القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ﴿وقالوا﴾ ، وقالت اليهود والنصارى: ﴿لن يدخل الجنة﴾ .
* * *
فإن قال قائل: وكيف جمع اليهود والنصارى في هذا الخبر مع اختلاف مقالة الفريقين؛ واليهود تدفع النصارى عن أن يكون لها في ثواب الله نصيب، والنصارى تدفع اليهود عن مثل ذلك؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه. وإنما عنى به: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى. ولكن معنى الكلام لما كان مفهوما عند المخاطبين به معناه، جُمع الفريقان في الخبر عنهما، فقيل: ﴿وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى﴾ الآية - أي قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا.
* * *
وأما قوله: ﴿من كان هودا﴾ ، فإن في"الهود" قولين: أحدهما أن يكون جمع"هائد"، كما جاء "عُوط" جمع "عائط"، و "عُوذ" جمع "عائذ"، و "حُول" جمع"حائل"، فيكون جمعا للمذكر والمؤنث بلفظ واحد. و"الهائد" التائب الراجع إلى الحق.(١)
والآخر أن يكون مصدرا عن الجميع، كما يقال:"رجل صَوم وقوم صوم"، و "رجل فِطر وقوم فطر، ونسوة فطر".(٢)
وقد قيل: إن قوله: ﴿إلا من كان هودا﴾ ، إنما هو قوله، إلا من كان يهودا، ولكنه حذف الياء الزائدة، ورجع إلى الفعل من اليهودية. وقيل: إنه في قراءة أبي:"إلا من كان يهوديا أو نصرانيا".(٣)
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى"النصارى"، ولم سميت بذلك، وجمعت كذلك، بما أغنى عن إعادته.(٤)
* * *
وأما قوله: ﴿تلك أمانيهم﴾ ، فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن قول الذين قالوا: ﴿لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى﴾ ، أنه أماني منهم يتمنونها على الله بغير حق ولا حجة ولا برهان، ولا يقين علم بصحة ما يدعون، ولكن بادعاء الأباطيل وأماني النفوس الكاذبة، كما:-
١٨٠٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿تلك أمانيهم﴾ ، أماني يتمنونها على الله كاذبة.
١٨٠٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ﴿تلك أمانيهم﴾ ، قال: أماني تمنوا على الله بغير الحق.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١١١) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله جل ثناؤه لنبيه ﷺ بدعاء الذين قالوا: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) - إلى أمر عدل بين جميع الفرق: مسلمها ويهودها ونصاراها، وهو إقامة الحجة على دعواهم التي ادعوا: من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى. يقول الله لنبيه محمد ﷺ: يا محمد، قل للزاعمين أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، دون غيرهم من سائر البشر: ﴿هاتوا برهانكم﴾ ، على ما تزعمون من ذلك، فنسلم لكم دعواكم إن كنتم في دعواكم - من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى - محقين.
* * *
والبرهان: هو البيان والحجة والبينة. كما:-
١٨٠٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿هاتوا برهانكم﴾ ، هاتوا بينتكم.
١٨٠٥- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿هاتوا برهانكم﴾ ، هاتوا حجتكم.
١٨٠٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ﴿قل هاتوا برهانكم﴾ ، قال: حجتكم.(٥)
١٨٠٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ﴿قل هاتوا برهانكم﴾ ، أي: حجتكم.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الكلام، وإن كان ظاهره ظاهر دعاء القائلين: ﴿لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى﴾ - إلى إحضار حجة على دعواهم ما ادعوا من ذلك، فإنه بمعنى تكذيب من الله لهم في دعواهم وقيلهم، لأنهم لم يكونوا قادرين على إحضار برهان على دعواهم تلك أبدا. وقد أبان قوله: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ ، عن أن الذي ذكرنا من الكلام،(٦) بمعنى التكذيب لليهود والنصارى في دعواهم ما ذكر الله عنهم.
* * *
وأما تأويل قوله: ﴿قل هاتوا برهانكم﴾ فإنه: أحضروا وأتوا به.