النموذج القاروني
ذُكِر اسمُ قارون في كتاب الله مُقترنًا بفرعون وهامان، وثلاثتهم نماذج سيِّئة تُشير على التوالي إلى المستبدِّ
الذي أطْغاه الملك العريض، والوزير الذي يزيِّن له الباطلَ ويشاركه فيه، والغني الذي أطغتْه الثروة الكبيرة
ورغم أنَّ قارون رجلٌ إسرائيلي؛ { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ } [القصص: 7].
إلاّ أنَّ صفاته تجعلُه من الملأ الفرعوني الذي يلازمه الكفر والضلال والفساد، فلا يَعنينا "قارون" كشخص
وإنَّما نتناوله كنموذج للغني الكافر بنعمة الله، والذي يصلحُ أن يخضعَ لدراسات نفسيَّة ومجتمعيَّة مُعمَّقة
لأنَّه موجود في دنيا الناس بخصائصه وصفاته، يَفْتنهم ويستفزُّهم في إيمانهم، ويكون سببًا لانحراف
كثيرٍ منهم، كما يستفزُّ الدُّعاة والعلماء ليكونوا بالمرصاد له، يَعظون ويحذِّرون ويعملون
على حماية المجتمع من إسرافه وبَغْيِه.
لقد وردتْ قصة قارون في سورة القصص من الآية 76 إلى الآية 82، ولنا معها وقفات:
إنَّ هذا الرجل من بني إسرائيل الذين كانوا أقليَّة عِرْقيَّة ودينيَّة تعيش في مصر زمنَ الفراعنة، ومنذ عهْد
يوسف - عليه السلام - وكان صاحبَ ثراءٍ فاحشٍ جعلَه يتميَّزُ عن قَوْمه المضطهدين، وينضمُّ إلى صفِّ عدوِّهم
فكان عاملَ ظُلْمٍ إضافيّ لهم{ فَبَغَى عَلَيْهِمْ }، والذي جعلَه يبغي هو ثروته الهائلة
{ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ } [القصص: 76].
وكان ينبغي أن يستعملَ هذا المال الوفير لمساعدة قومه اقتصاديًّا واجتماعيًّا؛ ليخفِّفَ عنهم طُغيان
فرعون، لكنَّ المالَ انقلبَ إلى عنصرٍ يَجْلِب لصاحبه الخُيَلاء، ولشعبه مَزيدًا من الشقاء.
أمام قارون وثروته الطائلة انقسمَ قومُه إلى فئتين؛ واحدة يبصِّرها العِلْم، والأخرى تحرِّكها
الماديَّة، أمَّا العارفون بحقيقة المال وتأثيره على النفوس الضعيفة، فقد أسدوا لصاحبهم
الغني النُّصح: { لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } [القصص: 76].
حذّروه من الغرور الذي يجعلُ الإنسان يستغني عن الله - تعالى - لأنه - في ظنِّه - لم يَعُدْ في
حاجة إليه، فهم لا يدعونه إلى الحزن، ولكن إلى التواضُع ولزوم موقع العبوديَّة لله :{ وَابْتَغِ فِيمَا
آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } [القصص: 77].
هذا القول يدلُّ على فَهْم عميقٍ لوظيفة الإنسان في الحياة،فالمؤمنُ يشتغلُ بالدنيا والآخرة معًا
ويُعطي لكلٍّ منهما من الاهتمام بقدر مُكْثه فيها؛ لذلك ذكَّروه بالباقية أولاً، وهذا هو الوضْع
الطبيعي الذي يضعُ فيه الإسلام كلاًّ من الدنيا والآخرة، فلا رهبانيَّة تفوِّت مصالحَ الدُّنيا، ولا ماديَّة
تجنحُ بالإنسان، فلا يعبدُ ربًّا، ولا يلتفتُ لموتٍ ولا بعْثٍ ولا نشور، بهذا تكون السعادة.
{ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ }[القصص: 77].
الغني - أكثر من غيره - يرى نفسه يتقلَّبُ في أعطاف النعيم، ويرى يدَ الله تُغْدِقُ عليه في كلِّ
حين من أنواع العطايا، فلا يعيش لنفسه فحسب، وإنّما يُسهمُ غيره في ثروته، فيكون عنصرًا إيجابيًّا
في المجتمع يوجد بالبذل في أوْجه البرِّ وساحات الخير، يقابل الإحسان الإلهي بإحسانٍ إلى ذوي
الحاجات؛ شكرًا لله على أفضاله { وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ } [القصص: 77].
