( سجادة حمراء وأرائـك الهطول# حصريآت ال روآية )  
 
 

العودة   منتدى رواية عشق > ۩ القِسـم الإسلامـي ۩ > ۩ { قِسم الحَج والعُمرة } ۩

الملاحظات

۩ { قِسم الحَج والعُمرة } ۩ قسم الحج والعمرة بكل ما يتعلق بالحج والعمرة مناسكها وشروطها , حج , سعي مشكور , ذنب مغفور , حج , بيت الله الحرام.

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم منذ /08-01-2020   #13

 
الصورة الرمزية دره العشق

دره العشق غير متواجد حالياً

 عضويتي » 1043
 انتسابي » Jan 2019
 آخر حضور » ()
جنسي  »  Female
آبدآعاتي » 137,708
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
мч ммѕ ~
MMS ~

دره العشق غير متواجد حالياً

افتراضي

واجبات الحج

الواجبات جمع واجب ، والواجب في فريضة الحج بالذات هو ما لو تركه الحاج لا يبطل حجه ، ولكنه يأثم ، بتركه عمدا ويجب عليه فيه دم .
وواجبات الحج كثيرة ، منها ما هو متفق عليه ومنها ما هو مختلف فيه ، فالمتفق على وجوبه أربعة :
(1)
الإحرام من الميقات لمن كان خارجه ، وهو واجب باتفاق العلماء ، لحديث لا تجاوزوا الميقات إلا بإحرام والمراد هنا الميقات المكاني وقد مر تحديد المواقيت المكانية ، أما الميقات الزماني فهو أشهر الحج وقد سبقت أيضا . فمن عبر الميقات بدون إحرام فإن الواجب عليه ذبح شاة ، وقد كان ابن عباس يرد من جاوز الميقات بدون إحرام حتى يحرم منه .
(2)
رمي الجمار .
(3)
الذبح للمتمتع والقارن ، وسيأتي توضيح لهذين الواجبين .
(4)
البعد عن المحرمات ، وابن حزم يرى أن الوقوع في المعاصي أثناء الحج يبطل الحج وفي ذلك يقول : كل من تعمد معصية أي معصية كانت - وهو ذاكر لحجه مذ يحرم إلى أن يتم طوافه بالبيت للإفاضة ويرمي الجمرة - فقد بطل حجه .
والمختلف في وجوبه وغيره تسعة :

(1)
التلبية وقت الإحرام :
وهي واجبة عند مالك على المشهور ، وسنة عند الشافعي وأحمد وشرط عند أبي حنيفة ، أما التلبية بعد الإحرام فهي سنة عند الجميع .
(2)
طواف القدوم :
وهو واجب عند مالك وسنة عند غيره .
(3)
صلاة الطواف :
وهي واجبة عند الأحناف ، وقول لمالك والشافعي ، وسنة عند أحمد والأصح عند الشافعي .
(4)
السعي بين الصفا والمروة :
وهو واجب يجبر بدم عند الأحناف ، والصحيح عند أحمد ، وركن عند مالك والشافعي ورواية عن أحمد .
(5)
مد الوقوف بعرفة إلى ما بعد الغروب لمن وقف نهارا ؟ وهو واجب عند الأحناف ومالك وأحمد ، وسنة عند الشافعي وابن حزم ، ومن وقف ليلا فلا شيء عليه .

(6)
الحلق أو التقصير :
وهو ركن عند الشافعي ، وواجب عند الثلاثة .
(7)
طواف الوداع :
وهو واجب عند الأحناف والشافعي وأحمد ، وسنة عند مالك وفرض عند ابن حزم يجب على من تركه العودة للقيام به ولو كان ولده في أقصى الأرض وكل ذلك سبق ذكره والخلاف فيه .
(9,8)
المبيت بمزدلفة والوقوف بها وهذان لم يسبق الكلام عليهما ،
وإليك التفصيل والبيان عنهما وعن رمي الجمار ، والذبح .

المناسك المطلوبة بمزدلفة

التعريف بمزدلفة

المزدلفة عبارة عن واد يمتد من محسر غربا إلى المأزمين شرقا ، طوله نحو أربعة آلاف متر ، وسمي بذلك لأن الناس يأتون إليه في زلف (أي : ساعات) من الليل ، ويقال له : جمع ، لاجتماع الناس به ، والمزدلفة من الحرم ، وفيها يرى على يمين السائر إلى عرفة (المشعر الحرام) على بعد 2548 مترا من أول الوادي من جهة المحسر ، والمشعر الحرام جبل بالمزدلفة ، سمي بذلك لأن العرب في الجاهلية كانت تشعر عنده هداياها (والإشعار هو الضرب بشيء حاد في سنام الجمل حتى يسيل الدم) والمشعر الحرام يسمى أيضا : قزحا ، ويحيط به جداران ، كل منهما ارتفاعه أربعة أمتار وعرضه ثلاثة ، والمسافة بينهما ستون مترا .
وفي نهاية المزدلفة يضيق الوادي إلى خمسين مترا عرضا في مسافة طولها 4372 مترا تنتهي إلى العلمين اللذين هما حد الحرم من جهة عرفة ، وهما بناءان أقل من بناء المشعر الحرام ، والمسافة بينهما مائة متر ، وهذا الوادي يسمى : وادي المأزمين ، والمأزم هو الطريق بين الجبلين ، وفي جنوبهما طريق ضب الذي يستحب سلوكه عند الذهاب إلى عرفة ، ثم يتسع الوادي ويسمى : وادي عرنة ، وبه مسجد نمرة ، ويسمى : جامع إبراهيم ، وهو مسجد كبير طوله تسعون مترا في عرض ثمانين ، محاط بالبواكي ، وفي وسطه مجرى ماء يأتيه الماء من مجرى عين زبيدة ، وفي شماله إلى الشرق بقليل علمان ، وهما عمودان أقيما للدلالة على حد عرفة الغربي ، بينهما وبين العلمين المحددين للحرم من الشرق 1553 مترا .
(هذا) وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة ، ومزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر ، لأن عرفة من الحل وبطن عرنة من الحرم فهو غير عرفة ، وأما المزدلفة فهي من الحرم ، وبطن محسر من الحل فهي غير مزدلفة .
حكم المبيت بالمزدلفة

المبيت بالمزدلفة ليلة النحر بعد الإفاضة والنزول من عرفات سنة عند أبي حنيفة ومالك ، وواجب عند أحمد حتى نصف الليل ، وعند الشافعي واجب حتى تمر ساعة بعد نصف الليل... والأوزاعي وجماعة من التابعين وابن حزم يرون أن المبيت بها فرض .
ويسقط وجوب المبيت بالمزدلفة لعذر كضعف أو خوف زحام ، أو مرض أو فوات رفقة لقول عائشة رضي الله عنها : كانت سودة امرأة ضخمة ثبطة فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من جمع بليل فأذن لها ووددت أني كنت استأذنته فأذن لي أخرجه الشيخان وأحمد
وقال ابن عباس : أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله أخرجه الشافعي وأحمد والشيخان
والمعنى أن ابن عباس رضي الله عنهما كان من الضعفة الذين أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من المزدلفة ليلا إلى منى ، وهذا إذن عام لكل صاحب عذر في الذهاب إلى منى قبل الفجر لرمي جمرة العقبة قبل الزحام ، وهذا متفق عليه .
الوقوف بالمزدلفة

الوقوف بالمزدلفة بعد طلوع فجر يوم النحر وقبل طلوع الشمس واجب عند الأحناف وسنة عند مالك والشافعي وأحمد .
وقد عرفت أن المزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر للحديث السابق ، ومن وقف بها محمولا ، أو نائما ، أو مغمى عليه ، أو على غير طهارة ، فإن ذلك يحسب له ، لأن النية والطهارة ليستا شرطا في الوقوف بالمزدلفة ولا في المبيت .
والسنة لمن وقف بالمزدلفة بعد الفجر أن يقف على قزح ، ويكثر من الذكر والدعاء ، وأن ينصرف إلى منى إذا أسفر الصبح وظهر ظهورا واضحا ، وقبل طلوع الشمس ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بها ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس مخالفا للمشركين ، لأنهم كانوا لا يفيضون إلى منى إلا بعد طلوع الشمس .
ويسن الاغتسال لهذا الوقوف ، والتعجيل بصلاة الصبح ليدرك الناس الوقوف والدفع قبل طلوع الشمس ، ويسن المشي بسكينة ووقار حتى لا يحصل إيذاء لأحد ، إلا إذا وصل إلى وادي محسر فإنه يسرع إن كان ماشيا ، ولا يوجد من يزاحمه مزاحمة ضارة ، لأن النبي فعل ذلك . وهذا الوادي هو الذي هلك فيه أصحاب الفيل .


رمي الجمار

الجمار جمع جمرة وهي : الحجر الصغير ، ورميها قذفها وهذا في اللغة ، وأما في الشرع فالمراد برمي الجمار هو : القذف بحصى معين في زمان معين ومكان معين .
والجمار التي ترمى ثلاث بمنى ؛ الصغرى التي تلي مسجد الخيف ، والوسطى والكبرى وهي جمرة العقبة ، وإليك البيان في مباحث الرمي بالجمار .
حكم رمي الجمار

رمي جمرة العقبة يوم النحر ، ورمي الجمار الثلاث يومين بعد يوم النحر واجب عند الأئمة الأربعة والجمهور : لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمي جمرة العقبة يوم النحر ضحى ورمي في سائر أيام التشريق بعدما زالت الشمس أخرجه السبعة والبيهقي وقال الترمذي : حديث حسن صحيح . وقال عبد الرحمن بن عثمان التيمي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرمي الجمار بمثل حصى الخذف في حجة الوداع أخرجه الطبراني في الكبير بسند رجاله رجال الصحيح .
أوقات الرمي

أيام الرمي أربعة : يوم النحر ، وأيام التشريق الثلاثة ، أما يوم النحر فترمى فيه جمرة العقبة فقط .
وقد أجمع المسلمون على أن من رمى جمرة العقبة يوم النحر من طلوع الشمس إلى زوالها فقد أصاب السنة ، ورمى في الوقت الذي يستحب فيه الرمي .
ويجوز أنه يرميها ابتداء من نصف ليلة النحر عند عطاء وطاوس والشعبي وابن أبي ليلى وعكرمة بن خالد والشافعي وأحمد ، وعن أحمد أيضا أنه يجزئ بعد الفجر قبل طلوع الشمس ، وهو قول مالك وأصحاب الرأي (الأحناف) وإسحاق وابن المنذر.. وقال مجاهد والثوري والنخعي لا يرميها إلا بعد طلوع الشمس .
وكذلك يجوز تأخير الرمي بعد الزوال إلى غروب الشمس . قال ابن عبد البر : أجمع أهل العلم على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها ، وإن لم يكن ذلك مستحبا لها (إلا أن يكون التأخير لعذر مثل الزحام وغيره) .
فإن أخرها عن الغروب لغير عذر ، فهو مكروه ، ولا شيء عليه عند أبي حنيفة والشافعي ومحمد بن المنذر ويعقوب ، ومعهم مالك ، غير أنه مرة يقول : وعليه دم ، ومرة لا يقول بذلك .
ويرى أبو حنيفة وأحمد وإسحاق : تأجيل الرمي إلى الغد (ثاني أيام العيد) بعد الزوال.. ويكره الرمي قبل طلوع الشمس لغير عذر أيضا ، لأنه خلاف السنة كما علمت ، أما أصحاب الأعذار فلا شيء عليهم في تقديم ولا تأخير حسبما تقدم .
فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لرعاة الإبل أن يرموا بالليل أخرجه البزار ولهذا يجوز التأخير لأصحاب الأعذار ولو إلى آخر أيام التشريق .
وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم : أمر أم سلمة ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت رواه أبو داود والحاكم والبيهقي ، ورجاله رجال الصحيح .
وجاء في حديث أسماء أنها رمت ثم رجعت فصلت الصبح وذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للظعن (النساء) متفق عليه أي : أذن لهن في الرمي ليلا . والخلاصة أن رمي جمرة العقبة يجوز ابتداء من نصف ليلة النحر إلى فجر الثاني من أيام النحر عند بعضهم وبعضهم لا يجيز الرمي بالليل وإنما من جاءه الليل ولم يرم فليؤجل الرمي إلى ما بعد الزوال في ثاني يوم النحر . والسنة كون الرمي بعد طلوع شمس يوم النحر إلى زوالها لمن لا عذر له ، فإن كان له عذر فالسنة في حقه وقت إمكانه ما دام ذلك في وقت الجواز ووقت الجواز إلى آخر أيام التشريق .
وأما وقت الرمي بعد يوم النحر وفي أيام التشريق الثلاثة ، فالمستحب أن يكون الرمي كل يوم بعد زوال الشمس حتى غروبها من اليوم نفسه .
ويجوز التأخير إلى طلوع شمس اليوم التالي بغير كراهة إن كان عذر ، وبغير عذر مكروه ، والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرمي هذه الجمار بعد زوال الشمس وبهذا قال الأئمة الأربعة غير أن أبا حنيفة أجاز الرمي في اليوم الثالث قبل الزوال ومعه في رأيه إسحاق ، ولكن لا ينفر من رمي إلا بعد الزوال ، وأجاز عطاء وطاوس الرمي قبل الزوال في جميع أيام الرمي ومعهم أبو جعفر محمد بن علي .
مكان الرمي

المطلوب أول يوم - وهو يوم النحر - أن يرمي جمرة العقبة وحدها بسبع حصيات ، وفي الأيام الثلاثة التي بعد يوم النحر ، وهي أيام التشريق ، عليه أن يرمي كل يوم الجمار الثلاثة : الصغرى ، والوسطى ، والكبرى (وهي جمرة العقبة) ويبدأ بالصغرى ، ثم الوسطى ، ثم الكبرى التي هي جهة مكة وأقرب الجمرات إليها .
من أين يؤخذ الحصى

يستحب أخذ حصى الرمي لجمرة العقبة من المزدلفة ، وهي سبع حصيات ترمي بها جمرة العقبة وحدها يوم النحر ، وأما جمار أيام التشريق فالأولى أخذها من غير المزدلفة عند الجمهور، ومن أي موضع أخذت جاز . ويكره أخذ الحصى من المسجد ومن المواضع النجسة ، ومن الجمرات التي رماها هو أو غيره .
عدد الحصى وقدر كل حصاة

المطلوب لرمي كل جمرة هو سبع حصيات ، والجمار التي ترمى كل يوم من أيام التشريق ثلاث في كل يوم من الأيام الثلاثة لمن تأخر ، ويومان لمن تعجل ، وترمى جمرة العقبة وحدها يوم النحر ، فيكون جميع الحصى الذي يرمى به بالنسبة لمن تأخر سبعون حصاة ، وبالنسبة لمن تعجل تسع وأربعون .
والقائلون بأن كل جمرة ترمى بسبع حصيات هم جمهور الفقهاء ، ومنهم الأئمة الأربعة والظاهرية ، وهناك قول للإمام أحمد : بأن خمس حصيات تكفي لكل جمرة ، والسبع أكمل ولا يجوز النقص عن خمس عنده ، واستدل على ذلك بقول ابن عباس في رمي الجمار ما أدري رماها رسول الله صلى الله عليه وسلم بست أو سبع أخرجه أبو داود والنسائي ، وأدلة الجمهور أقوى وأكثر .
ويستحب عند الجميع أن تكون كل حصاة في مقدار حبة الفول ، وهي قدر الأنملة فإن زادت أو قلت الحصاة عن ذلك كان الرمي بها جائزا مع الكراهة عند جمهور الفقهاء ، وفي رواية عن الإمام أحمد أن الرمي بحجر كبير لا يجوز .
جنس الحصى :
لا يجوز الرمي عند مالك والشافعي وأحمد إلا بالحجر ، فلا يجوز الرمي بالرصاص والحديد والذهب والفضة والزرنيخ والكحل ونحوها .
وقال الأحناف : يجوز الرمي بكل ما كان من جنس الأرض سواء أكان حجرا ، أو طينا ، أو آجرا (الطوب المحروق) أو غيرها للأحاديث المطلقة في الرمي .
واستدل الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يكون الرمي بالحصى ، ولا يكون الحصى إلا من الحجر وأما الرمي بشيء ليس من جنس الأرض فإنه لا يجوز بالإجماع .

