في قريتي الصغيرة ومدينتي النائية، وقبل دخولي للمدرسة، كنت أسمع همسات الكبارِ، وهَمْهمات الشباب للالتقاء والاجتماع في نهاية الأسبوع عند أحد الجيران الذي يملك تلفازًا صغيرًا بشاشة سوداءَ؛ لمشاهدة المغنية الفاتنة، والفنانة الجاذبة، التي قلما تجد بيتًا في القرية - بل في المدينة - إلا وقد تسمَّى باسمها، وخلَّد ذكرها؛ لتكون سميرة العائلة، ووردة الأسرة.
• مع بداية القرن الهجري الجديد راجت ثقافة الكاسيت، وأخذت في التوسع والانتشار في أوساط جميع شرائح المجتمع؛ لتعدد موادِّها، وتنوع محتواها، وبساطة لغتها، ورخص أسعارها.
• قبل عقدين من الزمن - تقريبًا - سُمِح للبث الفضائي المباشر بالدخول للمملكة؛ ليتيح نوعًا جديدًا وأسلوبًا حديثًا من التأثير والإبهار للقنوات العربية والفضائيات العالمية.
• في عام ١٩٩٩م استطاع أفراد المجتمع السعودي الحصولَ على إذن الاستفادة والاستمتاع بالإنترنت، الذي فتح لهم سهولة التواصل مع العالم الآخر بكل حرية وأريحية.
• في عام ٢٠٠٧م ظهر جهاز آي فون من شركة أبل (Applei Phone) الذي أحدَثَ ضجةً في العالم، وأصبح مستخدموه يتزايدون ويقدَّرون بالملايين، ومعه كانت الانطلاقة الفعلية لعالم جديد، ونمط حديث بصحبة الأجهزة الذكية.
• تلك الطفرة الإعلامية والنقلة التكنولوجية كانت في فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز بضعة عقود، ولكنها غيَّرت من أنماط الحياة: الدينية، والثقافية، والاجتماعية، والأخلاقية، والاقتصادية، والسياسية، المتوارثة من قرون.
• كل هذا التغيُّر والتحول المتسارع والمتطوِّر في الوسائل التكنولوجية والأجهزة الإلكترونية، والانفتاح الفضائي والتواصل المعلوماتي - واكبه وعاصره المواقف السلبيَّة، والمواجهة المخيبة من مؤسسات الإعلام، وهيئات الثقافة في الدول العربية والإسلامية بالتقليد والتبعيَّة، أو الهروب والانهزام، أو الذهول والانبهار!
• من أهم أهداف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو UNESCO) مواجهة التحديات الاجتماعيَّة والأخلاقية المستجَدَّة، ومن أبرز بنود ميثاق المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو isesco): مواجهة التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية في المجالات التربوية، والعلمية، والثقافية، والاتصالية.
ولكن هذه المنظَّمات خيَّبت آمال وتطلُّعات الدول والشعوب، والمجتمعات والأفراد، وفرَّطت في أهم مقوِّماتها ومكوِّناتها، وهي القيم والأخلاق، والتربية والتعليم.
• تنوَّعت الدراسات، وتعدَّدت البحوث التربويَّة والاجتماعية الموضحة والمبينة لأثر التقنية الحديثة على الفرد والمجتمع في: الفكر والتصور، والقيم والأخلاق، والاتجاهات والسلوك، ولكنها ظلَّت مجرد بحوث أكاديمية، ودراسات تثقيفيَّة، لم تلقَ اهتمامًا، ولم تواكب واقعًا، ولم تُحرِّك ساكنًا عند أصحاب الرأي وأرباب القرار.
• في ظلِّ المظاهر السلبية والآثار المؤلمة للثورة التقنيَّة، أضاءت شمعة، وبرق وميضٌ من قبل الهيئات والأفراد الأهلية والمدنية للاستفادة من هذا الفضاء الكبير من المعلومات والمخترعات، فكانت سنة (٢٠١٢م) عامَ ولادة منصات التعليم المفتوح عبر الإنترنت (MOOC (Massive Open Online Course، والتي وفَّرت التعليم والتدريب عبر الإنترنت في كافَّة التخصصات والمجالات، وبمناهج ومقررات من أعرق المعاهد والجامعات، واستقطَبت الملايين من المتابعين والمشاركين والمشاهِدِين.
• نؤمن جميعًا أن الحاضر والمستقبل لنا ولأجيالنا يتطلَّب منا كدُولٍ ومنظمات وأفراد ومؤسسات القيامَ بالمهام التالية:
١- الوعي واليقين بطبيعة تأثير سلطة الإعلام (التقليدي والرقمي) على الأفراد والمجتمعات.
٢ - إدراك أن سياسة المنع والحجب لم تَعُدْ مناسبة في الوقت الذي أصبح العالم فيه كالقرية الواحدة، بل كالكف الواحدة.
٣ - تحمُّل الأفراد والمؤسسات والمنظمات الأهليَّة والمدنية المسؤولية بالتوعية والتثقيف، والمدافعة والمقاومة، والمبادرة والمواجهة للتحديات المحدقة بالمجتمعات في كافة الجوانب والمجالات.
٤- انطلاق الرؤى والخطط الإعلامية المستقبليَّة وَفْق الدراسات الاجتماعية والتوصيات التربوية.
ومضة:
"جيل الإنترنت سيعشقُ وطنه أفضل بكثير من أجيال سابقة إذا تحدَّثت معه المؤسسة الحكومية بلغته التي يفهمها اليوم، لغة التفاعل والشبكات الاجتماعيَّة والانفتاح والثقة، وعندما لا يحصل ذلك، فهناك مخاطرة حقيقيَّة أن يستخدم (أعداء الوطن) هذه الفجوة" د. عمار بكار.