رأى هؤلاء العارفون أنَّ التديُّنَ الحقيقي - بالنسبة للغني - لا يقتصرُ على الإنفاق من ماله فحسب
ولكن يشمل من الجِهة الأخرى الإمساك عن توظيف المال في أيِّ مشروعٍ يُفْسد الاقتصاد أو الأخلاق
أو الأذواق؛ لأنَّ المال الوفير يُغْرِي صاحبَه بهذا، ومصداق ذلك في فضائيَّات الرَّذيلة وجرائدها
التي يمتلكُها المسلمون فضلاً عن غيرهم.
ومن المفروض أن يكونَ لصاحب الأموال المتنوِّعة حضورٌ إيجابي في مجتمعه يُسْهِمُ
في خِدْمته ونشْر الصلاح فيه؛ من خلال الاستثمار والإنفاق، ولأنَّ الفسادَ نتيجة اغْترار الرجل
بثروته ومكتسباته، فقد كرَّروا عليه ما يبغضه الله:
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } [القصص: 76].
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [القصص: 77].
وقارون من شعْبٍ بُعِثَ فيه الأنبياء، وأُنْزِل عليه الكتاب، فلعلّ هذه الموعظة ترقِّق قلبَه
وتفتح ذِهْنَه على الحقائق، وتردُّه إلى المنهج القويم، لكنَّ افتتانَه بوضْعه الاجتماعي لم يزدْه
إلاّ غيًّا { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } [القصص: 78].
هذا ما يحدث للمغرورين دائمًا، يؤْتيهم الله النعمَ فيأخذهم البطر، وتتضخَّم ذواتُهم، ويجحدون المنعِم
ويُمْكِننا ملاحظة هذا الزهو والاعتزاز بالقوَّة الماديَّة في الغرب، فهو "فرح فخور"، يُعْلن أنَّه لم يعدْ في حاجة
إلى الله؛ لأنَّ العلمَ الذي يمتلكُ ناصيتَه يجيب عن كلِّ الأسئلة، ويفسِّر كلَّ شيءٍ ويحلُّ كلَّ المعضلات
وكانت النتيجة هذا الاستعلاء في الأرض، وهذا البغي والفساد الذي أصابَ شرره البشريَّة كلَّها، فأنَّى لهذا النموذج
القاروني أن يراجعَ نفسَه ويتواضع ويستمع للنصيحة، ويستخدم عناصر القوَّة في الخير لا في الشرِّ؟!
حتى دروس التاريخ الواضحة الجليَّة لا تنفع معه
{ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا } [القصص: 78].
لا شكّ أن قارون رأى عاقبة أمثاله لكنّه لم يتَّعظْ، والغرب يعرف عواملَ سقوط الحضارات
التي ينتسب إليها، وعلى رأْسها اليونانيَّة والرومانيَّة، لكنَّه لا يتّعظ ولا يَرْعَوي رغم صيحات
كثيرٍ من عُقلائه، تمامًا كما حدثَ مع قارون.
كيف قابلَ الرجلُ الثري هذه النصائح الأخويَّة؟ لقد صمَّ أُذنيه، وأغمضَ عينيه، ومضى، في تطاوله وبَغْيه
وإصراره على المنهج المادي، وتمادى في سيرته، بل عمدَ إلى تحدِّي مجتمعه { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } [القصص: 79].
وكان للأُبَّهة التي خرجَ فيها وقْعٌ على قسم من الناس هم أهل الحِرْمان والفقر بالدَّرجة الأولى
{ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }[القصص: 79].
هكذا كان فتنة للناس فتمنوا مثل ما هو عليه من التنعم والسَّعة الماديّة، واعتمدوه كمعيار للسعادة
لكنّ قسمًا آخرَ منهم لم يخلدْ إلى النظرة السطحيَّة والمقياس المادي الأرضي، ولم ينبهرْ بمظاهر الثراء والترف
{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ }[القصص: 80].