كيفية الرمي

عرفنا أن الرمي نوعان : نوع يوم النحر ونوع في أيام التشريق . فالمطلوب يوم النحر رمي جمرة العقبة بسبع حصيات ، فإذا رماها بأية كيفية جاز ما دام قصد الرمي في المرمى قد وجد ، وما دام الحصى قد أصاب المرمى . ولكن يستحب أن يرمي على الوجه الأكمل الموافق للسنة ، وذلك بأن يقف الرامي في بطن الوادي (وهو شارع واسع الآن) قريبا من المرمى بحيث يراه ، جاعلا الكعبة عن يساره ومنى عن يمينه ، ويمسك الحصاة بطرفي إبهامه وسبابته ، ثم يرميها حصاة حصاة ، كل حصاة في رمية مستقلة ، فلو رمى جميع الحصى في مرة حسب حصاة واحدة ، ولو رماه على مرتين حسب حصاتين فقط وهكذا .
ويكبر مع كل حصاة قائلا : باسم الله والله أكبر ترغيما للشيطان وحزبه ، اللهم اجعل حجي مبرورا ، وذنبي مغفورا وسعي مشكورا .
ويقطع التلبية مع أول حصاة ، ولا يقف عند جمرة العقبة بعد الرمي ، لأن ذلك لم يرد.. وفي اليوم الأول من أيام التشريق وهو الحادي عشر من ذي الحجة يبدأ برمي الجمرة الصغرى ، وهي التي في الشمال الغربي من مسجد الخيف ، فيرميها بعد الزوال بسبع حصيات متفرقات ، يكبر مع كل حصاة كما في رمي يوم النحر ، ثم يقف بعد تمام الرمي مستقبلا القبلة حامدا مهللا مصليا على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدعو طويلا رافعا يديه حذو منكبيه مستغفرا لنفسه وأبويه والمؤمنين .
ثم يتوجه إلى الجمرة الوسطى فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ، ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي فيقف مستقبلا القبلة رافعا يديه يدعو طويلا ، ثم يأتي جمرة العقبة ويرميها من بطن الوادي بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ، ولا يقف عندها للذكر والدعاء لعدم وروده ، ولضيق المكان ولفراغه من رمي اليوم ، وما ذكر هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عند رمي الجمار .
وفي ثاني أيام التشريق يرمي الجمرات الثلاث بنفس الطريقة التي رمى بها في اليوم الأول من أيام التشريق ويستحب التوجه إلى الكعبة عند رمي الصغرى والوسطى ، ويجعل الصغرى عن يساره والوسطى عن يمينه .
فإن أراد أن يتعجل فعليه أن يفارق منى قبل غروب الشمس من ثاني أيام التشريق فإن بقي حتى غربت وجب عليه أن يرمي الجمار الثلاثة ثالث أيام التشريق ، وقال أبو حنيفة : لا يجب عليه ذلك إلا إذا بقى بمنى حتى طلع فجر اليوم الثالث منها ، فإن طلع عليه فجر اليوم الثالث وهو بمنى فإن عليه رمي الجمرات في ذلك اليوم ، لكن يجوز أن يرميها بعد الفجر من ثالث أيام التشريق ، وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعي وأحمد : لا يرمي في اليوم الثالث إلا بعد الزوال كاليومين قبله ، لأن الأحاديث جاءت بذلك .
ويشترط الترتيب بين الجمرات على الوجه السابق عند جمهور الفقهاء غير الحسن وعطاء وأبي حنيفة فإن الختار عنده أن الترتيب بين الجمرات سنة ، وقيل : واجب ، والترتيب أن يبدأ بالصغرى ثم الوسطى ، ثم الكبرى .
النيابة في رمي الجمار

من كان مريضا لا يستطيع الرمي بنفسه ، أو ضعيفا والزحام شديد لا يستطيع أن يشقه ويرمي ، أو كان محبوسا لا يستطيع الرمي بنفسه ، أو ذا عذر يمنعه من مباشرة الرمي ، فإن له أن ينيب من يرمي عنه الجمرات ، وينبغي أن يكون النائب قد رمى عن نفسه قبل أن يرمي عن غيره فإن كان لم يرم عن نفسه ورمى مرة واحدة وقع الرمي عن نفسه ، ولو أناب إنسان غيره ليرمي عنه بسبب عذر ثم زال ذلك العذر بعد رمي النائب عنه ، ولا يزال الوقت باقيا فليس عليه إعادة الرمي ، وقال بعضهم : تسن الإعادة . هذا إذا رمى النائب قبل زوال العذر ، أما إن رمى في وقت كان عذر من أنابه قد زال فإن الرمي واجب على من زال عذره باتفاق العلماء .
ترك الرمي وتأخيره

من ترك الرمي كله حتى انتهت أيام التشريق فعليه ذبح شاة فدية . ومن ترك رمي يوم واحد أو ترك رمي أكثر الحصى فيه وجب عليه دم أيضا ، كأن ترك أربع حصيات يوم النحر أو ترك إحدى عشرة حصاة في يوم من أيام التشريق ، وهذا قول الأحناف وعطاء بن أبي رباح... وإن ترك الأقل في يوم من أيام الرمي فإن عليه بكل حصاة صدقة كصدقة الفطر ، صاعا أو نصفه ، إذا لم يبادر فيرمي ما فاته وقالت المالكية : إن ترك حصاة أو حصاتين فعليه دم .
وقالت الشافعية : من ترك حصاة من السبع حتى مضت أيام التشريق لزمه مد من طعام ، ومن ترك اثنتين فعليه مدان ، ومن ترك ثلاثة فأكثر فعليه دم .
وإن ترك شيئا من الرمي أول أيام التشريق عمدا أو سهوا فإنه يستطيع أن يتداركه في اليوم الثاني أو الثالث ، وإن ترك رمي اليوم الثاني تداركه في اليوم الثالث على الصحيح ، وإذا تدارك الرمي فلا دم عليه ، وقد عرفت من قبل أنه يجوز رمي الأيام الثلاثة في اليوم الثالث ، وأن الرمي جائز في كل أيامه ولو جمع كل الرمي في يوم واحد عند الشافعي وأحمد .
وحكمة الرمي الانقياد لأمر الله عز وجل ، والتعبد بالسمع والطاعة له تعالى ، والاقتداء بالخليل إبراهيم والنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وترغيم الشيطان والنفور منه ، وإشعار النفس برجمه وطرده من حياتها ومن الخضوع له ، والله أعلم .
النفر بعد الرمي

النفر هو النزول من منى إلى مكة بعد الرمي :
والنفر نوعان كما سبق : نوع يكون بعد رمي الجمار يوم الثاني عشر من ذي الحجة ، ويسمى : النفر الأصغر ، ويجب أن يكون قبل غروب شمس ذلك اليوم عند الجمهور . وقال أبو حنيفة : يجوز له البقاء إلى ما قبل فجر اليوم الثالث عشر كما سبق لأنه لا يبدأ هذا اليوم إلا بطلوع فجره ، فإن نفر قبل الفجر فلا شيء عليه إلا الكراهة لأنه تأخر عن الغروب .
والنفر الثاني هو الذي يحدث يوم الثالث عشر من ذي الحجة وهو أفضل من الأول ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفر في اليوم الثالث من أيام التشريق ، قال تعالى : فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه ومن تأخرفلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله الذي إليه تحشرون
حكم المبيت بمنى ليالي الرمي

اختلف الفقهاء في حكم المبيت بمنى ليلتي التشريق لمن تعجل والليالي الثلاثة لمن تأخر . فقال الأحناف : إن المبيت بمنى ليالي التشريق سنة ، ولا شيء على من تركه ، ولكنه أساء لمخالفته السنة .
وقال الشافعية والحنابلة في المشهور عنهم : إن المبيت بها واجب ، فإن تركه ليلة لزمه التصدق بمد (قدر حفنة بالكفين المتوسطين) وإن تركه ليلتين لزمه مدان ، وإن تركه ثلاث ليال لزمه دم .
وأما المالكية فيوجبونه ويتشددون فيقولون : عليه لكل ليلة دم .
مع العلم بأن معظم الليل كالليل كله عند الجميع . وسواء أكان المبيت سنة أم واجبا فإنه يسقط عند الجميع عن أصحاب الأعذار مثل سقاة الماء ، ورعاة الإبل ، ورجال الأمن ، والقائمين على المرافق الهامة البعيدة عن منى ، ولا يستطيعون تركها ، والقائمين برعاية الأموال والماشية كالإبل والغنم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية كما رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للرعاة أن يتركوا المبيت بمنى ، وإذا غربت الشمس والرعاة بمنى فعليهم المبيت بها ؛ لأن عملهم يكون نهارا لا ليلا ، ولو غربت على السقاة وأمثالهم فليس عليهم المبيت لأن عملهم متواصل ليلا ونهارا .
ولا يرخص لأحد في ترك رمي جمرة العقبة يوم النحر ولا في ترك طواف الإفاضة يومه ، لأن ذلك مكروه .
ومن أخر الرمي يوما أو يومين فإن عليه أن ينوي الترتيب عند الرمي ، فينوي اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث . ويجوز عند البعض من العلماء تقديم يوم مع يوم ويرميهما في وقت واحد كأن يرمي ، عن اليوم الثاني من التشريق مع اليوم الأول منه ، وفي ذلك فسحة ورحمة ، ومن لم يبت بمنى ليلتي اليومين الأولين من أيام التشريق فإنه ليس له النفر الأصغر ، إنما النفر الأصغر لمن بات ، ومن لم يبت ينتظر إلى النفر الأكبر .

حكم الذبح للقارن والمتمتع

يجب على القارن والمتمتع أن يذبح شاة أو سبع بقرة ، أو سبع ناقة ، والحرم كله مكان للذبح... والسنة أن يكون الذبح يوم النحر . قال تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي
والتمتع في اللغة وفي عرف الصحابة يشمل القران والتمتع اللذين اصطلح عليهما الفقهاء . والهدي اسم لما يذبح من النعم (الإبل والبقر والغنم) على جهة القربة إلى الحرم .
هذا والذبح للمفرد بالحج سنة وليس واجبا كما أنه سنة لمن اعتمر عند بعضهم .

ترتيب أعمال الحج يوم النحر

الأعمال المطلوبة يوم النحر هي : الرمي والذبح لغير المفرد والحلق وطواف الإفاضة ، والسنة أن تؤدى على الترتيب المذكور باتفاق ، والخلاف هو هل هذا الترتيب سنة أم واجب ؟
فالجمهور ومعهم أبو يوسف ومحمد والشافعي وأحمد وداود الظاهري يرون أن الترتيب سنة فقط وأن الحاج لو قدم أو أخر فيها فلا شيء عليه إلا أن فعله مكروه لمخالفة السنة ولا دم عليه ولا إثم ، سواء فعل ذلك عامدا أو ناسيا ، وسواء أكان عالما بالترتيب أم جاهلا ، وفي رواية لأحمد أنه فرق بين الناسي والجاهل وغيرهما ، فلم ير شيئا إلى الناسي والجاهل ، ورأى أن غيرهما عليه دم .
وقالت الأحناف وابن الماجشون المالكي : إن الترتيب واجب ، وقالت المالكية قريبا من هذا ، والراجح أن الترتيب سنة . وتسرع المرأة إلى الطواف إن خافت الحيض ، ولها أن تستعمل دواء لتأخير الحيض حتى تطوف . وقد استدل الأولون بما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل في حجة الوداع فقال : يا رسول الله ، حلقت قبل أن أذبح ، فأومأ بيده وقال : لا حرج . وقال رجل : يا رسول الله : ذبحت قبل أن أرمي فأومأ بيده وقال : لا حرج . فما سئل يومئذ عن شيء من التقديم والتأخير إلا أومأ بيده وقال : لا حرج أخرجه السبعة إلا الترمذي وهذا لفظ أحمد ، وأخرجه مسلم من حديث ابن عمر أيضا .
واستدل أبو حنيفة ومالك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث رتبها حسبما ذكر ، ولكن يقال لهم : نعم فعله سنة وترك الترتيب جائز بقرينة قوله وإجابته السائلين .
كما استدلوا بقول ابن عباس من قدم شيئا من حجه أو أخره فليهرق دما أخرجه الطحاوي وابن أبي شيبة بسند صحيح ، ولكن قول الصحابي ليس حجة مع وجود نص يخالفه ، أو هو مؤول ، أو مطلق مقيد بما ذكر .
قال ابن رشد : وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى في حجته الجمرة يوم النحر ، ثم نحر بدنة ، ثم حلق رأسه ، ثم طاف بالبيت طواف الإفاضة ، وأجمع العلماء على أن هذا سنة الحج ، واختلفوا فيمن قدم من هذه ما أخره النبي صلى الله عليه وسلم أو بالعكس . فقال مالك : من حلق قبل أن يرمي جمرة العقبة فعليه الفدية ، وقال الشافعي وأحمد وداود وأبو ثور : لا شيء عليه ، وعمدتهم... وساق مثل الحديث السابق.، ثم قال : وقال أبو حنيفة : إن حلق قبل أن ينحر أو يرمي فعليه دم ، وإن كان قارنا فعليه دمان..


.
.
.








 توقيع : دره العشق
 

 

 
قديم منذ /08-01-2020   #14

 
الصورة الرمزية دره العشق

دره العشق غير متواجد حالياً

 عضويتي » 1043
 انتسابي » Jan 2019
 آخر حضور » ()
جنسي  »  Female
آبدآعاتي » 137,708
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
мч ммѕ ~
MMS ~

دره العشق غير متواجد حالياً

افتراضي

التحلل من الإحرام بالحج

عرفنا أن السنة يوم النحر هي أن يرمي الحاج جمرة العقبة ، ثم يذبح الهدي الواجب إن كان قارنا أو متمتعا ، ثم يحلق أو يقصر ثم يطوف بالبيت طواف الزيارة ، وهو طواف الركن .
وعرفنا أنه إذا حلق أو قصر فقد حل له كل شيء إلا النساء ، والسؤال الآن هو : هل الحلق الذي يحصل به التحلل الأصغر يشترط أن يكون بعد اثنين وهما جمرة العقبة والذبح أم يجوز أن يكون بعد واحد فقط وهو رمي جمرة العقبة ؟ والجواب أنه يجوز أن يحلق أو يقصر بعد الرمي ، ثم يتحلل التحلل الأصغر وبعضهم أجاز التحلل الأصغر بعد رمي جمرة العقبة بدون حلق أو تقصير بناء على أن الحلق إباحة كلبس ملابس الحل وليس نسكا .
والقول الأول للشافعي والأحناف ورواية عن أحمد ، والقول الثاني رواية ثانية لأحمد وهو قول مالك وأبي ثور وعطاء ، وقد رجحه ابن قدامة في المغني مستدلا بحديث أم سلمة إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء وكذلك قال ابن عباس .

خاتمة أعمال الحج طواف الزيارة

هذا الطواف هو طواف الركن ، ويسمى : طواف الزيارة وطواف الإفاضة ، وسبق الكلام عنه في أنواع الطواف .
ولهذا الطواف وقتان : وقت فضيلة ووقت إجزاء بمعنى أنه يجوز إيقاعه فيه ، وإن كان مخالفا للسنة ،
أما وقت الفضيلة فهو يوم النحر بعد الرمي والذبح والحلق ، وإن أخره إلى الليل فلا بأس بالتأخير .
وأما وقت الجواز فأوله من نصف الليل من ليلة النحر عند الشافعي ، ومن فجر يوم النحر عند أبي حنيفة . وهو مبني على أول وقت الرمي والخلاف فيه وقد سبق وأما آخره فالصحيح أنه غير محدود فإنه في أي وقت من الأوقات أتى به فهو صحيح ، وإنما الخلاف هو هل يجب دم بالتأخير عن أيام النحر أو عن ذي الحجة أم لا يجب ؟ غير أنه ما لم يطف طواف الركن فهو ممنوع من النساء حتى يطوفه ، وإن وطئ لم يفسد حجه ، وعليه دم ، ويجدد إحرامه .
وصفة هذا الطواف كصفة طواف القدوم سوى أنه ينوي به طواف الركن ، ويعينه بالنية ، ولا رمل فيه ولا اضطباع ، ثم إن كان سعى بعد طواف القدوم فلا سعي عليه عند طواف الزيارة ، وإلا فعليه السعي . وكذلك عليه السعي مرة أخرى إن كان متمتعا ، لأن سعيه الأول كان للعمرة ، وهذا للحج .
ويلاحظ الطائف بالبيت سنن الطواف والسنن المطلوبة بعده من الصلاة خلف المقام والشرب من ماء زمزم وغيرهما مما سبق في ذكر كيفية الطواف وسننه .


طواف الوداع

كل من أتى مكة إما أن يريد الخروج منها وإما أن يريد الإقامة فيها ، فإن أقام بها فليس عليه طواف وداع ، لأن الوداع من المفارق لا من الملازم ، سواء نوى الإقامة قبل ترك منى أم بعد ذلك ، وبهذا قال الشافعي وأحمد..
وقال أبو حنيفة : إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر (ترك منى والشفر) ثم يسقط عنه الطواف ، والصحيح الأول .
ومن عليه طواف الوداع ولم يطف فعليه دم ؛ لأنه واجب عند الأكثر ، وليس على الحائض والنفساء طواف وداع ، وإن طهرت قبل مفارقة بنيان مكة رجعت وطافت .
والمكي ليس عليه طواف وداع ؛ لأنه مقيم ، ومثله من كان منزله بالحرم ، وفيمن كان منزله قريبا من الحرم قولان : قول بوجوب الطواف وقول بعدم وجوبه لأن القريب من الشيء يأخذ حكمه .
فإن أخر الحاج طواف الزيارة حتى جاء وقت خروجه من مكة فقيل : يكفي طواف الزيارة عن طواف الوداع ، وقيل : لا يكفي لأن طواف الوداع عبادة مستقلة .
فإن طاف للوداع ثم اشتغل بالتجارة أو بأي شيء عطله عن الخروج والسفر فإن عليه إعادة طواف الوداع عند إرادته الخروج والسفر ، وذلك عند عطاء ومالك والثوري والشافعي وأحمد وأبي ثور . وقال الأحناف : إذا طاف للوداع ، أو تطوعا بعد ما حل له النفر أجزأه عن طواف الوداع ، وإن أقام شهرا أو أكثر ، لأنه طاف بعدما حل له النفر فلم يلزمه طواف بعد ذلك .
والسنة بعد طواف الوداع أن يشرب من ماء زمزم ، ثم يأتي الملتزم فيلزمه ، ويلصق به صدره ووجهه ويدعو الله عز وجل وقد سبق ذكر ذلك .

جمع الصلاة وقصرها أثناء الحج

المسافر للحج له أن يجمع الظهر والعصر جمع تقديم ، أو جمع تأخير حسب ظروف سفره ، فإن ارتحل بعد الظهر جمع جمع تقديم ، وإن ارتحل قبل الظهر أخر الظهر حتى يصليها مع العصر مجموعتين جمع تأخير بعد العصر إن ظلت القافلة مسافرة إلى ما بعد العصر ، وله مع الجمع أن يقصر الصلاة الرباعية فيصلي الظهر ركعتين وكذلك العصر والعشاء وبعضهم يرى القصر واجبا وليس مباحا فقط والراجح أنه سنة .
ويظل المسافر يقصر ويجمع حتى يصل إلى بلد ينوي الإقامة فيه أربعة أيام غير يوم الوصول ويوم الخروج للسفر ، فإن نوى الإقامة في بلد هذه المدة فإن عليه أن يتم الصلاة ويمتنع من جمعها وقال الأحناف : لا يتم الصلاة إلا إذا نوى الإقامة خمسة عشر يوما في أي بلد من البلاد غير وطنه ، أما وطنه ، فلو وصل إليه فإن الجميع متفقون أن يتم الصلاة ولو لم يبق فيه إلا وقتا واحدا .
والأحناف لا يبيحون جمع الصلاة إلا في عرفة ومزدلفة ، يوم عرفة وليلة النحر كما سنتكلم عنه .
والسفر الذي يبيح القصر والجمع هو ما تساوي مسافته حوالي 80 ك . م عند بعضهم ولكن الرأي القوي هو أن كل ما يعتبر سفرا عرفا فهو الذي تترتب عليه الأحكام الشرعية السابقة .
كما أنهم اتفقوا على أن المسافر يتم وجوبا في إحدى ثلاث حالات :
(1) : أن يعود إلى وطنه . (2) : أن يعود إلى المكان الذي سافر منه . (3) : أن يصلي وراء من يتم الصلاة .
جمع الصلاة يوم عرفة

ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة خطب الناس ، بعد زوال الشمس ، وبعد الخطبة أذن بلال ثم أقام فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ، وصلاهما مقصورتين .
فدل ذلك على أمور منها :
(1)
جواز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة ، وهو سنة بإجماع المسلمين .
(2)
للظهر والعصر المجموعين أذان واحد وإقامتان ، وبذلك قال الأحناف والشافعية وهي رواية عن أحمد ، وقال مالك : يؤذن لكل صلاة ويقيم ، والحديث حجة عليه .
(3)
يكون الأذان بعد خطبة عرفة التي يبين الإمام للناس فيها ما يطلب منهم في هذا اليوم وفي الليلة التي تعقبه واليوم الذي يليه ، وقيل غير ذلك .
(4)
تكون القراءة سرية في صلاة الفرضين .
(5)
لا تنفل قبلهما ولا بينهما ، فإن اشتغلوا بين الصلاتين بصلاة نافلة ونحوها أعادوا الأذان للعصر .
(6)
لا يشترط لجواز الجمع بعرفة إلا الإحرام بالحج في العصر ، وعلى هذا أكثر الأئمة وهذا الجمع جائز لكل من بعرفة سواء أكان من سكان مكة ، أم من سكان منى أم من غيرهما ممن حضروا من أقصى البلاد ، لأنه جمع سببه الحج وليس سببه السفر ، وهو رأي أكثر الفقهاء خلافا لبعض الشافعية .
(7)
يقصر المصلون الصلاتين فيصلون كلا منهما ركعتين ، وذلك خاص بالمسافرين إلا عند مالك فإنه يرى أن القصر أيضا سببه هنا الحج وليس السفر ، والحق أن المسافة التي بين مكة وعرفات وهي 25 ك . م تعتبر مسافة سفر عرفا فلهم القصر مثل غيرهم ، كما أن القصر في هذا اليوم قد يكون سببه الحج . فليكن ذلك واضحا حتى يشعر الجميع بيسر الدين .
(8)
كان يوم عرفة عام حجه صلى الله عليه وسلم يوم جمعة ، ولم يصل يومها جمعة ؛ بل صلى ظهرا كما في حديث جابر الذي رواه مسلم وغيره .
الجمع بمزدلفة

إذا وصل الحاج إلى مزدلفة بعد غروب الشمس من يوم النحر فإن عليه أن يجمع بين المغرب والعشاء جمع تأخير بأن يؤخر المغرب حتى يصليها بعد وجوب العشاء لا قبله ، ويصلي المغرب ثلاث ركعات والعشاء ركعتين بأذان واحد وإقامتين ، ولا يتنفل بينهما . هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه .
والجمع بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء يوم عرفة واجب عند الأحناف ، سنة عند غيرهم .
وهذا الجمع للسفر عند أبي يوسف والشافعي وأحمد ، فلا يجمع إلا مسافر ، وعند أبي حنيفه ومالك : الجمع للحج لا للسفر .
النزول بالمحصب

المُحَصَّبُ مثل مُحَمَّدٍ عبارة عن واد بين جبل الثور والحجون ويسمى الأبطح ، والبطحاء ، وخيف بني كنانة ، ويسن للحاج النزول به إذا نفر من منى إلى مكة يوم الثالث عشر من ذي الحجة ويصلي فيه الظهر والمغرب والعشاء ، ويهجع هجعة ليلة الرابع عشر ، ثم يدخل مكة ، ويطوف طواف الوداع لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع . وهذا لمن أمكنه ذلك وكان يسيرا عليه بلا مشقة ولا تكلف .
والمحصب هو المكان الذي تقاسم فيه الكفار على بني هاشم أن يقاطعوهم سياسيا واجتماعيا وماليا أيام نشأة الدعوة بمكة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم


الهدي وجميع أحكامه

الهدي في اللغة وفي الشرع اسم لما يهدى إلى الحرم من النعم قربة إلى الله تعالى ، فهو لا يكون إلا من الإبل والبقر والغنم بالإجماع ، وترتيبه في الفضل كترتيبه في الذكر فالإبل أفضل من البقر ، والبقر أفضل من الغنم باتفاق العلماء .
ولا يجزئ من النعم إلا الثني : والثني من الغنم ما له سنة ودخل في الثانية ، وأجازوا الجذع من الضأن ، وهو ما تم له ستة أشهر ، وكان سمينا . والثني من البقر والجاموس ما له حولان ودخل في الثالث ، والثني من الإبل ما له خمس سنين ودخل في السادسة ، وهذا هو رأي أكثرية الفقهاء ، وقال المالكية : الثني من البقر والجاموس ما له ثلاث سنين ودخل في الرابعة .
وقال الشافعية : الثني من المعز ما له سنتان ودخل في الثالثة .
ولا يجزئ في الهدي ما لا يجزئ في الأضحية ، وهو مقطوع أكثر الأذن أو الذنب ، لأن للأكثر حكم الكل ، ولا يجزئ العمياء والعوراء ، والعجفاء (المهزولة حتى ذهب مخها من الهزال) ولا تجزئ العرجاء التي لا تمشى برجلها المعيبة إلى مكان الذبح ، لأن هذه العيوب كلها أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تمنع الإجزاء (اقرأ الأضحية المعيبة) .
الدماء الواجبة في الإحرام

الدماء الواجبة في الإحرام ثمانية :
[/(color]
1) دم التمتع .
(2) دم القران : وهو شاة ، أو ناقة ، أو بقرة ، أو سبع الناقة ، أو سبع البقرة .
(3) دم الإحصار وهو شارة تذبح في الحرم وسيأتي .
(4) دم الفوات وهو واجب عند الجمهور خلافا للأحناف ، وسيأتي .
(5) الدم الواجب بترك واجب من واجبات النسك كالإحرام من الميقات والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار وغير ذلك .
(6) الدم الواجب بارتكاب محظور غير الوطء كالتطيب والحلق والقبلة .
(7) الدم الواجب بالجماع في النسك .
(8) الدم الواجب بالجناية على الحرم كالتعرض لصيده أو شجره .
ما تلزم فيه بدنة

تجزئ الشاة وتكفي في كل جناية ونذر إلا في أربعة فإنها لا يجزئ فيها إلا البدنة وهي إذا طاف طواف الزيارة جنبا أو حائضا أو نفساء أو جامع بعد الوقوف بعرفة قبل الحلق ، أو نذر بدنة .
إشعار الهدي وتقليده

بعض الحجاج يسوق معه الهدي عند العمرة أو الحج مقتدين بالنبي صلى الله عليه وسلم وموافقين لكثيرين من الفقهاء القائلين بذلك . والبعض الآخر يشتري هديه من الحل أو الحرم ، وأكثر الناس كانوا يأخذون الهدي إلى عرفة ليوقفوه بها ، وأيا كان الأمر فإن الذي يسوق هديه معه كان يشعره أو يقلده ، وقد كان ذلك قديما في العرب ، لأن حيوان الأنعام إذا أشعر أو قلد فإن الناس يفهمون أنه مهدى للحرم (أي : لفقرائه) فلا يتعرض له أحد - ولو رعى وحده أو مشى وحده - كما أنه بذلك لا يختلط بغيره ، وإن ضل عرف .
والإشعار هو ضربة بمحدد تشق سنام الجمل حتى يلطخ بالدم ، وكذلك يفعلون بالبقر إن كان له سنام .
وأما التقليد فهو أن يجعل في عنق الناقة ، أو البقرة ، أو الشاة قطعة من الجلد ، أو نعلا أو نحوها مما يشعر بما ذكر حسب العرف .
فمن أحرم ومعه الهدي فإنه يسن له الإشعار والتقليد من الميقات ، ومن بعث هديا إلى البيت الحرام ليذبح عنده فإنه ينبغي أن يقلد الهدي ويشعره من بلده ، ثم يرسله كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ بـعث بهديه مع أبي بكر سنة تسع من الهجرة .
ويستوي أن يكون الإشعار في الصفحة اليمنى أو في الصفحة اليسرى .

ما يطلب في الهدي

من اشترى هديا لذبحه في الحرم ، أو ساقه من بعيد لذلك فإنه يطلب منه الآتي : أن يختار السمين ، وأن يتصدق بجلاله (غطائه) ومرفقاته على مساكين الحرم ، وأن ينحر هديه بيده إن أمكنه وإلا فليشهد ذبحه ، وأن يوجه الذبيحة جهة القبلة إن استطاع ذلك ، ويقول عند الذبح ما قاله الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم : باسم الله والله أكبر
ويستحب نحر الإبل قائمة معقولة اليد اليسرى كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
أما البقر والغنم فيستحب ذبحها مضطجعة على جنبها الأيسر مرسلة رجلها اليمنى مشدودة القوائم الثلاثة.. فإن نحر ما يذبح ، أو ذبح ما ينحر جاز مع الكراهة ، وقال أحمد : لا يكره.. ومن أناب غيره ليذبح عنه فإن عليه أن يتأكد من أنه يعلم كيفية الذبح .
ويجوز الانتفاع بالهدي بالركوب والحمل عليه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معه ناقة وقد جهده المشي فأمره بركوبها ، وكانت هديا . وإن عطب الهدي الواجب أو تعيب عيبا فاحشا يمنع جوازه لو كان أضحية لزمه غيره لوجوبه عليه ، وإن خشي هلاكه ذبحه أو نحره ولطخه بدم ليعلم أنه هدي فلا يأكل منه إلا الفقراء .
وقت ذبح الهدي قال مالك وأحمد : يختص ذبح الهدي ولو تطوعا بأيام النحر الثلاثة ، والصحيح عند الشافعي أن وقت ذبح الهدي يوم النحر وأيام التشريق ، وقيل : لا يختص ذبحه بزمان مثل دماء الجبران ، وقال الأحناف : هدي التمتع والقران يذبح أيام النحر ودم النذور والكفارات والتطوع لا يختص ذبحه بوقت وعليه : إذا فات وقت ذبحه - وهو واجب - فإن الواجب ذبحه في أي وقت ، ويصنع به ما يصنع بالمذبوح في وقته ، فأما التطوع فهو مخير فيه ، فإن فرق لحمه كانت القربة بذلك دون الذبح لأنها شاة لحم .
وللشافعية تفصيل حسن إذ يقولون : إذا كان الهدي للتمتع أو القران فوقت وجوبه الإحرام بالحج ، ووقت استحباب ذبحه يوم النحر ، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ووقت جواز ذبحه بعد الفراغ من العمرة والإحرام بالحج ، لأن الذبح قربة تتعلق بالبدن فلا يجوز قبل وجوبها كالصلاة والصوم ، وعندهم قول بجواز الذبح بعد العمرة للمتمتع ، ولكنه خلاف الأولى .

مكان الذبح

يختص ذبح الهدي ولو تطوعا بالحرم في أي موضع منه ؛ لحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل عرفة موقف . وكل منى منحر ، وكل المزدلفة موقف ، وكل فجاج مكة طريق ومنحر أبو داود وابن ماجة .
والأفضل أن يكون الذبح بمنى عند الجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف ، حيث نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأفضل بالنسبة للمعتمر أن يذبح في المروة لأنها موضع تحلله وجائز ذبح جميع الهدايا في أرض الحرم باتفاق العلماء ، فكل أرض الحرم صالحة للذبح فيها .

الاشتراك في الهدي

الشاة تجزئ عن واحد في الهدي وفي الأضحية ، ومثلها المعزى ، أما البدنة - أي : الناقة أو البعير- وكذا البقرة فإنها تجزئ عن سبعة لقول جابر رضي الله عنه حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحرنا البعير عن سبعة والبقرة عن سبعة أحمد ومسلم وجمهور العلماء على أن اشتراك السبعة في الناقة أو البقرة جائز سواء أكان الكل يريد القربة أم كان البعض يريدها والبعض يريد اللحم... والأفضل ما كان أكثر نفعا للفقير سواء أكان شاة أم اشتراكا في بقرة أم جمل .

إبدال الهدي

اختلف الفقهاء في جواز إبدال الهدي بعد شرائه وتعيينه ، سواء أكان هديا واجبا كهدي النذر والقران والتمتع والجنايات ، أم كان هدي تطوع .
فالأحناف لا يجوز عندهم إبدال هدي التطوع لأنه يصير متعينا بتعيينه وتحديده ، أما الهدي الواجب فيجوز إبداله .
وقالت المالكية : إن قلد الهدي أو أشعره ، وكان منذورا بعينه لا يجوز تبديله ، وإلا جاز .
وقالت الشافعية : للمهدي التصرف في هدي التطوع بالأكل والبيع والتبديل ونحوها ، ولو قلده وأشعره ، لأنه لم يوجد منه إلا مجرد نية ذبحه على سبيل الهدي وهذه النية لا تزيل الملكية ، وكذلك لو كان واجبا في ذمته وعينه بغير نذر ، مثل أن يقول : جعلت هذا عما في ذمتي... أما لو عينه بالنذر كان قال : دله علي أن أذبحه عن الدم الواجب في ذمتي ، ونذر هدي حيوان معين ، فان ملكه يزول عنه ويصير حقا للمساكين فلا يجوز له التصرف فيه ببيع أو هبة أو إبدال .
وقالت الحنابلة : إن أوجب الشخص على نفسه هديا بقوله أو بتقليده ، أو إشعاره ناويا الهدي جاز له إبداله بالأحسن منه ، وأما إذا تطوع به فلا يلزمه إمضاؤه ، وله نماؤه وأولاده والرجوع فيه ما لم يذبحه .
(هذا) ومن لزمته بدنة ولم يجدها فله ذبح سبع شياه بدلها ، بذلك جاء نص .

مصرف الهدي

قال تعالى في الهدي : فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر .
فالمستحب هو الأكل من الهدي والتصدق منه على مساكين الحرم سواء كان هدي تمتع أو قران أو تطوع ، لأن المطلوب في ذلك هو الإراقة .
هذا في هدي الحرم ، وأما إذا ذبح في غير الحرم فإن الواجب عليه التصدق بالكل على الفقراء ، وليس للذابح ولا للغني الأكل منه ، وما أكله يغرمه للفقراء .
أما هدي غير التمتع والقران والتطوع فلا يحل الأكل منه عند الأحناف والحنابلة ، لأنه دم كفارة ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتخلي بينه وبين الناس ليأكلوه ولم يبح لصاحبه الأكل منه . وعند مالك : لا يأكل من النذر والكفارة وجزاء الصيد ويأكل مما سوى ذلك .
وقال الشافعي : لا يجوز الأكل من الهدي الواجب إذا كان منذورا ، أو جبرانا (كفارة) ومن الجيران هدي القران والتمتع .
(هذا) والمستحب في هدي التطوع كالمستحب في الأضحية أن يتصدق بالثلث ويأكل الثلث ويدخر الثلث عند أبي حنيفة لحديث كلوا وتزودوا ، وادخروا أخرجه الشيخان .
وقال الحنابلة : يأكل الثلث ، ويهدي الثلث ، ويتصدق بالثلث : جاء ذلك في أثر لابن مسعود رضي الله عنه .
وقال الشافعي : يأكل النصف ويتصدق بالنصف .
وقالت المالكية : يأكل ويهدي ، ويتصدق بدون تحديد بثلث أو غيره .
التصرف في جلد الهدي ونحوه

يستحب التصدق بجلد الهدي وجلاله وخطامه ، ولا يجوز أن يأخذ الجزار أجره من الهدي ولا يجوز بيع جلده ولا شيء من أجزائه ، ولا ينتفع به في البيت ونحوه ، وجوزوا الانتفاع بجلد هدي التطوع .

الأضحية

الأضحية والضحية : اسم لما يذبح من الإبل والبقر والغنم يوم النحر وأيام التشريق بقصد التقرب إلى الله تعالى.. ويقال فيها : أضحية بضم الهمزة وكسرها وأضحاة وضحية .
وهي ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة .
قال تعالى : إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر
والمراد بالنحر في الآية هو الذبح يوم النحر على أحد الأقوال فيشمل الأضحية والهدي وذلك قول الجمهور .
وثبت في أحاديث صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى ، وضحى المسلمون معه .
حكمها :
ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء إلى أنها سنة مؤكدة ، ولم يقل بوجوبها إلا أبو حنيفة ، وقال ابن حزم : لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة .
وقد استدل على عدم الوجوب بحديث أم سلمة عند مسلم : قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا دخلت العشر فأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعر ولا بشر شيئا قال الشافعي : إن قوله : فأراد أحدكم يدل على عدم الوجوب .
فضل الأضحية

عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من هراقة دم ، وإنه لتأتي يوم القيامة بقرونها ، وأظلافها وأشعارها ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض ، فطيبوا بها نفسا رواه ابن ماجة والترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب .
وعن زيد بن أرقم قال : قلت أو قالوا يا رسول الله : ما هذه الأضاحي ؟ قال : سنة أبيكم إبراهيم ، قالوا : مالنا منها ؟ قال : بكل شعرة حسنة ، قالوا : فالصوف ؟ قال : بكل شعرة من الصوف حسنة رواه أحمد وابن ماجة .
وصح عن أبي هريرة قوله : من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا أحمد وابن ماجة
ما تجوز منه الأضحية

أجمع العلماء على جواز الضحايا من جميع الأنعام (الإبل والبقر والغنم) ولا تجزئ من غيرها . وأما تضحية بلال بديك فتدل على عدم وجوب الأضحية كما حدث عن ابن عباس أن اشترى لحما وأخبر الناس أن هذا اللحم هو أضحيته .
واختلف العلماء في الأفضل من الأنواع الثلاثة ، فذهب مالك إلى أن الأفضل في الضحايا : الكباش ، ثم البقر ، ثم الإبل عكس الأمر في الهدايا ، وذهب الشافعي إلى عكس قول مالك وبه قال أشهب وابن شعبان
ويجزئ من كل نوع ما يجزئ منه في الهدي ، وقد سبق الكلام فيه .
وتجوز الضحية بالخصي ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى به ، ولأن لحمه أطيب .
ما لا تجوز منه الأضحية

لا تجوز الأضحية من غير الأنواع السابقة بالإجماع إلا ما ذكر عن الحسن بن صالح أنه أجاز التضحية ببقرة الوحش عن سبعة وبالظبي عن واحد .
كما لا تجور الأضحية بسن أقل من السن المشروط في كل نوع ، ولا تجزئ المريضة البين مرضها (أي : الظاهر الواضح) ولا العوراء البين عورها ، ولا العرجاء البين عرجها ، ولا الضعيفة العجفاء التي ذهب مخها كما شدة الهزال .
وهذه العيوب الأربعة متفق على أن وجود واحد منها يمنع الإجزاء ، وبها جاء الحديث ولذلك وقف الظاهرية عندها ولم يقيسوا عليها غيرها ، وقالوا : إن تحديد النبي صلى الله عليه وسلم العيوب بالأربعة المذكورة دليل على عدم الزيادة عليها ، بل يجب الوقوف عكندها فقط . كما أن هذه الأربعة اتفق العلماء على أن العيب الخفيف منها . غير مؤثر في الجواز .
وجمهور الفقهاء زادوا على هذه العيوب ما كان أشد منها ، وقالوا : إن العيب الأشد هو أحرى وأولى بمنع الإجزاء ، مثل العمى وكسر الساق الإصابة بمرض من الأمراض المعدية ، وقال هؤلاء الفقهاء : إن الحديث خاص أريد به العموم وليس خاصا أريد به الخصوص إلا أن هؤلاء الذين قالوا بالقياس وبأن الحديث خاص أريد به العام اختلفوا : فمنهم من قال : يلحق بالمذكورات ما هو أشد منها وما هو مساو لها ، وهو المشهور من مذهب مالك ، ومنهم من قال : يلحق الأشد فقط... وتفرع على ذلك اختلافهم في الآتي :
المقطوعة الأذن : قال بعضهم : إن قطع الثلث يمنع الإجزاء ، وقال آخرون : لا يمنع إلا قطع الأكثر ، وكذلك القول في الذنب ، وذهاب الأسنان ، وأطباء الثدي (الحلمات) .
وأما القرن فإن مالكا قال : ذهاب جزء منه ليس عيبا إلا أن يكون يدمي (يسيل دمه) .
واختلفوا في الصكاء (وهي التي خلقت بلا أذنين) فذهب مالك والشافعي إلى أنها لا تجوز ، وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا كان خلقة جاز ، ولم يختلف الجمهور أن قطع الأذن كله أو أكثره عيب . وما خلق بلا قرنين جائز عند الجميع ، ويسمى : الأجم .
واختلفوا في الأبتر (وهو مقطوع الذنب) فقوم أجازوه ، وقوم منعوه .
كفاية أضحية واحدة عن أهل البيت الواحد

