدمه وإحراقه، ونزل فيه قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 107، 108].
في هذه الظروف الاجتماعية والسياسية والعسكرية والضوائق الاقتصادية والمؤامرات الداخلية والخارجية على المسلمين، نزلت سورة التوبة نورًا يُقوِّي به الله عزائم الصادقين، ويثبت به أفئدتهم، ويكشف لهم به معالم الطريق، وخبايا النفوس ومعادن الرجال، ويُعِدُّهم في الوقت نفسه لما ينتظرهم بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ولئن ذهب بعض أهل التفسير إلى أن سورة التوبة كانت آخر ما نزل من القرآن الكريم، فإن الثابت روايةً أنها ليست الأخيرة، وأن سورة المائدة نزلت بعدها مُتمِّمة لأحكام الدين، لما صح أنها نزلت بعد عصر الجمعةِ يومَ عَرَفةَ في حجةِ الوداع من السنة العاشرة للهجرة، والنبي صلى الله عليه وسلم واقفٌ بعَرَفات على العضباء، فكادت عضُدُ الناقة تندق لثقلها فبرَكَت، وفيها نزل قوله عز وجل: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]. وما روي عن أسماء بنت يزيد[11] قالت: إني لآخذة بزمام العضباء -ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذ أُنزِلت عليه المائدة كلها، فكادت من ثقلها تدق عضد الناقة، وما قاله أحمد عن عبدالله بن عمرو قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها، وعن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال: "آخر سورةٍ أنزلت جملةً، سورة المائدة"، قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (هي آخر القرآن نزولًا، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها)، وذكر القرطبي عن أبي ميسرة قال[12]: "المائدة من آخر ما نزل، ليس فيها منسوخ، وفيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها، وهي:" ﴿ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ﴾ [المائدة: 3]، ﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ﴾ [المائدة: 4]، ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ﴾ [المائدة: 5]، ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [المائدة: 5]، وتمام الطهور؛ أي: إتمام ما لم يذكر في سورة النساء[13] بقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلَاةِ ﴾ [المائدة: 6]، ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ [المائدة: 38]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ﴾ [المائدة: 95] إلى قوله ﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ [المائدة: 95]، ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ﴾ [المائدة: 103]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ.... ﴾ [المائدة: 106]. قال القرطبي:"وفريضة تاسعة عشرة هي قوله عز وجل: ﴿ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [المائدة: 58]، إذ ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه، أما ما جاء في سورة الجمعة فمخصوص بالجمعة"، وسورة المائدة بذلك أجمع سورة في القرآن لفروع الشرائع إباحةً وتحريمًا وأمرًا ونهيًا. توازيها وتتكامل معها سورة التوبة التي نزلت قبلها بسنة واحدة، وعالجتا معًا الحالة الإسلامية المجملة بشقيها: في سورة المائدة الجانب التشريعي، وفي سورة التوبة الجانب الاجتماعي والسياسي والعسكري، ومختلف العلاقات عهودًا ومواثيق مع أهل الكتاب يهودًا ونصارى، ومع المنافقين الكامنين المتربصين تحت الأرض، وغيرهم من المتحركين الساعين بالمكر والأذى، والسورتان بذلك متكاملتان اختتم بهما الوحي في السنوات الأخيرة من العهد النبوي، ونزل بعدهما مباشرة نعي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في سورة النصر بقوله تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 1 - 3]، فلما قرأها صلى الله عليه وسلم على أصحابه ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص، فرحوا واستبشروا وبكى العباس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا يُبْكِيكَ يَا عَمُّ؟)، فقال العباس: "نُعِيَتْ إِلَيْكَ نَفْسُكَ"، فقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهُ لَكَمَا تَقُولُ)، وعاش بعدها ستين يومًا أو قريبًا منها، ما رئي فيها ضاحكًا مستبشرًا.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|