مَن هؤلاء العارفون بحقائق الأمور؟ إنَّهم "أولو العلم"، لكنّه عِلمٌ آخرُ يقابل العلم الذي استندَ إليه
قارون في تعاليه وبَغْيه؛ { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي }[القصص: 78].
وشتَّان بين علمٍ محصور في الماديَّات التي تقودُ إلى الغرور، وبين العلم الذي يدركُ الحقائق ويميِّزُ بين الباقي
والفاني، وبين الأساسي والثانوي، هؤلاء الناصحون حِصْنٌ لقومهم من السقوط الجماعي والاستسلام
- ولو النفسي - للكبراء وأصحاب الثروات، وقد بيَّنوا أنَّ الميزان الواجب اعتماده هو الإيمان والعمل الصالح
فهو الذي يَجْلِب الثوابَ، وثواب الله خيرٌ من قارون وأمواله ومكانته، وما يُمْكن أن يُدِرَّه على المفتونين به
وقد انتبهوا إلى عنصر على درجة كبيرة من الأهميَّة هو الصبر، ويشير - والله أعلم - إلى ثبات القلب
أمامَ الإغراء المادي الذي يُزلزلُ النفوس، ويحتاج لمقاومته إلى قوَّة كبيرة للتحكُّم في النفس.
ولا يَخْفى أنَّ غيرَ قليلٍ من المسلمين مفتونون بالتفوق الغربي إلى درجة انهيار نفسيَّاتهم وتنكُّرهم للدين والهُويَّة
لهثًا وراء البهارج والملذَّات، لا يميِّزون بين محاسن الغرب ومساويه، بل الغرب كلُّه إيجابيَّات في نظرهم
والشرق هو السلبي والسيِّئ في كلِّ شيء! وما فَتِئ العلماء والدُّعاة يقومون مقامَ أولئك الناصحين
من قوم قارون يدعون إلى اعتماد المقاييس الموضوعيَّة بدلاً من ردِّ الفعل العاطفي البعيد عن العِلْم.
وقد أرادَ الله - تعالى - أن تكونَ عاقبة قارون غير عاديَّة؛ لتكون العِبْرة أبلغ لكلِّ مفتونٍ
{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ } [القصص : 81].
لقد ابتلعتْه الأرض هو وداره، فلم تسعفْه ثروته ولا حاشيته، ولا المعجبون به
{ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ }[القصص: 81].
ظهر ضَعْفُه وضَعفُ كلِّ فئة كان يمكن أن تحميه؛ أي: ظَهَرَ خطأ الاعتماد على المعيار المادي، وقد هضمَ
هذا الدَّرس - بعد نهاية قارون المأساويَّة - ذلك القسم من الشعب الذي حال حجابُ المعاصرة بينه وبين إبصار
حقائق الأمور، وكان منبهرًا بالثروة والمكانة الاجتماعيَّة؛ { وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [القصص: 82].
والسعيد من اتَّعظَ بغيره، والمصيبة أنْ يعمى بعضُ الناس عن وصايا الوحي ودروس الحياة ورصيد التاريخ
فلا يستفيقون من غفْلتهم الفكريَّة إلاَّ بعد أن ترتطمَ رؤوسهم بصخور القدر ويتعظوا بأنفسهم، وهذا - مرَّة أخرى
- حال المسلمين المنبهرين بالنموذج القاروني المتمثِّل في الغرب المادي المتغطْرِس.
وما أجمل ما خُتِمتْ به قصة قارون؛ { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا
فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [القصص: 83].
هذه هي المقاييس السماوية التي يطمئنُّ إليها المؤمنون، فيضعون المال وغيره من عناصر
الحياة في موضعها الطبيعي، بعيدًا عن دورة العُلو والطُّغْيان والفساد.
وقد وردَ ذِكْرُ قارون في موضعين آخرين مقرونًا مباشرة مع فرعون وهامان، رغم ما كان يفرِّق بينه وبينهما
من العداوة المعروفة؛ { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ } [العنكبوت: 39]، { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } [غافر: 23 - 24].
إنَّ الثراء الفاحش لم يَقُدْ قارون إلى الزهو والغرور فقط،بل رَمَى به في أودية الكفر مثله مثل فرعون
وهامان، هذا هو النموذج القاروني الذي يتكرَّر عبر الزمان والمكان في الأفراد والدول.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|