إذا ضحى إنسان بشاة أو بمعزى فانها تكفي عنه وعن أهل بيته ممن يرعاهم وينفق عليهم ، بمعنـى أنهم يشتركون معه في الثواب ؛ لأن الأضحية سنة كفاية ، للحديث الذي رواه ابن ماجة والترمذي وصححه أن أبا أيوب قال : كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس فصار ما ترى أي : صار الناس يعتبرون ذلك بخلا حتى لا يأكل أحد من ضحيته.. وهذا قول جمهور الفقهاء ، وفيه يسر على المسلمين كبير ، وكذلك كان يفعل الصحابة .
المشاركة في الأضحية

يجوز أن يشترك في الجمل أو البقرة سبعة أشخاص ، فعن جابر رضي الله عنه قال : نحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة رواه مسلم وأبو داود والترمذي أما الشاة فلا تكفي إلا عن واحد ، ومثلها المعزى .
توزيع لحم الأضحية

لو أكل إنسان لحم أضحيته كله لجاز ذلك عند بعضهم ولكنه يعتبر مخالفا للسنة ، لأن السنة أن يأكل منها المضحي هو وأهل بيته ، ويطعم منها الفقراء ، ويهدي الأقارب والأصحاب .
وقد قال العلماء : الأفضل أن يأكل الثلث ، ويدخر الثلث ، ويتصدق بالثلث.. ويجوز نقلها ولو إلى بلد آخر ، وإليك الأدلة على ما ذكر :
(1) : عن سلمة بن الأكوع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء . فلما كان في العام المقبل قالوا : يا رسول الله . نفعل كما فعلنا في عام الماضي ؟ قال : كلوا وأطعموا وادخروا ، فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردنا أن تعينوا فيها متفق عليه .
(2) : وعن ثوبان قال : ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم . أضحيته ثم قال : يا ثوبان . أصلح لي لحم هذه ، فلم أزل أطعمه منه حتى قدم المدينة رواه أحمد ومسلم .
(3) : وعن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة ليتسع ذوو الطول (أصحاب الغنى) على من لا طول له ، فكلوا ما بدا لكم وأطعموا وادخروا رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه
فالأحاديث السابقة دالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المسلمين أن يبقوا من لحوم الأضاحي شيئا بعد ثلاثة أيام من ذبحها يوم النحر ، وذلك بسبب الجهد الذي أصاب الناس حق قدم الأعراب إلى المدينة من أجل طلب المعونة والمساعدة ، فلما انتهت هذه الشدة وجاء عام مقبل أذن النبي صلي الله عليه وسلم للمسلمين أن يأكلوا من الأضاحي ويدخروا لأهليهم ويطعموا الفقراء كما يشاءون ، إلا أن الفقهاء اختلفوا في الأكل من الأضحية : هل هو واجب أو سنة أو مباح ؟ والسبب : هو اختلافهم في مضمون قوله صلى الله عليه وسلم : كلوا هل هو إيجاب ، أو استحباب ، أو إباحة ؟
قال بعض الفقهاء بالوجوب ، وقال آخرون بالاستحباب ، وقال آخرون بالإباحة . كما اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم وتصدقوا هل هو للإيجاب أو الاستحباب أو الإباحة ، وبكل قيل . والأحوط التصدق ولو بجزء يسير منها ، والأقرباء الفقراء أولى بالصدقة ، مع العلم بأن أي أكل وأي تصدق يقوم بالمطلوب ولو قليلا .
وفي الحديث الثاني تصريح بجواز ادخار لحم الأضحية فوق ثلاث وجواز التزود منه وبأن التزود منه لا ينافي التوكل ، وأن الأضحية مشروعة للمسافر كما تشرع للمقيم ، وبه قال الجمهور ، وقال النخعي وأبو حنيفة : لا ضحية على المسافر ، وقال مالك وجماعة : لا تشرع للمسافر بمنى ومكة .
(هذا) وقد جاء في حديث النهي عن إعطاء الجزار أجرته من الأضحية ، وعلى هذا اتفق الفقهاء ، كما اتفقوا على أن جلود الأضحية إما أن يتصدق بها المضحي وإما أن ينتفع بها ، غير أنهم اختلفوا في الانتفاع ، فالبعض يقول : لا يكون الانتفاع إلا بنفس الجلود وهو الذي عليه رأي الجمهور ، والبعض القليل أجاز بيع الجلد ليشترى بثمنه شيء يستفاد به في البيت ، إما إن باعه وتصدق بثمنه فإن أكثرية من الفقهاء توافق على ذلك .

وقت الذبح

اختلف الفقهاء في أول وقت يجوز فيه ذبح الأضحية ؛ فقال أبو حنيفة : يدخل وقت الذبح في حق أهل القرى والبوادي إذا طلع الفجر من يوم النحر ، ولا يدخل في حق أهل الأمصار إلا بعد أن يصلي الإمام ويخطب ، فإن ذبح قبل ذلك لم يجز .
وقال مالك : لا يجوز الذبح إلا بعد صلاة الإمام وخطبته وذبحه أخذا بنص الحديث .
وقال أحمد : لا يجوز قبل صلاة الإمام ، ويجوز بعدها قبل أن يذبح ، سواء في ذلك أهل القرى والأمصار والبوادي ، وعلى رأيه الحسن والأوزاعي وإسحاق .
وقال الشافعي وداود وآخرون : إذا طلعت الشمس ومضى قدر صلاة العيد وخطبته أجزأ الذبح بعد ذلك ، سواء صلى الإمام أم لا ، وسواء صلى المضحي أم لا ، وسواء كان من أهل القرى ، أم من أهل الأمصار ، أم من أهل البوادي . أم من المسافرين .
قال ابن المنذر : وأجمعوا على أنه لا تجوز التضحية قبل طلوع الفجر .
وأما آخر وقت الذبح ففيه خلاف أيضا .
فأبو حنيفة ومالك وأحمد يقولون : إن وقت الذبح يوم النحر ويومان بعده ، وحكى ابن القيم عن أحمد أنه قال : هو قول غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإليه ذهبت الهادوية والناصر من أهل البيت .
وقال الشافعي وداود والظاهري : وقت الذبح هو يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة ، وقد حكي هذا المذهب عن جبير بن مطعم وابن عباس وعطاء والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز ومكحول وسليمان بن موسى الأسدي فقيه الشام
وهل تجوز التضحية في ليالي أيام الذبح أم لا ؟
قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والجمهور : تجوز مع الكراهة ، وقال مالك في المشهور عنه وهي رواية عن أحمد لا تجوز .
قال الشوكاني : والقولان يحتاجان إلى دليل ، ولا دليل ، فالأصل الجواز بدون كراهة .
والأصل في ذلك كله قوله صلى الله عليه وسلم ، حين وجد ناسا قد ذبحوا قبله يوم النحر : من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله متفق عليه .
وقوله صلى الله عليه وسلم : كل أيام التشريق ذبح أخرجه أحمد .
وابن حبان في صحيحه ، وقد طعن في صحته بعضهم .



.
.
.














 توقيع : دره العشق
 

 

 
قديم منذ /08-01-2020   #15

 
الصورة الرمزية دره العشق

دره العشق غير متواجد حالياً

 عضويتي » 1043
 انتسابي » Jan 2019
 آخر حضور » ()
جنسي  »  Female
آبدآعاتي » 137,708
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
мч ммѕ ~
MMS ~

دره العشق غير متواجد حالياً

افتراضي


الاخطاء التى تقع في الحج ؟..

أخطاء تقع في الطواف

هذه من الأخطاء التي تقع في الطواف وهي على وجوه :

" الأول :

النطق بالنية عند إرادة الطواف، فتجد الحاج يقف مستقبلا الحَجَر إذا أراد الطواف ، فيقول : اللهم إني نويت أن أطوف سبعة أشواط للعمرة ، أو اللهم إني نويت أن أطوف سبعة أشواط للحج ، أو اللهم إني نويت أن أطوف سبعة أشواط تقربًا إليك .

والتلفظ بالنية بدعة ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله ، ولم يأمر أمته به ، وكل من تعبد لله بأمر لم يتعبد به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأمر أمته به ، فقد ابتدع في دين الله ما ليس منه ، فالتلفظ بالنية عند الطواف خطأ وبدعة ، وكما أنه خطأ من ناحية الشرع فهو خطأ من ناحية العقل ، فما الداعي إلى أن تتلفظ بالنية مع أن النية بينك وبين ربك ، والله سبحانه وتعالى عالم بما في الصدور وعالم بأنك سوف تطوف هذا الطواف ، وإذا كان الله سبحانه وتعالى عالماً بذلك فلا حاجة أن تظهر هذا لعباد الله .

والنبي صلى الله عليه وسلم قد طاف قبلك ولم يتكلم بالنية عند طوافه، والصحابة رضي الله عنهم قد طافوا قبلك ولم يتكلموا بالنية عند طوافهم، ولا عند غيره من العبادات ؛ فهذا خطأ.

الثاني :

أن بعض الطائفين يزاحم مزاحمة شديدة عند استلام الحَجَر والركن اليماني ، مزاحمة يتأذى بها ويؤذي غيره ، مزاحمة قد تكون مع امرأة ، وربما ينزغه من الشيطان نزع فتحصل في قلبه شهوة عندما يزاحم هذه المرأة في هذا المقام الضنك ، والإنسان بشر قد تستولي عليه النفس الأمارة بالسوء ، فيقع في هذا الأمر المنكر تحت بيت الله عز وجل ، وهذا أمر يكبر ويعظم باعتبار مكانه كما أنه فتنة في أي مكان كان .

والمزاحمة الشديدة عند استلام الحجر أو الركن اليماني ليست مشروعة ، بل إن تيسر لك بهدوء فذلك المطلوب ، وإن لم يتيسر فإنك تشير إلى الحجر الأسود .

أما الركن اليماني فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشار إليه ، ولا يمكن قياسه على الحجر الأسود ؛ لأن الحجر الأسود أعظم منه ، والحجر الأسود ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشار إليه .

والمزاحمة كما أنها غير مشروعة في هذه الحال ، وكما أنه يُخشى من الفتنة فيما إذا كان الزحام مع امرأة ، فهي أيضًا تُحدث تشويشاً في القلب والفكر ، لأن الإنسان لا بد عند المزاحمة من أن يسمع كلاما يكرهه ، فتجده يشعر بامتعاض وغضب على نفسه إذا فارق هذا المحل .

والذي ينبغي للطائف أن يكون دائما في هدوء وطمأنينة ، من أجل أن يستحضر ما هو متلبس به من طاعة الله ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله .

الثالث :

أن بعض الناس يظنون أن الطواف لا يصح بدون تقبيل الحجر ، وأن تقبيل الحجر شرط لصحة الطواف ، ولصحة الحج أيضًا أو العمرة ، وهذا ظن خطأ ، وتقبيل الحجر سنة وليست سنة مستقلة أيضًا ، بل هي سنة للطائف ، ولا أعلم أن تقبيل الحجر يسن في غير الطواف ، وعلى هذا فإذا كان تقبيل الحجر سنة وليس بواجب ولا شرط ، فإن من لم يقبل الحجر لا نقول إن طوافه غير صحيح أو إن طوافه ناقص نقصا يأثم به ؛ بل طوافه صحيح وإذا وُجد زحام شديد فإن الإشارة أفضل من الاستلام ؛ لأنه هو العمل الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم عند الزحام ، ولأن الإنسان يتقي به أذى يكون منه لغيره ، أو يكون من غيره له .

فلو سألنا سائل وقال : إن المطاف مزدحم فماذا ترون : هل الأفضل أن أُزاحم فأستلم الحجر وأقبله ، أم الأفضل أن أشير إليه ؟

قلنا : الأفضل أن تشير إليه ؛ لأن السنة هكذا جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم .

الرابع :

تقبيل الركن اليماني . وتقبيل الركن اليماني لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والعبادة إذا لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي بدعة وليست بقربة ، وعلى هذا فلا يشرع للإنسان أن يقبل الركن اليماني ، لأن ذلك لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما ورد فيه حديث ضعيف لا تقوم به الحجة .

الخامس :

بعض الناس عندما يمسح الحجر الأسود أو الركن اليماني يمسحه بيده اليسرى كالمتهاون به ، وهذا خطأ فإن اليد اليمنى أشرف من اليد اليسرى ، واليد اليسرى لا تُقدَّم إلا للأذى ، كالاستنجاء بها والاستجمار بها ، والامتخاط بها وما أشبه ذلك ، وأما مواضع التقبيل والاحترام ، فإنه يكون لليد اليمنى .

السادس :

أنهم يظنون أن استلام الحجر والركن اليماني للتبرك لا للتعبد ، فيتمسحون به تبركًا وهذا بلا شك خلاف ما قصد به ، فإن المقصود بالتمسح بالحجر الأسود أو بمسحه وتقبيله تعظيم الله عز وجل ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استلم الحجر قال : الله أكبر ، إشارة إلى أن المقصود بهذا تعظيم الله عز وجل ، وليس المقصود التبرك بمسح هذا الحجر، ولهذا قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه عند استلامه الحجر : والله إني لأعلم أنك حجر ، لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك .

هذا الظن الخاطئ من بعض الناس- وهو أنهم يظنون أن المقصود بمسح الركن اليماني والحجر الأسود التبرك- أدى ببعضهم إلى أن يأتي بابنه الصغير فيمسح الركن أو الحجر بيده ، ثم يمسح ابنه الصغير أو طفله بيده التي مسح بها الحجر أو الركن اليماني ، وهذا من الاعتقاد الفاسد الذي يجب أن يُنهى عنه ، وأن يُبَيَّن للناس أن مثل هذه الأحجار لا تضر ولا تنفع ، وأن المقصود بمسحها تعظيم الله عز وجل وإقامة ذكره ، والاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم .

....

وكل هذه الأمور وأمثالها مما لا شرعية فيه ، بل هو بدعة ولا ينفع صاحبه بشيء ؛ لكن إن كان صاحبه جاهلا ولم يطرأ على باله أنه من البدع ، فيُرجى أن يعفى عنه ، وإن كان عالمًا أو متهاونًا لم يسأل عن دينه ، فإنه يكون آثما .

السابع :

أن بعض الناس يخصص كل شوط بدعاء معين ، وهذا من البدع التي لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يخص كل شوط بدعاء ، ولا أصحابه أيضًا ، وغاية ما في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود : ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنما جعل الطواف بالبيت والصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله ) .

وتزداد هذه البدع خطأ ، إذا حمل الطائف كتيبا ، كُتب فيه لكل شوط دعاء ، وهو يقرأ هذا الكتيب ، ولا يدري ماذا يقول ؛ إما لكونه جاهلا باللغة العربية ، ولا يدري ما المعنى ، وإما لكونه عربيًا ينطق باللغة العربية ولكنه لا يدري ما يقول ، حتى إننا نسمع بعضهم يدعو بأدعية هي في الواقع مُحرَّفة تحريفًا بينًا ، من ذلك أننا سمعنا من يقول : اللهم أغنني بجلالك عن حرامك ، والصواب : بحلالك عن حرامك .

ومن ذلك أيضًا أننا نشاهد بعض الناس يقرأ هذا الكتيب ، فإذا انتهى دعاء الشوط وقف ولم يدع في بقية شوطه ، وإذا كان المطاف خفيفًا ، وانتهى الشوط قبل انتهاء الدعاء ، قطع الدعاء .

ودواء ذلك أن نبين للحجاج ، بأن الإنسان في الطواف يدعو بما شاء وبما أحب ، ويذكر الله تعالى بما شاء ، فإذا بُيِّن للناس هذا زال الإشكال .

حكم من وقع في هذه البدع :

الناس في هذه الأمور التي يفعلونها :

إما جاهل جهلاً مطبقًا لا يطرأ بباله أن هذا محرم ، فهذا يُرجى أن لا يكون عليه شيء .

وإما عالم متعمد ليَضلَّ ويُضلَّ الناس ، فهذا آثم بلا شك وعليه إثم من اتبعه واقتدى به .

وإما رجل جاهل ومتهاون في سؤال أهل العلم ، فيُخشى أن يكون آثما بتفريطه وعدم سؤاله .

هذه الأخطاء التي سقناها في الطواف نرجو الله سبحانه وتعالى أن يهدي إخواننا المسلمين لإصلاحها، حتى يكون طوافهم موافقا لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم . وليس الدين يؤخذ بالعاطفة والميل ، ولكنه يؤخذ بالتلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

اخطاء تقع في طواف الوداع

قال الشيخ محمد ابن عثيمين – رحمه الله - : " ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، إلا أنه خفف عن الحائض " رواه البخاري (1755) ومسلم (1328) .

فالواجب أن يكون الطواف آخر عمل يقوم به الإنسان من أعمال الحج .

والناس يخطئون في طواف الوداع في أمور :

الأول :

أن بعض الناس لا يجعل الطواف آخر أمره ؛ بل ينزل إلى مكة ويطوف طواف الوداع ، وقد بقي عليه رمي الجمرات ، ثم يخرج إلى منى فيرمي الجمرات ثم يغادر ، وهذا خطأ ، ولا يجزئ طواف الوداع في مثل هذه الحال ، وذلك لأنه لم يكن آخر عهد الإنسان بالبيت الطواف ؛ بل كان آخر عهده رمي الجمرات .

الثاني :

أن بعض الناس يطوف للوداع ويبقى في مكة بعده ، وهذا يوجب إلغاء طواف الوداع ، وأن يأتي ببدله عند سفره . نعم لو أقام الإنسان في مكة بعد طواف الوداع لشراء حاجة أو لتحميل العفش أو ما أشبه ذلك فهذا لا بأس به .

الثالث :

أن بعض الناس إذا طاف للوداع وأراد الخروج من المسجد رجع القهقرى ، أي : رجع على قفاه ، يزعم أنه يتحاشى بذلك تولية الكعبة ظهره ، وهذا بدعة لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أشد منا تعظيما لله تعالى ولبيته ، ولو كان هذا من تعظيم الله وبيته لفعله صلى الله عليه وسلم . وحيئذ فإن السنة إذا طاف الإنسان للوداع أن يخرج على وجهه ولو ولى البيت ظهره في هذه الحالة .

