قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان | الآية 14
» تفسير الوسيط: تفسير الآية
والأعراب: اسم جنس لبدو العرب، واحده أعرابى، وهم الذين يسكنون البادية.
والمراد بهم هنا جماعة منهم لا كلهم، لأن منهم، مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ، أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ قال الآلوسى: قال مجاهد: نزلت هذه الآيات في بنى أسد، وهم قبيلة كانت تسكن بجوار المدينة، أظهروا الإسلام، وقلوبهم دغلة، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا.. ويروى أنهم قدموا المدينة في سنة مجدبة، فأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم:جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان.. يمنون بذلك على النبي صلّى الله عليه وسلّم .
وقوله- سبحانه -: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا من الإيمان، وهو التصديق القلبي، والإذعان النفسي والعمل بما يقتضيه هذا الإيمان من طاعة لله-تبارك وتعالى- ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله: أَسْلَمْنا من الإسلام بمعنى الاستسلام والانقياد الظاهري بالجوارح، دون أن يخالط الإيمان شغاف قلوبهم.
أى: قالت الأعراب لك- أيها الرسول الكريم- آمنا وصدقنا بقلوبنا لكل ما جئت به، وامتثلنا لما تأمرنا به وتنهانا عنه.
قل لهم لَمْ تُؤْمِنُوا أى: لم تصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية..وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أى: ولكن قولوا نطقنا بكلمة الإسلام، واستسلمنا لما تدعونا إليه استسلاما ظاهريا طمعا في الغنائم، أو خوفا من القتل.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما وجه قوله-تبارك وتعالى-: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا والذي يقتضيه نظم الكلام أن يقال: قل لا تقولوا آمنا، ولكن قولوا أسلمنا ...
قلت: أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولا، ودفع ما انتحلوه، فقيل: قل لم تؤمنوا، وروعي في هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرح بلفظه، حيث لم يقل: كذبتم، ووضع، «لم تؤمنوا» الذي هو نفى ما ادعوا إثباته موضعه..واستغنى بالجملة التي هي «لم تؤمنوا» عن أن يقال: لا تقولوا آمنا، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهى عن القول بالإيمان.. .
وقوله: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ جملة حالية من ضمير، «قولوا» و «لما» لفظ يفيد توقع حصول الشيء الذي لم يتم حصوله.
أى: قولوا أسلمنا والحال أنه لم يستقر الإيمان في قلوبكم بعد، فإنه لو استقر في قلوبكم لما سلكتم هذا المسلك، ولما مننتم على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بإسلامكم.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: وقد استفيد من هذه الآية الكريمة: أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل، حين سأل عن الإسلام.
ثم عن الإيمان.. فترقى من الأعم إلى الأخص.
كما يدل على ذلك حديث الصحيحين عن سعد بن أبى وقاص، أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أعطى رجلا ولم يعط آخر.
فقال سعد: يا رسول الله، مالك عن فلان إنى لأراه مؤمنا، فقال: «أو مسلما» ..فقد فرق صلّى الله عليه وسلّم بين المؤمن والمسلم.
فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام.
كما دل هنا عن أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية، إنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم.
فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه، فأدبوا بذلك.. .
ثم أرشدهم- سبحانه - إلى ما يكمل إيمانهم فقال: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
ومعنى: «لا يلتكم» لا ينقصكم.
يقال: لات فلان فلانا حقه- كباع- إذا نقصه.
أى: وإن تطيعوا الله-تبارك وتعالى- ورسوله، بأن تخلصوا العبادة، وتتركوا المن والطمع، لا ينقصكم- سبحانه - من أجور أعمالكم شيئا، إن الله-تبارك وتعالى- واسع المغفرة والرحمة لعباده التائبين توبة صادقة نصوحا.
» تفسير القرطبي: مضمون الآية
قوله تعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم .
نزلت في أعراب من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر .
وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها ، وكانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة ، وجعلوا يمنون عليه فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية .
وقال ابن عباس : نزلت في أعراب أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا ، فأعلم الله أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين .
وقال السدي : نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح : أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والديل وأشجع ، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم ، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا ، فنزلت .
وبالجملة فالآية خاصة لبعض الأعراب ; لأن منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر كما وصف الله تعالى .
ومعنى ولكن قولوا أسلمنا أي : استسلمنا خوف القتل والسبي ، وهذه صفة المنافقين ; لأنهم أسلموا في ظاهر إيمانهم ولم تؤمن قلوبهم ، وحقيقة الإيمان التصديق بالقلب .
وأما الإسلام فقبول ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الظاهر ، وذلك يحقن الدم .
وإن تطيعوا الله ورسوله يعني إن تخلصوا الإيمان لا يلتكم أي : لا ينقصكم .
من أعمالكم شيئا لاته يليته ويلوته : نقصه .
وقرأ أبو عمرو ( لا يألتكم ) بالهمزة ، من ألت يألت ألتا ، وهو اختيار أبي حاتم ، اعتبارا بقوله تعالى : وما ألتناهم من عملهم من شيء قال الشاعر :أبلغ بني ثعل عني مغلغلة جهد الرسالة لا ألتا ولا كذباواختار الأولى أبو عبيد .
قال رؤبة :وليلة ذات ندى سريت ولم يلتني عن سراها ليتأي : لم يمنعني عن سراها مانع ، وكذلك ألاته عن وجهه ، فعل وأفعل بمعنى .
ويقال أيضا : ما ألاته من عمله شيئا ، أي : ما نقصه ، مثل ألته ، قاله الفراء .
وأنشد [ للشاعر عدي بن زيد ] :ويأكلن ما أعنى الولي فلم يلت كأن بحافات النهاء المزارعاقوله : فلم يلت أي : لم ينقص منه شيئا .
وأعنى بمعنى أنبت ، يقال : ما أعنت الأرض شيئا ، أي : ما أنبتت .
والولي المطر بعد الوسمي ، سمي وليا لأنه يلي الوسمي .
ولم يقل : لا يألتاكم ، لأن طاعة الله تعالى طاعة الرسول .