الرابع :

أن بعض الناس إذا طاف للوداع ثم انصرف ووصل إلى باب المسجد الحرام اتجه إلى الكعبة وكأنه يودّعها ، فيدعو أو يـُسلـِّم أو ما أشبه ذلك ، وهذا من البدع أيضا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله ، ولو كان خيرا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم "


الدعاء الجماعي أثناء الطواف

قال الشيخ محمد ابن عثيمين – رحمه الله - : " من الخطأ الذي يرتكبه بعض الطائفين أن يجتمع جماعة على قائد يطوف بهم ويُلَقِنَهُم الدعاء بصوت مرتفع فيتبعه الجماعة بصوت واحد ، فتعلو الأصوات ، وتحصل الفوضى ، ويتشوش بقية الطائفين ، فلا يدرون ما يقولون ، وفي هذا إذهاب للخشوع ، وإيذاءٌ لعباد الله في هذا المكان الآمن .

ويا حبذا لو أن هذا القائد إذا أقبل بهم على الكعبة وقف بهم وقال : افعلوا كذا ، وقولوا كذا ، ادعوا بما تحبون ، وصار يمشي معهم في المطاف حتى لا يخطئ منهم أحد ، فطافوا بخشوع وطمأنينة ، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ، وتضرعاً وخفيةً بما يحبونه ، وما يعرفون معناه ويقصدونه ،وسلم الناس من أذاهم .

(وكذلك) رفع الصوت بالدعاء فإن بعض الطائفين يرفع صوته بالدعاء رفعاً مزعجاً ، يُذهب الخشوع ، ويُسقط هيبة البيت ، ويُشوش على الطائفين ؛ والتشويش على الناس في عباداتهم أمر منكر، ( فعن أبي سعيد قال اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة أو قال في الصلاة ) أخرجه أبو داوود (1332) وصححه الألباني في صحيح أبي داوود 1183.

ولكن بعض الناس - نسأل الله لنا ولهم الهداية - في المطاف يرفعون أصواتهم بالدعاء ، وهذا كما أن فيه المحذورات التي ذكرناها ، وهي إذهاب الخشوع ، وسقوط هيبة البيت ، والتشويش على الطائفين ، فهو مخالف لظاهر قوله تعالى : ( ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين ) .


الشك في عدد أشواط الطواف والجمع بين القولين


أولاً : الشك لا يخلو من حالين :
الحال الأولى : أن يكون داخل العبادة، ففي هذه الحال يبني على الأقل ، فلو شك هل طاف خمساً أو ستاً بنى على الأقل "خمساً"، لأن هذا هو المتيقن والزيادة "ستاً" مشكوك فيها ، ودليل ذلك : قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ) رواه مسلم (888) .
قال ابن قدامة رحمه الله: "..وإن شك في عدد الطواف, بنى على اليقين. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك. ولأنها عبادة فمتى شك فيها وهو فيها, بنى على اليقين كالصلاة..." انتهى من "المغني"(3/187)
الحال الثانية : أن يكون الشك بعد الفراغ من العبادة، فلا يلتفت إليه على الصحيح من أقوال العلماء، لأن الأصل سلامة العبادة من النقص، وحتى لا يفتح على نفسه باب الوسوسة.
جاء في "الموسوعة الفقهية" (29/125): " أما إذا شك بعد الفراغ من الطواف فلا يلتفت إليه عند الجمهور, وسوى المالكية بينه وبين ما إذا كان في الطواف, وأطلق الحنفية عباراتهم في الشك..."انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " الشك بعد الفراغ من العبادة لا عبرة به ، ومثل ذلك : لو شك في أشواط الطواف هل طاف ستة أو طاف خمسة ، نقول : إذا كان في أثناء الطواف فليأت بما شك فيه ، وينتهي الموضوع ، وإذا كان بعد أن فرغ من الطواف وانصرف ، قال : والله ما أدري هل طفت ستة أو سبعة ؟ فلا عبرة بهذا الشك ، يلغي هذا الشك ، ويجعلها سبعة .
وهذه قاعدة مفيدة للإنسان : إذا كثرت الشكوك معه فلا يلتفت إليها ، وإذا وقع الشك بعد الفراغ من العبادة فلا يلتفت إليه ، إلا أن يتيقن ، فإذا تيقن وجب عليه أن يأتي بما نقص" انتهى من فتاوى "نور على الدرب" .



طاف للإفاضة والوداع في اليوم العاشر

أولا :
السنة للحاج أن يبقى في منى نهارا ، لفعله صلى الله عليه وسلم ، وله أن يخرج منها إلى مكة أو جدة ونحوها ، لا سيما إذا كان ذلك لعدم وجود مكان له في منى .
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : هل الخروج في أيام التشريق إلى ما قرب من مكة كجدة مثلا غير مخلّ بالحج ؟
فأجاب : "لا يخل بالحج ، ولكن الأفضل أن يبقى الإنسان ليلا ونهارا بمنى كما بقي النبي صلى الله عليه وسلم فيها ليلا ونهارا ". انتهى من "مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (23/241، 243) .
وينظر جواب السؤال رقم 36244 .
ثانيا :
طواف الوداع إنما يكون بعد فراغ الإنسان من نسكه ، أي بعد أيام منى ورمي الجمرات ، ولا يجوز ولا يصح تقديمه على ذلك ، فمن طاف للوداع في اليوم العاشر أو الحادي عشر ، لم يجزئه .
ويجوز تأخير طواف الإفاضة لوقت الوداع ، كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم 36870 .
قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله : " وأما من مسكنه في جدة وطاف طواف الإفاضة قبل أن يخلّص الرجم ونوى في طوافه أن الطواف طواف إفاضة ووداع ، فهذا لا يجزيه عن الوداع ، لأنه لم يكمل أعمال الحج بعد .
ولو كان طوافه للإفاضة المذكور بعد فراغه من الرمي ونواه للإفاضة ، واكتفى به عن الوداع ، ولم يقم بعده بل سافر في الحال . كفاه عن الوداع " انتهى من "فتاوى الشيخ ابن إبراهيم" (6/108) .
والحاصل : أن طوافكم للوداع غير صحيح ، وانصرافكم إلى جدة بعد المناسك دون طواف ، يلزمكم فيه دم ، وهو شاة تذبح في الحرم وتوزع على فقرائه .
وكذلك الزوجة يلزمها ذبح شاة ، ما لم تكن في وقت الوداع حائضا ؛ لأن الوداع يسقط عن الحائض ، لما روى البخاري (1755) ومسلم (1328) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ) .
ولا يصح طوافكم للوداع الآن ، ولا يسقط عنكم الدم بفعله ، لأنكم غادرتم مكة بلا وداع .
فقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله : نحن من سكان جدة قدمنا العام الماضي للحج ، وأكملنا جميع المناسك ما عدا طواف الوداع ، فقد أجلناه إلى نهاية شهر ذي الحجة ، وبعد أن خف الزحام عدنا ، هل حجنا صحيح ؟
فأجاب : "إذا حج الإنسان وأخر طواف الوداع إلى وقت آخر فحجه صحيح ، وعليه أن يطوف للوداع عند خروجه من مكة ، فإن كان في خارج مكة كأهل جدة وأهل الطائف والمدينة وأشباههم فليس له النفير حتى يودع البيت بطواف سبعة أشواط حول الكعبة فقط ليس فيه سعي ؛ لأن الوداع ليس فيه سعي بل طواف فقط ، فإن خرج ولم يودع البيت فعليه دم عند جمهور أهل العلم ، يذبح في مكة ويوزع على الفقراء والمساكين وحجه صحيح كما تقدم ، هذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم ، فالحاصل أن طواف الوداع نسك واجب في أصح أقوال أهل العلم ، وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : " من ترك نسكا أو نسيه فليهرق دما " وهذا نسك تركه الإنسان عمدا ، فعليه أن يريق دما يذبحه في مكة للفقراء والمساكين ، وكونه يرجع بعد ذلك لا يسقطه عنه ، هذا هو المختار ، وهذا هو الأرجح عندي والله أعلم " انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (17/ 397).


الوقوف على الحجر الأسود وتعطيل الطواف


عرض هذا السؤال على الشيخ محمد ابن عثيمين – رحمه الله – فقال :

" الوقوف عند هذا الخط لا يحتمل وقوفا طويلا ؛ بل يستقبل الإنسان الحجر ويشير إليه ويكبر ويمشي ، وليس هذا موقفا يطال فيه الوقوف ، لكني أرى بعض الناس يقفون ويقولون : نويت أن أطوف لله تعالى سبعة أشواط ، طواف العمرة ، أو تطوعا ، أو ما أشبه ذلك ، وهذا يرجع إلى الخطأ في النية ، وأن التكلم بالنية في العبادات بدعة ، لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه ؛ فأنت تؤدي العبادة لله سبحانه وتعالى ، وهو عالم بنيتك فلا يحتاج إلى أن تجهر بها "


أخطاء تقع في الذهاب إلى عرفة وفي عرفة
قال الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله - :

" ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مكث يوم عرفة بنمرة ( وهو موضع قبل عرفة ) حتى زالت الشمس ( وهو أول وقت الظهر ) ، ثم ركب ، ثم نزل في بطن وادي عرنة ( وهو واد بين نمرة وعرفات ) ، فصلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين جمع تقديم ، بأذان واحد وإقامتين ، ثم ركب حتى أتى موقفه فوقف ، وقال : وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف ، فلم يزل واقفا مستقبل القبلة رافعًا يديه يذكر الله ويدعوه حتى غربت الشمس وغاب قرصها فدفع إلى مزدلفة .

ومن الأخطاء التي يرتكبها الحجاج في عرفة ما يلي:

الأول :

أن الحجاج يمرون بك ولا تسمعهم يلبون، فلا يجهرون بالتلبية في مسيرهم من منى إلى عرفة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة في يوم العيد .

الثاني :

ومن الأخطاء العظيمة الخطيرة أن بعض الحجاج ينزلون خارج عرفة ، ويبقون في منزلهم حتى تغرب الشمس ، ثم ينطلقون منه إلى مزدلفة ، وهؤلاء الذين وقفوا هذا الموقف ليس لهم حج ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الحج عرفة " رواه الترمذي (889) وصححه الألباني في إرواء الغليل (1064) . فمن لم يقف في عرفة في المكان الذي هو منها، وفي الزمان الذي عين للوقوف بها فإن حجه لا يصح للحديث الذي أشرنا إليه ، وهذا أمر خطير.

وقد جُعلت علامات واضحة لحدود عرفة لا تخفى إلا على رجل مفرط متهاون ، فالواجب على كل حاج أن يتفقد الحدود حتى يعلم أنه وقف في عرفة لا خارجها .

ويا حبذا لو أن القائمين على الحجِّ أعلنوا للناس بوسيلة تبلغ جميعهم ، وبلغات متعددة ، وعهدوا إلى المُطَوّفين بتحذير الحُجّاج من ذلك ، ليكون الناس على بصيرة من أمرهم ، ويُؤَدُّوا حجَّهم على الوجه الذي تبرأ به الذِّمةُ .

الثالث :

أن بعض الناس إذا اشتغلوا بالدعاء في آخر النهار ، تجدهم يتجهون إلى الجبل الذي وقف عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن القبلة تكون خلف ظهورهم أو عن أيمانهم أو عن شمائلهم ، وهذا أيضًا جهل وخطأ ؛ فإن المشروع في الدعاء يوم عرفة أن يكون الإنسان مستقبل القبلة ، سواء كان الجبل أمامه أو خلفه ، أو عن يمينه أو عن شماله ، وإنما استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الجبل ؛ لأن موقفه كان خلف الجبل ، فكان صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة ، وإذا كان الجبل بينه وبين القبلة فبالضرورة سيكون مستقبلا له .

الرابع :

أن بعضهم يظن أنه لا بد أن يذهب الإنسان إلى موقف الرسول صلى الله عليه وسلم الذي عند الجبل ليقف هناك ، فتجدهم يتجشَّمون المصاعب، ويركبون المشاق ، حتى يصلوا إلى ذلك المكان ، وربما يكونون مشاة جاهلين بالطرق فيعطشون ويجوعون إذا لم يجدوا ماء وطعاما ، ويضلـُّون في الأرض ، ويحصل عليهم ضرر عظيم بسبب هذا الظن الخاطئ ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف " .

وكأنه صلى الله عليه وسلم يشير إلى أنه : ينبغي للإنسان ألا يتكلف ليقف في موقف النبي صلى الله عليه وسلم ، بل يفعل ما تيسر له ، فإن عرفة كلها موقف .

الخامس :

أن بعض الناس يعتقدون أن الأشجار في عرفة كالأشجار في منى ومزدلفة ، أي : لا يجوز للإنسان أن يقطع منها ورقة أو غصنـًا أو ما أشبه ذلك ؛ لأنهم يظنون أن قطع الشجر له تعلق بالإحرام كالصيد ، وهذا ظن خاطئ ، فإن قطع الشجر لا علاقة له بالإحرام ، وإنما علاقته بالمكان ، فما كان داخل حدود الحرم - أي : داخل الأميال - من الأشجار فهو محترم ، لا يعضد ولا يقطع منه ورق ولا أغصان، وما كان خارجـًا عن حدود الحرم فإنه لا بأس بقطعه ولو كان الإنسان محرما ، وعلى هذا فقطع الأشجار في عرفة لا بأس به ... ، ( وأما الأشجار التي غرسها الناس فلا يشملها تحريم قطع الشجرة من أجل الحرم ، ولكنها قد يحرم قطعها بسبب آخر وهو الاعتداء على حق من غرسها ، وعلى حق الحجاج أيضاً إذا كانت إنما غرست من أجل أن تلطف الجو ويستظل بها الناس من حر الشمس .

وعلى هذا فالأشجار المغروسة بعرفة لا يجوز قطعها لا من أجل الحرم وإنما لأن قطعها اعتداء على حق المسلمين عموماً ) .

السادس :

أن بعض الحجاج يعتقدون أن للجبل الذي وقف عنده النبي صلى الله عليه وسلم قدسية خاصة ، ولهذا يذهبون إليه ، ويصعدونه ، ويتبركون بأحجاره وترابه ، ويعلقون على أشجاره قصاصات الخرق ، وغير ذلك مما هو معروف ، وهذا من البدع ، فإنه لا يشرع صعود الجبل ولا الصلاة فيه ، ولا أن تعلق قصاصات الخرق على أشجاره ؛ لأن ذلك كله لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بل فيه شيء من رائحة الوثنية ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على شجرة للمشركين يعلقون بها أسلحتهم ، فقال من معه : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الله أكبر ، إنها السنن ، لتركبن سنَن من كان قبلكم ، قلتم- والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة . رواه الترمذي (2180) وحسنه الألباني في صحيح السنة للابن أبي عاصم .

وهذا الجبل ليس له قدسية ، بل هو كغيره من الروابي التي في عرفة ، والسهول التي فيها ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف هناك ، فكان المشروع أن يقف الإنسان في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم إن تيسر له ، وإلا فليس بواجب ، ولا ينبغي أن يتكلف الإنسان الذهاب إليه لما سبق .

السابع :

أن بعض الناس يظن أنه لا بد أن يصلي الإنسان الظهر والعصر مع الإمام في المسجد ، ولهذا تجدهم يذهبون إلى ذلك المكان من أماكن بعيدة ليكونوا مع الإمام في المسجد ، فيحصل عليهم من المشقة والأذى والتيه ما يجعل الحج في حقهم حرجا وضيقا ، ويضيق بعضهم على بعض ، ويؤذي بعضهم بعضا ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الوقوف : " وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف " ، وقال صلى الله عليه وسلم أيضا : " جُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " . فإذا صلى الإنسان في خيمته صلاة يطمئن فيها بدون أذى عليه ولا منه ، وبدون مشقة تلحق الحج بالأمور المحرجة ، فإن ذلك خير وأولى .

الثامن :

أن بعضهم يخرج من عرفة قبل أن تغرب الشمس ، فيدفع منها إلى المزدلفة ، وهذا خطأ عظيم ، وفيه مشابهة للمشركين الذين كانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس ، ومخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم يدفع من عرفة إلا بعد أن غابت الشمس وذهبت الصفرة قليلا ، كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه .

وعلى هذا فإنه يجب على المرء أن يبقى في عرفة داخل حدودها حتى تغرب الشمس ؛ لأن هذا الوقوف مؤقت بغروب الشمس ، فكما أنه لا يجوز للصائم أن يفطر قبل غروب الشمس ، فلا يجوز للواقف بعرفة أن ينصرف منها قبل أن تغرب الشمس .

التاسع :

إضاعة الوقت في غير فائدة، فتجد الناس من أول النهار إلى آخر جزء منه وهم في أحاديث قد تكون بريئة سالمة من الغيبة والقدح في أعراض الناس ، وقد تكون غير بريئة لكونهم يخوضون في أعراض الناس ويأكلون لحومهم، فإن كان الثاني فقد وقعوا في محظورين :

أحدهما : أكل لحوم الناس وغيبتهم ، وهذا خلل حتى في الإحرام ؛ لأن الله تعالى يقول : { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } .

والآخر : إضاعة الوقت .

أما إن كان الحديث بريئا لا يشتمل على محرم ففيه إضاعة الوقت ، لكن لا حرج على الإنسان أن يشغل وقته بالأحاديث البريئة فيما قبل الزوال ، وأما بعد الزوال وصلاة الظهر والعصر فإن الأولى أن يشتغل بالدعاء والذكر وقراءة القرآن ، وكذلك الأحاديث النافعة لإخوانه إذا مل من القراءة والذكر ، فيتحدث إليهم أحاديث نافعة ؛ في بحث من العلوم الشرعية أو نحو ذلك مما يدخل السرور عليهم ، ويفتح لهم باب الأمل والرجاء لرحمة الله سبحانه وتعالى ، ولكن لينتهز الفرصة في آخر ساعات النهار ، فيشتغل بالدعاء ويتجه إلى الله عز وجل متضرعا إليه ، مخبتا منيبا طامعا في فضله راجيا ، لرحمته ، ويلح في الدعاء ، ويكثر من الدعاء الوارد في القرآن وفي السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن هذا خير الأدعية ، وإن الدعاء في هذه الساعة حري بالإجابة "




بعض الأخطاء التي تحدث في الذهاب إلى منى وفي المبيت بها ليلة عرفة

"من الأخطاء التي تكون في الذهاب إلى منى :
أن بعض الناس لا يجهر بالتلبية مع مشروعية الجهر بها ، فتمر بك أفواج الحجاج ولا تكاد تسمع واحداً يلبي ، وهذا خلاف السنة ، وخلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ، فالسنة للإنسان في التلبية أن يجهر بها ويرفع صوته بذلك ما لم يشق عليه ، وليعلم أنه لا يسمعه شيء من حجر أو مدر ، إلا شهد له يوم القيامة عند الله سبحانه وتعالى .
ومن ذلك أيضاً : أن بعض الحجاج يذهب رأساً إلى عرفة ولا يبيت في منى ، وهذا وإن كان جائزاً ؛ لأن المبيت في منى قبل يوم عرفة ليس بواجب ، لكن الأفضل للإنسان أن يتبع السنة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث ينزل في منى من ضحى يوم الثامن إلى أن تطلع الشمس لليوم التاسع ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وقال : (لتأخذوا عني مناسككم) رواه مسلم (1218) .
لكنه لو تقدم إلى عرفة ولم يبت في منى في ليلة التاسع فلا حرج عليه ؛ لحديث عروة بن المضرس أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر يوم العيد في مزدلفة وقال : يا رسول الله ، أكللت راحلتي وأتعبت نفسي ، فلم أر جبلاً إلا وقفت عنده فهل لي من حج ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (من شهد صلاتنا هذه ، ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً ، فقد تم حجه وقضى تفثه) رواه أبو داود (1950) .
ولم يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم المبيت بمنى ليلة التاسع ، وهذا يدل على أنه ليس بواجب .
ومن الأخطاء في بقاء الناس في منى في اليوم الثامن : أن بعض الناس يقصر ويجمع في منى ، فيجمع الظهر مع العصر ، والمغرب مع العشاء ، وهذا خلاف السنة ، فإن المشروع للناس في منى أن يقصروا الصلاة بدون جمع ، هكذا جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان الجمع جائزاً ؛ لأنه في سفر ، والمسافر يجوز له الجمع نازلاً وسائراً ، لكن الأفضل لمن كان نازلاً من المسافرين أن لا يجمع إلا لسبب ، ولا سبب يقتضي الجمع في منى ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجمع في منى ، ولكن يقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين ، فيصلي الظهر ركعتين في وقتها ، والعصر ركعتين في وقتها ، والمغرب ثلاثاً في وقتها ، والعشاء ركعتين في وقتها ، والفجر في وقتها" انتهى .


أخطاء تقع في الطريق إلى مزدلفة وفي مزدلفة


قال الشيخ محمد ابن عثيمين – رحمه الله - : " من الأخطاء التي تقع في الانصراف من عرفة إلى مزدلفة " :

الأول :

أنه في دفعهم من عرفة إلى المزدلفة تحدث المضايقات من بعضهم لبعض ، ومنها الإسراع الشديد الذي يؤدي أحيانا إلى تصادم السيارات ، وقد دفع النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة بسكينة ، وكان عليه الصلاة والسلام دفع وقد شنق لناقته القصواء الزمام ، وهو يقول بيده الكريمة : أيها الناس ، السكينة السكينة ؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم مع ذلك إذا أتى فجوة أسرع ، وإذا أتى حبلا من الحبال – أي مرتفعاً - أرخى لناقته الزمام حتى تصعد فكان صلى الله عليه وسلم يراعي الأحوال في مسيره هذا، ولكن إذا دار الأمر بين كون الإسراع أفضل أو التأني، فالتأني أفضل.

الثاني :

أن بعض الناس ينزلون قبل أن يصلوا إلى مزدلفة، ولا سيما المشاة منهم، يعييهم المشي ويتعبهم، فينزلون قبل أن يصلوا إلى مزدلفة، ويبقون هنالك حتى يصلوا الفجر ثم ينصرفوا منه إلى منى، ومن فعل هذا فإنه قد فاته المبيت في المزدلفة، وهذا أمر خطير جدا؛ لأن المبيت بمزدلفة ركن من أركان الحج عند بعض أهل العلم ، وواجب من واجباته عند جمهور أهل العلم ، وسنة في قول بعضهم ، والصواب أنه واجب من واجبات الحج ، وأنه يجب على الإنسان أن يبيت في مزدلفة ، وألا ينصرف إلا في الوقت الذي أجاز الشارع له فيه الانصراف كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

الثالث :

أن بعض الناس يصلي المغرب والعشاء في الطريق على العادة ، قبل أن يصل إلى مزدلفة ، وهذا خلاف السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل في أثناء الطريق وبال وتوضأ، قال له أسامة بن زيد الصلاة يا رسول الله ؟ قال : " الصلاة أمامك " أخرجه البخاري (1669) ومسلم (1280) . وبقي صلى الله عليه وسلم ولم يصل إلا حين وصل إلى مزدلفة ، وكان قد وصلها بعد دخول وقت العشاء فصلى فيها المغرب والعشاء جمع تأخير.

الرابع :

إن بعض الناس لا يصلي المغرب والعشاء حتى يصل إلى مزدلفة ولو خرج وقت صلاة العشاء ، وهذا لا يجوز وهو حرام من كبائر الذنوب ، لأن تأخير الصلاة عن وقتها محرم بمقتضى دلالة الكتاب والسنة ، قال الله تعالى : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) النساء / 103، وبين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوقت وحدده ، وقال الله تعالى : { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } الطلاق / 1 ، وقال سبحانه : { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } البقرة / 229 .

فإذا خشي الإنسان خروج وقت العشاء قبل أن يصل إلى مزدلفة ، فإن الواجب عليه أن يصلي وإن لم يصل إلى مزدلفة، يصلي على حسب حاله ، إن كان ماشيا وقف وصلى الصلاة بقيامها وركوعها وسجودها، وإن كان راكبا ولم يتمكن من النزول فإنه يصلي ولو على ظهر سيارته ، لقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } التغابن / 16 ، وإن كان عدم تمكنه من النزول في هذه الحال أمرا بعيدا ؛ لأنه بإمكان كل إنسان أن ينزل ويقف على جانب الخط من اليمين أو اليسار ويصلي .

وعلى كل حال فإنه لا يجوز لأحد أن يؤخر صلاة المغرب والعشاء حتى يخرج وقت العشاء ، بحجة أنه يريد أن يطبق السنة فلا يصلي إلا في مزدلفة ، فإن تأخيره هذا مخالف للسنة ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخر، لكنه صلى الصلاة في وقتها .

الخامس :

أن بعض الحجاج يصلون الفجر قبل وقته ، فيصلون وينصرفون ، وهذا خطأ عظيم ، فإن الصلاة قبل وقتها غير مقبولة ؛ بل محرمة ، لأنها اعتداء على حدود الله عز وجل ، فإن الصلاة موقتة بوقت حدد الشرع أوله وآخره ؛ فلا يجوز لأحد أن يتقدم بالصلاة قبل دخول وقتها .

فيجب على الحاج أن ينتبه لهذه المسألة ، وألا يصلي الفجر إلا بعد أن يتيقن أو يغلب على ظنه دخول وقت الفجر ، صحيح أنه ينبغي المبادرة بصلاة الفجر في المزدلفة ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بادر بها، ولكن لا يعني ذلك أن تصلى قبل الوقت . فليحذر الحاج من هذا العمل .

السادس :

أن بعض الحجاج يدفعون من مزدلفة قبل أن يمكثوا فيها أدنى مكث، فتجده يمر بها مرورا ويستمر ولا يقف، ويقول : إن المرور كاف ، وهذا خطأ عظيم ، فإن المرور غير كاف؛ بل السنة تدل على أن الحاج يبقى في مزدلفة حتى يصلي الفجر ، ثم يقف عند المشعر الحرام يدعو الله تعالى حتى يسفر جدا، ثم ينصرف إلى منى ( والإسفار هو انتشار ضوء النهار قبل طلوع الشمس ) ، ورخص النبي صلى الله عليه وسلم للضعفة من أهله أن يدفعوا من مزدلفة بليل . وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ترقب غروب القمر فإذا غاب القمر دفعت من مزدلفة إلى منى .

وهذا - الدفع بعد غروب القمر - ينبغي أن يكون هو الحد الفاصل ، لأنه فعل صحابي، والنبي صلى الله عليه وسلم أذن للضعفة من أهله أن يدفعوا بليل، ولم يبين في هذا الحديث حد هذا الليل ، ولكن فعل الصحابي قد يكون مبينا له ومفسرا له. وعليه ، فالذي ينبغي أن يحدد الدفع للضعفة ونحوهم ممن يشق عليهم مزاحمة الناس ، ينبغي أن يقيد بذلك بغروب القمر ، وغروب القمر في الليلة العاشرة يكون قطعا بعد منتصف الليل ، يكون بمضي ثلثي الليل تقريبا .

السابع :

أن بعض الناس في ليلة المزدلفة يحيي هذه الليلة بالقيام والقراءة والذكر ، وهذا خلاف السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة لم يتعبد لله عز وجل بمثل هذا، بل في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى العشاء اضطجع حتى طلع الفجر ثم صلى الصبح . وهذا يدل على أن تلك الليلة ليس فيها تهجد أو تعبد أو تسبيح أو ذكر أو قرآن .

الثامن :

أن بعض الحجاج يبقون في مزدلفة حتى تطلع الشمس ، ويصلون صلاة الشروق أو الإشراق، ثم ينصرفون بعد ذلك، وهذا خطأ؛ لأن فيه مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وموافقة لهدي المشركين ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دفع من مزدلفة قبل أن تطلع الشمس حين أسفر جدا . والمشركون كانوا ينتظرون حتى تطلع الشمس .

فمن بقي في مزدلفة تعبدا لله عز وجل حتى تطلع الشمس ، فقد شابه المشركين ، وخالف سنة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه "



.
.
.








 توقيع : دره العشق
 

 

 
قديم منذ /08-01-2020   #16

 
الصورة الرمزية دره العشق

دره العشق غير متواجد حالياً

 عضويتي » 1043
 انتسابي » Jan 2019
 آخر حضور » ()
جنسي  »  Female
آبدآعاتي » 137,708
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
мч ммѕ ~
MMS ~

دره العشق غير متواجد حالياً

افتراضي


حج المرأة في رفقة نساء دون محرم

قال الشيخ محمد ابن عثيمين – رحمه الله - : " هذا العمل وهو الحج بدون مَحرم : مُحرَّم لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو يخطب : لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ، إن امرأتي خرجت حاجة ، وإنني قد اكتُتِبتُ في غزوة كذا وكذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : انطلق فحج مع امرأتك " رواه البخاري (3006) ومسلم (1341) .

فلا يجوز للمرأة السفر بدون محرم ، والمحرم : من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح ، ويشترط أن يكون بالغا عاقلا ، وأما الصغير فلا يكون محرما ، وغير العاقل لا يكون محرما أيضا ، والحكمة من وجود المحرم مع المرأة حفظها وصيانتها ، حتى لا تعبث بها أهواء مَن لا يخافون الله عز وجل ولا يرحمون عباد الله .

ولا فرق بين أن يكون معها نساء أو لا ، أو تكون آمنة أو غير آمنة ، حتى ولو ذهبت مع نساء من أهل بيتها وهي آمنة غاية الأمن ، فإنه لا يجوز لها أن تسافر بدون محرم ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر الرجل بالحج مع امرأته لم يسأله ما إذا كان معها نساء وهل هي آمنة أم لا ، فلما لم يستفسر عن ذلك دل على أنه لا فرق ، وهذا هو الصحيح .

وقد تساهل بعض الناس في وقتنا الحاضر فسوَّغ أن تذهب المرأة في الطائرة بدون محرم ، وهذا لا شك أنه خلاف النصوص العامة الظاهرة ، والسفر في الطائرة كغيره تعتريه الأخطار .

فإن المسافرة في الطائرة إذا شيعها محرمها في المطار فإنه ينصرف بمجرد دخولها صالة الانتظار ، وهي وحدها بدون محرم وقد تغادر الطائرة في الوقت المحدد وقد تتأخر . وقد تقلع في الوقت المحدد فيعتريها سبب يقتضي رجوعها ، أو أن تنزل في مطار آخر غير المطار المتجهة إليه ، وكذلك ربما تنزل في المطار الذي تقصده بعد الوقت المحدد لسبب من الأسباب ، وإذا قُدِّر أنها نزلت في وقتها المحدد فإن المحرم الذي يستقبلها قد يتأخر عن الحضور في الوقت المعين لسبب من الأسباب ، إما لنوم أو زحام سيارات أو عطل في سيارته أو لغير ذلك من الأسباب المعلومة ، ثم لو قدر أنه حضر في الوقت المحدد واستقبل المرأة فإن من يكون إلى جانبها في الطائرة قد يكون رجلا يخدعها ويتعلق بها وتتعلق به .

والحاصل أن المرأة عليها أن تخشى الله وتخافه فلا تسافر لا إلى الحج ولا إلى غيره إلا مع محرم يكون بالغًا عاقلا . والله المستعان "


الحج بدون إذن الزوج

قال الشيخ محمد ابن عثيمين – رحمه الله - : " قبل الإجابة أود أن أبين أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج بدون رضا زوجها ، حتى ولو كان في البلد ، فكيف تحج بدون رضاه ، هذا حرام ، ولا يجوز لها ، ويجب على الزوج الذي وعد زوجته بالحج أن يفي بوعده ، فيحج بها ، لاسيما إن كان هذا مشروطا عليه في العقد ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ) رواه البخاري (2729) ومسلم (1418) .

وإذا كان هذا الوعد بعد العقد ، فإن العلماء اختلفوا بالوفاء به ، والصواب وجوب الوفاء به إذا لم يكن على الواعد ضرر ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل إخلاف الوعد من صفات المنافقين . تحذيرا من إخلافه .



لبست النقاب والقفازين أثناء طواف الإفاضة

القارن بين الحج والعمرة لا يعتمر عند قدومه مكة ، وإنما يطوف للقدوم وهو سنة ليس واجباً ، ثم إن شاء سعى بعده أو يؤخر هذا السعي بعد طواف الإفاضة ، ويكفي هذا السعي عن الحج والعمرة جميعاً ، وعليه فكونك لم تطوفي ولم تسعي عند وصولك إلى مكة لا شيء فيه .
ويلزم القارن أيضاً طوافان : الأول طواف الإفاضة بعد رجوعه من عرفات والمزدلفة ، وطواف الوداع عند خروجه من مكة ، وله أن يؤخر طواف الإفاضة فيطوف عند خروجه من مكة طوافاً واحداً للإفاضة والوداع معاً ، كما فعلت .
ثانيا :
استعمال المحرمة للزينة التي ليست طيبا ، لا حرج فيه . والمحظور هو استعمال الطيب . وعليه فلا حرج فيما صنعت من وضع المكياج ، واستعمال الكريم لإزالته ، وإن كان الأحوط عدم استعمال هذا الكريم لأجل ما فيه من الرائحة ، لكنه ليس طيبا في الأظهر ، ولا يسمى صاحبه متطيبا .
ثالثا :
إذا رمى الحاج جمرة العقبة ، وقصر من شعره ، فقد تحلل التحلل الأول ، سواء كان مفردا أو متمتعا أو قارنا ، فيباح له كل شيء إلا النساء ، فيجوز له استعمال الطيب ، وتقليم الأظافر ، ولبس المخيط إن كان رجلا ، وتلبس المرأة النقاب والقفازين , وإنما يمنع بعد هذا التحلل من الجماع فقط .
ويجوز التوكيل في الرمي للضعفة والنساء عند شدة الزحام .
وقد ذكرت أنك تحللت بعد الرمي ، ولم تبيني مرادك بالتحلل ، ولم تذكري شيئا عن تقصير الشعر ، فإن كنت قد قصرت من شعرك فقد تحللت التحلل الأول ، فيحل لك كل شيء إلا الجماع ، ويكون لبسك للنقاب والقفازين في طواف الإفاضة جائزاً ، أما إذا كنت لم تقصري شعرك قبل الطواف فأنت باقية على إحرامك ويكون لبسك للنقاب والقفازين في طواف الإفاضة غير جائز ، وعليك الفدية ، وهي صيام ثلاثة أيام ، أو إطعام ستة مساكين من مساكين الحرم ، أو ذبح شاة توزع على فقراء الحرم .

يحرم على النساء زيارة قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

لا يجوز لهن ذلك ، لعموم الأحاديث الواردة في نهي النساء عن زيارة القبور ولعنهن على ذلك ، والخلاف في زيارة النساء لقبر النبي صلى الله عليه وسلم مشهور ، ولكن تركهن لذلك أحوط وأوفق للسنة ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستثن قبره ولا قبر غيره ، بل نهاهن نهياً عاماً ، ولعن من فعل ذلك منهن ، والواجب الأخذ بالتعميم ما لم يوجد نص يخص قبره بذلك وليس هناك ما يخص قبره








 توقيع : دره العشق
 

 

 
قديم منذ /08-01-2020   #17

 
الصورة الرمزية دره العشق

دره العشق غير متواجد حالياً

 عضويتي » 1043
 انتسابي » Jan 2019
 آخر حضور » ()
جنسي  »  Female
آبدآعاتي » 137,708
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
мч ммѕ ~
MMS ~

دره العشق غير متواجد حالياً

افتراضي


هكذا حج رسول الله

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون من حجاج بيت الله الحرام، اسأل الله لنا ولكم التوفيق لما يرضيه، والعافية من مضلات الفتن. كما أسأله سبحانه أن يوفقكم جميعًا لأداء مناسككم على الوجه الذي يرضيه، وأن يتقبل منكم، وأن يردكم إلى بلادكم سالمين موفقين، إنه خير مسئول.
أيها المسلمون، إن وصيتي للجميع هي تقوى الله سبحانه في جميع الأحوال والاستقامة على دينه، والحذر من أسباب غضبه. وإن أهم الفرائض وأعظم الواجبات هو توحيد الله والإخلاص له في جميع العبادات، مع العناية باتِّباع رسول الله في الأقوال والأعمال، وأن تؤدي مناسك الحج وسائر العبادات على الوجه الذي شرعه الله لعباده على لسان رسوله وخليله وصفوته من خلقه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله ، وإن أعظم المنكرات وأخطر الجرائم هو الشرك بالله سبحانه، وهو صرف العبادة أو بعضها لغيره سبحانه؛ لقول الله : {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغَفُر مَا دُونَ ذَلكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]. وقوله سبحانه يخاطب نبيه محمدًا: {وَلَقَدْ أُوحَيَ إِلَيْكَ وَإِلي الَّذيِنَ مِن قَبْلك لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الرمز: 65].
حجاج بيت الله الحرام، إن نبينا لم يحج بعد هجرته إلى المدينة إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع، وذلك في آخر حياته ، وقد علّم الناس فيها مناسكهم بقوله وفعله، وقال لهم: «خذوا عنّي مناسككم». فالواجب على المسلمين جميعًا أن يتأسوا به في ذلك، وأن يؤدوا مناسكهم على الوجه الذي شرعه لهم؛ لأنه هو المعلم المرشد، وقد بعثه الله رحمةً للعالمين وحُجةً على العباد أجمعين، فأمر الله عباده بأن يطيعوه وبين أن اتّباعه هو سبب دخول الجنة والنجاة من النار، وأنه الدليل على صدق حب العبد لربه وعلى حب الله للعبد، كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فخذوه وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]. وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَكُمْ تُرحَمُونَ} [النور: 56]. وقال : {مَن يُطِعِ الرِّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء: 80]. وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمِنَ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخرِ وذكَرَ الله كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
وقال سبحانه: {وَمَنَ يُطِعِ اللهَ وَرسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِك الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنَ يَعصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعد حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عّذّابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 13، 14].
وقال : {قُلْ يا أَيُهَاَ النَّاسُ إِنّي رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذي لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأرضِ لا إلهَ إلاَّ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ فَآمِنُوا باللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِي الأُمِيِ الَّذي يُؤْمِنُ باللهِ وَكَلَمَاتِهِ وَاتَّبعُوه لَعَلَكُمْ تَهتَدُونَ} [الأعراف: 158].
وقال تعالى: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبَّونَ اللهَ فَاتَّبعُونِيَ يُحْبْبكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]. والآيات في هذا المعنى كثيرة. فوصيتي لكم جميعًا ولنفسي تقوى الله في جميع الأحوال، والصدق في متابعة نبيه محمد في أقواله وأفعاله؛ لتفوزوا بالسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة.
حجاج بيت الله الحرام، إن نبينا محمدًا لما كان يوم الثامن من ذي الحجة توجّه من مكة المكرمة إلى مِنًى ملبيًا، وأمر أصحابه y أن يهلّوا بالحج من منازلهم ويتوجهوا إلى منى، ولم يأمر بطواف الوداع؛ فدلّ ذلك على أن السنة لمن أراد الحج من أهل مكة وغيرها من المقيمين فيها ومن المحلين من عمرتهم وغيرهم من الحجاج، أن يتوجهوا إلى منى في يوم الثامن ملبين بالحج، وليس عليهم أن يذهبوا إلى المسجد الحرام للطواف بالكعبة طواف الوداع.
ويستحب للمسلم عند إحرامه بالحج أن يفعل ما فعله في الميقات عند الإحرام من الغسل والطيب والتنظيف. كما أمر النبي عائشة بذلك لما أرادت الإحرام بالحج، وكانت قد أحرمت بالعمرة فأصابها الحيض عند دخول مكة، وتعذر عليها الطواف قبل خروجها إلى منى، فأمرها أن تغتسل وتهلّ بالحج، ففعلت ذلك، فصارت قارنة بين الحج والعمرة.
وقد صلى رسول الله وأصحابه y في منى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصرًا دون جمع، وهذا هو السنة؛ تأسيًا به . ويسن للحجاج في هذه الرحلة أن يشتغلوا بالتلبية وبذكر الله وقراءة القرآن، وغير ذلك من وجوه الخير كالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإحسان إلى الفقراء. فلما طلعت الشمس يوم عرفة توجه وأصحابه y إلى عرفات، منهم من يلبي ومنهم من يكبر. فلما وصل عرفات نزل بقبة من شعر ضربت له بنمرة غربي عرفة، واستظل بها عليه الصلاة والسلام، فدل ذلك على جواز أن يستظل الحجاج بالخيام والشجر ونحوها.
فلما زالت الشمس ركب دابته عليه الصلاة والسلام وخطب الناس وذكّرهم وعلمهم مناسك حجهم، وحذرهم من الربا وأعمال الجاهلية، وأخبرهم أن دماءهم وأموالهم وأعراضهم عليهم حرام، وأمرهم بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله ، وأخبرهم أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين بكتاب الله وسنة رسوله .
فالواجب على جميع المسلمين وغيرهم أن يلتزموا بهذه الوصية، وأن يستقيموا عليها أينما كانوا، ويجب على حكام المسلمين جميعًا أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله ، وأن يحكموها في جميع شئونهم، وأن يلزموا شعوبهم بالتحاكم إليها، وذلك هو طريق العزة والكرامة والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة. وفق الله الجميع لذلك.
ثم إنه صلّى بالناس الظهر والعصر قصرًا وجمعًا، جمع تقديم بأذان واحد وإقامتين، ثم توجه إلى الموقف واستقبل القبلة ووقف على دابته يذكر الله ويدعوه ويرفع يديه بالدعاء حتى غابت الشمس، وكان فاطرًا ذلك اليوم، فعلم بذلك أن المشروع للحجاج أن يفعلوا كفعله في عرفات، وأن يشتغلوا بذكر الله والدعاء والتلبية إلى غروب الشمس، وأن يرفعوا أيديهم بالدعاء، وأن يكونوا مفطرين لا صائمين، وقد صحّ عن رسول الله أنه قال: «ما من يوم أكثر عتقًا من النار من يوم عرفة، وإنه سبحانه ليدنو فيباهي بهم ملائكته». وروي عنه أن الله يقول يوم عرفة لملائكته: «انظروا إلى عبادي! أتوني شعثًا غبرًا يرجون رحمتي، أشهدكم أني قد غفرت لهم». وصحّ عنه أنه قال: «وقفت ها هنا، وعرفة كلها موقف».
ثم إن رسول الله بعد الغروب توجه ملبيًا إلى مزدلفة، وصلى بها المغرب ثلاثًا والعشاء ركعتين بأذان واحد وإقامتين، ثم بات بها وصلى بها الفجر مع سنتها بأذان وإقامة، ثم أتى المشعر، فذكر الله عنده وكبره وهلله ودعا ورفع يديه وقال: «وقفت ها هنا، وجَمْعٌ كلها موقف». فدلّ ذلك على أن جميع مزدلفة موقف للحجاج يبيت كل حاج في مكانه، ويذكر الله ويستغفره في مكانه، ولا حاجة إلى أن يتوجه إلى موقف النبي . وقد رخّص النبي ليلة مزدلفة للضعفة أن ينصرفوا إلى منى بليل، فدل ذلك على أنه لا حرج على الضعفة من النساء والمرضى والشيوخ ومن تبعهم في التوجه من مزدلفة إلى منى في النصف الأخير من الليل؛ عملاً بالرخصة وحذرًا من مشقة الزحمة. ويجوز لهم أن يرموا الجمرة ليلاً، كما ثبت ذلك عن أم سلمة وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.
وذكرت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، أن رسول الله أذن للنساء بذلك. ثم إنه بعدما أسفر جدًّا دفع إلى منى ملبيًا، فقصد جمرة العقبة فرماها بعد طلوع الشمس بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم نحر هديه ثم حلق رأسه ثم طيبته عائشة رضي الله عنها، ثم توجه إلى البيت فطاف به، وسئل في يوم النحر عمن ذبح قبل أن يرمي، ومن حلق قبل أن يذبح، ومن أفاض إلى البيت قبل أن يرمي، فقال: «لا حرج».
قال الراوي: فما سُئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: «افعل ولا حرج». وسأله رجل فقال: يا رسول الله، سعيت قبل أن أطوف. فقال: «لا حرج». فعلم بهذا أن السنة للحجاج أن يبدءوا برمي الجمرة يوم العيد، ثم ينحروا إذا كان عليهم هدي، ثم يحلقوا أو يقصروا والحلق أفضل من التقصير؛ فإن النبي دعا بالمغفرة والرحمة ثلاث مرات للمحلقين ومرة واحدة للمقصرين، وبذلك يحصل للحاج التحلل الأول، فيلبس المخيط ويتطيب ويباح له كل شيء حُرِّم عليه بالإحرام إلا النساء، ثم يذهب إلى البيت فيطوف به في يوم العيد أو بعده. ويسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعًا، وبذلك يحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام حتى النساء.
أما إن كان الحاج مفردًا أو قارنًا، فإنه يكفيه السعي الأول الذي أتى به مع طواف القدوم، فإن لم يسعَ مع طواف القدوم، وجب عليه أن يسعى مع طواف الإفاضة.
ثم رجع إلى منى فأقام بها بقية يوم العيد واليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر يرمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال، يرمي كل جمرة بسبع حصيات، ويكبر مع كل حصاة ويدعو ويرفع يديه بعد الفراغ من الجمرة الأولى والثانية، ويجعل الأولى عن يساره حين الدعاء والثانية عن يمينه ولا يقف عند الثالثة.. ثم دفع في اليوم الثالث عشر بعد رمي الجمرات، فنزل بالأبطح وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
ثم نزل إلى مكة في آخر الليل من الليلة الرابعة عشرة وصلى الفجر بالناس ، وطاف للوداع قبل صلاة الفجر، ثم توجه بعد الصلاة إلى المدينة في صبيحة اليوم الرابع عشر، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
فعلم من ذلك أن السنة للحاج أن يفعل كفعله في أيام منى، فيرمي الجمار الثلاث بعد الزوال في كل يوم، كل واحدة بسبع حصيات ويكبر مع كل حصاة، ويشرع له أن يقف بعد رميه الأولى ويستقبل القبلة ويدعو ويرفع يديه ويجعلها عن يساره، ويقف بعد رمي الثانية كذلك ويجعلها عن يمينه، وهذا مستحب وليس بواجب، ولا يقف بعد رمي الثالثة، فإن لم يتيسر له الرمي بعد الزوال وقبل غروب الشمس رمى في الليل عن اليوم الذي غابت شمسه إلى آخر الليل، في أصح قولي العلماء؛ رحمةً من الله سبحانه بعباده وتوسعة عليهم.
ومن شاء أن يتعجل في اليوم الثاني عشر بعد رمي الجمار فلا بأس، ومن أحب أن يتأخر حتى يرمي الجمار








 توقيع : دره العشق
 

 

 
قديم منذ /08-01-2020   #18

 
الصورة الرمزية دره العشق

دره العشق غير متواجد حالياً

 عضويتي » 1043
 انتسابي » Jan 2019
 آخر حضور » ()
جنسي  »  Female
آبدآعاتي » 137,708
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
мч ммѕ ~
MMS ~

دره العشق غير متواجد حالياً

افتراضي


تفسير سورة الحج عدد آياتها 78 ( آية 1-25 )
قيل: مكية، وقيل: مدنية

{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }


يخاطب الله الناس كافة، بأن يتقوا ربهم، الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة، فحقيق بهم أن يتقوه، بترك الشرك والفسوق والعصيان، ويمتثلوا أوامره، مهما استطاعوا.

ثم ذكر ما يعينهم على التقوى، ويحذرهم من تركها، وهو الإخبار بأهوال القيامة، فقال:


{ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } لا يقدر قدره، ولا يبلغ كنهه، ذلك بأنها إذا وقعت الساعة، رجفت الأرض وارتجت، وزلزلت زلزالها، وتصدعت الجبال، واندكت، وكانت كثيبا مهيلا، ثم كانت هباء منبثا، ثم انقسم الناس ثلاثة أزواج.

فهناك تنفطر السماء، وتكور الشمس والقمر، وتنتثر النجوم، ويكون من القلاقل والبلابل ما تنصدع له القلوب، وتجل منه الأفئدة، وتشيب منه الولدان، وتذوب له الصم الصلاب، ولهذا قال: { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها، خصوصا في هذه الحال، التي لا يعيش إلا بها.

{ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } من شدة الفزع والهول، { وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى } أي: تحسبهم -أيها الرائي لهم- سكارى من الخمر، وليسوا سكارى.

{ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } فلذلك أذهب عقولهم، وفرغ قلوبهم، وملأها من الفزع، وبلغت القلوب الحناجر، وشخصت الأبصار، وفي ذلك اليوم، لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا.

ويومئذ { يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }

وهناك { يعض الظالم على يديه، يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا } وتسود حينئذ وجوه وتبيض وجوه، وتنصب الموازين، التي يوزن بها مثاقيل الذر، من الخير والشر، وتنشر صحائف الأعمال وما فيها من جميع الأعمال والأقوال والنيات، من صغير وكبير، وينصب الصراط على متن جهنم، وتزلف الجنة للمتقين، وبرزت الجحيم للغاوين. { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا* وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا } ويقال لهم: { لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } وإذا نادوا ربهم ليخرجهم منها، قال: { اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ } قد غضب عليهم الرب الرحيم، وحضرهم العذاب الأليم، وأيسوا من كل خير، ووجدوا أعمالهم كلها، لم يفقدوا منها نقيرا ولا قطميرا.

هذا، والمتقون في روضات الجنات يحبرون، وفي أنواع اللذات يتفكهون، وفيما اشتهت أنفسهم خالدون، فحقيق بالعاقل الذي يعرف أن كل هذا أمامه، أن يعد له عدته، وأن لا يلهيه الأمل، فيترك العمل، وأن تكون تقوى الله شعاره، وخوفه دثاره، ومحبة الله، وذكره، روح أعماله.

{ 3 - 4 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ }

أي: ومن الناس طائفة وفرقة، سلكوا طريق الضلال، وجعلوا يجادلون بالباطل الحق، يريدون إحقاق الباطل وإبطال الحق، والحال أنهم في غاية الجهل ما عندهم من العلم شيء، وغاية ما عندهم، تقليد أئمة الضلال، من كل شيطان مريد، متمرد على الله وعلى رسله، معاند لهم، قد شاق الله ورسوله، وصار من الأئمة الذين يدعون إلى النار.

{ كُتِبَ عَلَيْهِ } أي: قدر على هذا الشيطان المريد { أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ } أي: اتبعه { فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ } عن الحق، ويجنبه الصراط المستقيم { وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } وهذا نائب إبليس حقا، فإن الله قال عنه { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } فهذا الذي يجادل في الله، قد جمع بين ضلاله بنفسه، وتصديه إلى إضلال الناس، وهو متبع، ومقلد لكل شيطان مريد، ظلمات بعضها فوق بعض، ويدخل في هذا، جمهور أهل الكفر والبدع، فإن أكثرهم مقلدة، يجادلون بغير علم.

{ 5 - 7 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ }

يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ } أي: شك واشتباه، وعدم علم بوقوعه، مع أن الواجب عليكم أن تصدقوا ربكم، وتصدقوا رسله في ذلك، ولكن إذا أبيتم إلا الريب، فهاكم دليلين عقليين تشاهدونهما، كل واحد منهما، يدل دلالة قطعية على ما شككتم فيه، ويزيل عن قلوبكم الريب.

أحدهما: الاستدلال بابتداء خلق الإنسان، وأن الذي ابتدأه سيعيده، فقال فيه: { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } وذلك بخلق أبي البشر آدم عليه السلام، { ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } أي: مني، وهذا ابتداء أول التخليق، { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } أي: تنقلب تلك النطفة، بإذن الله دما أحمر، { ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ } أي: ينتقل الدم مضغة، أي: قطعة لحم، بقدر ما يمضغ، وتلك المضغة تارة تكون { مُخَلَّقَةٍ } أي: مصور منها خلق الآدمي، { وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } تارة، بأن تقذفها الأرحام قبل تخليقها، { لِنُبَيِّنَ لَكُمْ } أصل نشأتكم، مع قدرته تعالى، على تكميل خلقه في لحظة واحدة، ولكن ليبين لنا كمال حكمته، وعظيم قدرته، وسعة رحمته.

{ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : ونقر، أي: نبقي في الأرحام من الحمل، الذي لم تقذفه الأرحام، ما نشاء إبقاءه إلى أجل مسمى، وهو مدة الحمل. { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ } من بطون أمهاتكم { طِفْلًا } لا تعلمون شيئا، وليس لكم قدرة، وسخرنا لكم الأمهات، وأجرينا لكم في ثديها الرزق، ثم تنتقلون طورا بعد طور، حتى تبلغوا أشدكم، وهو كمال القوة والعقل.

{ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى } من قبل أن يبلغ سن الأشد، ومنكم من يتجاوزه فيرد إلى أرذل العمر، أي: أخسه وأرذله، وهو سن الهرم والتخريف، الذي به يزول العقل، ويضمحل، كما زالت باقي القوة، وضعفت.

{ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } أي: لأجل أن لا يعلم هذا المعمر شيئا مما كان يعلمه قبل ذلك، وذلك لضعف عقله، فقوة الآدمي محفوفة بضعفين، ضعف الطفولية ونقصها، وضعف الهرم ونقصه، كما قال تعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } والدليل الثاني، إحياء الأرض بعد موتها، فقال الله فيه: { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً } أي: خاشعة مغبرة لا نبات فيها، ولا خضر، { فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ } أي: تحركت بالنبات { وَرَبَتْ } أي: ارتفعت بعد خشوعها وذلك لزيادة نباتها، { وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ } أي: صنف من أصناف النبات { بَهِيجٍ } أي: يبهج الناظرين، ويسر المتأملين، فهذان الدليلان القاطعان، يدلان على هذه المطالب الخمسة، وهي هذه.

{ ذَلِكَ } الذي أنشأ الآدمي من ما وصف لكم، وأحيا الأرض بعد موتها، { بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } أي: الرب المعبود، الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وعبادته هي الحق، وعبادة غيره باطلة، { وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى } كما ابتدأ الخلق، وكما أحيا الأرض بعد موتها، { وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } كما أشهدكم من بديع قدرته وعظيم صنعته ما أشهدكم.

{ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا } فلا وجه لاستبعادها، { وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ } فيجازيكم بأعمالكم حسنها وسيئها.

{ 8 - 9 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ }


المجادلة المتقدمة للمقلد، وهذه المجادلة للشيطان المريد، الداعي إلى البدع، فأخبر أنه { يُجَادِلُ فِي اللَّهِ } أي: يجادل رسل الله وأتباعهم بالباطل ليدحض به الحق، { بِغَيْرِ عِلْمٍ } صحيح { وَلَا هُدًى } أي: غير متبع في جداله هذا من يهديه، لا عقل مرشد، ولا متبوع مهتد، { وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ } أي: واضح بين، أي: فلا له حجة عقلية ولا نقلية ، إن هي إلا شبهات، يوحيها إليه الشيطان { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } ومع هذا { ثَانِيَ عِطْفِهِ } أي: لاوي جانبه وعنقه، وهذا كناية عن كبره عن الحق، واحتقاره للخلق، فقد فرح بما معه من العلم غير النافع، واحتقر أهل الحق وما معهم من الحق، { لِيُضِلَّ } الناس، أي: ليكون من دعاة الضلال، ويدخل تحت هذا جميع أئمة الكفر والضلال، ثم ذكر عقوبتهم الدنيوية والأخروية فقال: { لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } أي: يفتضح هذا في الدنيا قبل الآخرة، وهذا من آيات الله العجيبة، فإنك لا تجد داعيا من دعاة الكفر والضلال، إلا وله من المقت بين العالمين، واللعنة، والبغض، والذم، ما هو حقيق به، وكل بحسب حاله.

{ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } أي: نذيقه حرها الشديد، وسعيرها البليغ، وذلك بما قدمت يداه، { وَأَّن اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }

{ 11 - 13 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ }

أي: ومن الناس من هو ضعيف الإيمان، لم يدخل الإيمان قلبه، ولم تخالطه بشاشته، بل دخل فيه، إما خوفا، وإما عادة على وجه لا يثبت عند المحن، { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ } أي: إن استمر رزقه رغدا، ولم يحصل له من المكاره شيء، اطمأن بذلك الخير، لا بإيمانه. فهذا، ربما أن الله يعافيه، ولا يقيض له من الفتن ما ينصرف به عن دينه، { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } من حصول مكروه، أو زوال محبوب { انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } أي: ارتد عن دينه، { خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ } أما في الدنيا، فإنه لا يحصل له بالردة ما أمله الذي جعل الردة رأسا لماله، وعوضا عما يظن إدراكه، فخاب سعيه، ولم يحصل له إلا ما قسم له، وأما الآخرة، فظاهر، حرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض، واستحق النار، { ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } أي: الواضح البين.

{ يَدْعُو } هذا الراجع على وجهه { مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ } وهذا صفة كل مدعو ومعبود من دون الله، فإنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا، { ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ } الذي قد بلغ في البعد إلى حد النهاية، حيث أعرض عن عبادة النافع الضار، الغني المغني ، وأقبل على عبادة مخلوق مثله أو دونه، ليس بيده من الأمر شيء بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب، ولهذا قال: { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ } فإن ضرره في العقل والبدن والدنيا والآخرة معلوم { لَبِئْسَ الْمَوْلَى } أي: هذا المعبود { وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } أي: القرين الملازم على صحبته، فإن المقصود من المولى والعشير، حصول النفع، ودفع الضرر، فإذا لم يحصل شيء من هذا، فإنه مذموم ملوم.

{ 14 } { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }

لما ذكر تعالى المجادل بالباطل، وأنه على قسمين، مقلد، وداع، ذكر أن المتسمي بالإيمان أيضا على قسمين، قسم لم يدخل الإيمان قلبه كما تقدم، والقسم الثاني: المؤمن حقيقة، صدق ما معه من الإيمان بالأعمال الصالحة، فأخبر تعالى أنه يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وسميت الجنة جنة، لاشتمالها على المنازل والقصور والأشجار والنوابت التي تجن من فيها، ويستتر بها من كثرتها، { إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } فما أراده تعالى فعله من غير ممانع ولا معارض، ومن ذلك، إيصال أهل الجنة إليها، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.

{ 15 } { مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }

أي: من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله، وأن دينه سيضمحل، فإن النصر من الله ينزل من السماء { فَلْيَمْدُدْ } ذلك الظان { بِسَبَبٍ } أي: حبل { إِلَى السَّمَاءِ } وليرقى إليها { ثُمَّ لِيَقْطَعْ } النصر النازل عليه من السماء

{ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ } أي: ما يكيد به الرسول، ويعمله من محاربته، والحرص على إبطال دينه، ما يغيظه من ظهور دينه، وهذا استفهام بمعنى النفي [وأنه]، لا يقدر على شفاء غيظه بما يعمله من الأسباب.

ومعنى هذه الآية الكريمة: يا أيها المعادي للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، الساعي في إطفاء دينه، الذي يظن بجهله، أن سعيه سيفيده شيئا، اعلم أنك مهما فعلت من الأسباب، وسعيت في كيد الرسول، فإن ذلك لا يذهب غيظك، ولا يشفي كمدك، فليس لك قدرة في ذلك، ولكن سنشير عليك برأي، تتمكن به من شفاء غيظك، ومن قطع النصر عن الرسول -إن كان ممكنا- ائت الأمر مع بابه، وارتق إليه بأسبابه، اعمد إلى حبل من ليف أو غيره، ثم علقه في السماء، ثم اصعد به حتى تصل إلى الأبواب التي ينزل منها النصر، فسدها وأغلقها واقطعها، فبهذه الحال تشفي غيظك، فهذا هو الرأي: والمكيدة، وأما ما سوى هذه الحال فلا يخطر ببالك أنك تشفي بها غيظك، ولو ساعدك من ساعدك من الخلق. وهذه الآية الكريمة، فيها من الوعد والبشارة بنصر الله لدينه ولرسوله وعباده المؤمنين ما لا يخفى، ومن تأييس الكافرين، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره، ولو كره الكافرون، أي: وسعوا مهما أمكنهم.

{ 16 } { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ }

أي: وكذلك لما فصلنا في هذا القرآن ما فصلنا، جعلناه آيات بينات واضحات، دالات على جميع المطالب والمسائل النافعة، ولكن الهداية بيد الله، فمن أراد الله هدايته، اهتدى بهذا القرآن، وجعله إماما له وقدوة، واستضاء بنوره، ومن لم يرد الله هدايته، فلو جاءته كل آية ما آمن، ولم ينفعه القرآن شيئا، بل يكون حجة عليه.

{ 17 - 24 } { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِم } إلى قوله:

{ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } يخبر تعالى عن طوائف أهل الأرض، من الذين أوتوا الكتاب، من المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين، ومن المجوس، ومن المشركين أن الله سيجمعهم جميعهم ليوم القيامة، ويفصل بينهم بحكمه العدل، ويجازيهم بأعمالهم التي حفظها وكتبها وشهدها، ولهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ثم فصل هذا الفصل بينهم بقوله: { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } كل يدعي أنه المحق.

{ فَالَّذِينَ كَفَرُوا } يشمل كل كافر، من اليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئين، والمشركين.

{ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ } أي: يجعل لهم ثياب من قطران، وتشعل فيها النار، ليعمهم العذاب من جميع جوانبهم.

{ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } الماء الحار جدا، يصهر ما في بطونهم من اللحم والشحم والأمعاء، من شدة حره، وعظيم أمره، { وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } بيد الملائكة الغلاظ الشداد، تضربهم فيها وتقمعهم، { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا } فلا يفتر عنهم العذاب، ولا هم ينظرون، ويقال لهم توبيخا: { ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } أي: المحرق للقلوب والأبدان ، { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } ومعلوم أن هذا الوصف لا يصدق على غير المسلمين، الذين آمنوا بجميع الكتب، وجميع الرسل، { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ } أي: يسورون في أيديهم، رجالهم ونساؤهم أساور الذهب.

{ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } فتم نعيمهم بذكر أنواع المأكولات اللذيذات المشتمل عليها، لفظ الجنات، وذكر الأنهار السارحات، أنهار الماء واللبن والعسل والخمر، وأنواع اللباس، والحلي الفاخر، وذلك بسبب أنهم { هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ } الذي أفضله وأطيبه كلمة الإخلاص، ثم سائر الأقوال الطيبة التي فيها ذكر الله، أو إحسان إلى عباد الله، { وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } أي: الصراط المحمود، وذلك، لأن جميع الشرع كله محتو على الحكمة والحمد، وحسن المأمور به، وقبح المنهي عنه، وهو الدين الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح. أو: وهدوا إلى صراط الله الحميد، لأن الله كثيرا ما يضيف الصراط إليه، لأنه يوصل صاحبه إلى الله، وفي ذكر { الحميد } هنا، ليبين أنهم نالوا الهداية بحمد ربهم ومنته عليهم، ولهذا يقولون في الجنة: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } واعترض تعالى بين هذه الآيات بذكر سجود المخلوقات له، جميع من في السماوات والأرض، والشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر، والدواب، الذي يشمل الحيوانات كلها، وكثير من الناس، وهم المؤمنون، { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } أي: وجب وكتب، لكفره وعدم إيمانه، فلم يوفقه للإيمان، لأن الله أهانه، { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ } ولا راد لما أراد، ولا معارض لمشيئته، فإذا كانت المخلوقات كلها ساجدة لربها، خاضعة لعظمته، مستكينة لعزته، عانية لسلطانه، دل على أنه وحده، الرب المعبود، والملك المحمود، وأن من عدل عنه إلى عبادة سواه، فقد ضل ضلالا بعيدا، وخسر خسرانا مبينا.

{ 25 } { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }


يخبر تعالى عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم، وأنهم جمعوا بين الكفر بالله ورسوله، وبين الصد عن سبيل الله ومنع الناس من الإيمان، والصد أيضا عن المسجد الحرام، الذي ليس ملكا لهم ولا لآبائهم، بل الناس فيه سواء، المقيم فيه، والطارئ إليه، بل صدوا عنه أفضل الخلق محمدا وأصحابه، والحال أن هذا المسجد الحرام، من حرمته واحترامه وعظمته، أن من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم.

فمجرد إرادة الظلم والإلحاد في الحرم، موجب للعذاب، وإن كان غيره لا يعاقب العبد عليه إلا بعمل الظلم، فكيف بمن أتى فيه أعظم الظلم، من الكفر والشرك، والصد عن سبيله، ومنع من يريده بزيارة، فما ظنكم أن يفعل الله بهم؟"

وفي هذه الآية الكريمة، وجوب احترام الحرم، وشدة تعظيمه، والتحذير من إرادة المعاصي فيه وفعلها.

{ 26 - 29 } { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }

يذكر تعالى عظمة البيت الحرام وجلالته وعظمة بانيه، وهو خليل الرحمن، فقال: { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } أي: هيأناه له، وأنزلناه إياه، وجعل قسما من ذريته من سكانه، وأمره الله ببنيانه، فبناه على تقوى الله، وأسسه على طاعة الله، وبناه هو وابنه إسماعيل، وأمره أن لا يشرك به شيئا، بأن يخلص لله أعماله، ويبنيه على اسم الله.

{ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } أي: من الشرك والمعاصي، ومن الأنجاس والأدناس وأضافه الرحمن إلى نفسه، لشرفه، وفضله، ولتعظم محبته في القلوب، وتنصب إليه الأفئدة من كل جانب، وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه، لكونه بيت الرب للطائفين به والعاكفين عنده، المقيمين لعبادة من العبادات من ذكر، وقراءة، وتعلم علم وتعليمه، وغير ذلك من أنواع القرب، { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي: المصلين، أي: طهره لهؤلاء الفضلاء، الذين همهم طاعة مولاهم وخدمته، والتقرب إليه عند بيته، فهؤلاء لهم الحق، ولهم الإكرام، ومن إكرامهم تطهير البيت لأجلهم، ويدخل في تطهيره، تطهيره من الأصوات اللاغية والمرتفعة التي تشوش المتعبدين، بالصلاة والطواف، وقدم الطواف على الاعتكاف والصلاة، لاختصاصه بهذا البيت، ثم الاعتكاف، لاختصاصه بجنس المساجد.

{ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } أي: أعلمهم به، وادعهم إليه، وبلغ دانيهم وقاصيهم، فرضه وفضيلته، فإنك إذا دعوتهم، أتوك حجاجا وعمارا، رجالا، أي: مشاة على أرجلهم من الشوق، { وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } أي: ناقة ضامر، تقطع المهامه والمفاوز، وتواصل السير، حتى تأتي إلى أشرف الأماكن، { مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } أي: من كل بلد بعيد، وقد فعل الخليل عليه السلام، ثم من بعده ابنه محمد صلى الله عليه وسلم، فدعيا الناس إلى حج هذا البيت، وأبديا في ذلك وأعادا، وقد حصل ما وعد الله به، أتاه الناس رجالا وركبانا من مشارق الأرض ومغاربها، ثم ذكر فوائد زيارة بيت الله الحرام، مرغبا فيه فقال: { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } أي: لينالوا ببيت الله منافع دينية، من العبادات الفاضلة، والعبادات التي لا تكون إلا فيه، ومنافع دنيوية، من التكسب، وحصول الأرباح الدنيوية، وكل هذا أمر مشاهد كل يعرفه، { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } وهذا من المنافع الدينية والدنيوية، أي: ليذكروا اسم الله عند ذبح الهدايا، شكرا لله على ما رزقهم منها، ويسرها لهم، فإذا ذبحتموها { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } أي: شديد الفقر ، { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } أي: يقضوا نسكهم، ويزيلوا الوسخ والأذى، الذي لحقهم في حال الإحرام، { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } التي أوجبوها على أنفسهم، من الحج، والعمرة والهدايا، { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أي: القديم، أفضل المساجد على الإطلاق، المعتق: من تسلط الجبابرة عليه. وهذا أمر بالطواف، خصوصا بعد الأمر بالمناسك عموما، لفضله، وشرفه، ولكونه المقصود، وما قبله وسائل إليه.

ولعله -والله أعلم أيضا- لفائدة أخرى، وهو: أن الطواف مشروع كل وقت، وسواء كان تابعا لنسك، أم مستقلا بنفسه.

{ 30 - 31 } { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ *حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }

{ ذَلِكَ } الذي ذكرنا لكم من تلكم الأحكام، وما فيها من تعظيم حرمات الله وإجلالها وتكريمها، لأن تعظيم حرمات الله، من الأمور المحبوبة لله، المقربة إليه، التي من عظمها وأجلها، أثابه الله ثوابا جزيلا، وكانت خيرا له في دينه، ودنياه وأخراه عند ربه.

وحرمات الله: كل ماله حرمة، وأمر باحترامه، بعبادة أو غيرها، كالمناسك كلها، وكالحرم والإحرام، وكالهدايا، وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها، فتعظيمها إجلالها بالقلب، ومحبتها، وتكميل العبودية فيها، غير متهاون، ولا متكاسل، ولا متثاقل، ثم ذكر منته وإحسانه بما أحله لعباده، من بهيمة الأنعام، من إبل وبقر وغنم، وشرعها من جملة المناسك، التي يتقرب بها إليه، فعظمت منته فيها من الوجهين، { إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } في القرآن تحريمه من قوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } الآية، ولكن الذي من رحمته بعباده، أن حرمه عليهم، ومنعهم منه، تزكية لهم، وتطهيرا من الشرك به وقول الزور، ولهذا قال: { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ } أي: الخبث القذر { مِنَ الْأَوْثَانِ } أي: الأنداد، التي جعلتموها آلهة مع الله، فإنها أكبر أنواع الرجس، والظاهر أن { من } هنا ليست لبيان الجنس، كما قاله كثير من المفسرين، وإنما هي للتبعيض، وأن الرجس عام في جميع المنهيات المحرمات، فيكون منهيا عنها عموما، وعن الأوثان التي هي بعضها خصوصا، { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } أي: جميع الأقوال المحرمات، فإنها من قول الزور الذي هو الكذب، ومن ذلك شهادة الزور فلما نهاهم عن الشرك والرجس وقول الزور.

أمرهم أن يكونوا { حُنَفَاءَ لِلَّهِ } أي: مقبلين عليه وعلى عبادته، معرضين عما سواه.

{ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ } فمثله { فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ } أي: سقط منها { فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ } بسرعة { أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } أي: بعيد، كذلك المشرك، فالإيمان بمنزلة السماء، محفوظة مرفوعة.

ومن ترك الإيمان، بمنزلة الساقط من السماء، عرضة للآفات والبليات، فإما أن تخطفه الطير فتقطعه أعضاء، كذلك المشرك إذا ترك الاعتصام بالإيمان تخطفته الشياطين من كل جانب، ومزقوه، وأذهبوا عليه دينه ودنياه.

{ 32 - 33 } { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ }

أي: ذلك الذي ذكرنا لكم من تعظيم حرماته وشعائره، والمراد بالشعائر: أعلام الدين الظاهرة، ومنها المناسك كلها، كما قال تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } ومنها الهدايا والقربان للبيت، وتقدم أن معنى تعظيمها، إجلالها، والقيام بها، وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد، ومنها الهدايا، فتعظيمها، باستحسانها واستسمانها، وأن تكون مكملة من كل وجه، فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب، فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه، لأن تعظيمها، تابع لتعظيم الله وإجلاله.

{ لَكُمْ فِيهَا } أي: [في] الهدايا { مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } هذا في الهدايا المسوقة، من البدن ونحوها، ينتفع بها أربابها، بالركوب، والحلب ونحو ذلك، مما لا يضرها { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } مقدر، موقت وهو ذبحها إذا وصلت مَحِلُّهَا وهو الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، أي: الحرم كله " منى " وغيرها، فإذا ذبحت، أكلوا منها وأهدوا، وأطعموا البائس الفقير.

{ 34 - 35 } { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }

أي: ولكل أمة من الأمم السالفة جعلنا منسكا، أي: فاستبقوا إلى الخيرات وتسارعوا إليها، ولننظر أيكم أحسن عملا، والحكمة في جعل الله لكل أمة منسكا، لإقامة ذكره، والالتفات لشكره، ولهذا قال: { لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } وإن اختلفت أجناس الشرائع، فكلها متفقة على هذا الأصل، وهو ألوهية الله، وإفراده بالعبودية، وترك الشرك به ولهذا قال: { فَلَهُ أَسْلِمُوا } أي: انقادوا واستسلموا له لا لغيره، فإن الإسلام له طريق إلى الوصول إلى دار السلام. { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } بخير الدنيا والآخرة، والمخبت: الخاضع لربه، المستسلم لأمره، المتواضع لعباده ، ثم ذكر صفات المخبتين فقال: { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أي: خوفا وتعظيما، فتركوا لذلك المحرمات، لخوفهم ووجلهم من الله وحده، { وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ } من البأساء والضراء، وأنواع الأذى، فلا يجري منهم التسخط لشيء من ذلك، بل صبروا ابتغاء وجه ربهم، محتسبين ثوابه، مرتقبين أجره، { وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ } أي: الذين جعلوها قائمة مستقيمة كاملة، بأن أدوا اللازم فيها والمستحب، وعبوديتها الظاهرة والباطنة، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وهذا يشمل جميع النفقات الواجبة، كالزكاة، والكفارة، والنفقة على الزوجات والمماليك، والأقارب، والنفقات المستحبة، كالصدقات بجميع وجوهها، وأتي بـ { من } المفيدة للتبعيض، ليعلم سهولة ما أمر الله به ورغب فيه، وأنه جزء يسير مما رزق الله، ليس للعبد في تحصيله قدرة، لولا تيسير الله له ورزقه إياه. فيا أيها المرزوق من فضل الله، أنفق مما رزقك الله، ينفق الله عليك، ويزدك من فضله.

{ 36 - 37 } { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ }


هذا دليل على أن الشعائر عام في جميع أعلام الدين الظاهرة. وتقدم أن الله أخبر أن من عظم شعائره، فإن ذلك من تقوى القلوب، وهنا أخبر أن من جملة شعائره، البدن، أي: الإبل، والبقر، على أحد القولين، فتعظم وتستسمن، وتستحسن، { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } أي: المهدي وغيره، من الأكل، والصدقة، والانتفاع، والثواب، والأجر، { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا } أي: عند ذبحها قولوا " بسم الله "س واذبحوها، { صَوَافَّ } أي: قائمات، بأن تقام على قوائمها الأربع، ثم تعقل يدها اليسرى، ثم تنحر.

{ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } أي: سقطت في الأرض جنوبها، حين تسلخ، ثم يسقط الجزار جنوبها على الأرض، فحينئذ قد استعدت لأن يؤكل منها، { فَكُلُوا مِنْهَا } وهذا خطاب للمهدي، فيجوز له الأكل من هديه، { وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } أي: الفقير الذي لا يسأل، تقنعا، وتعففا، والفقير الذي يسأل، فكل منهما له حق فيهما.

{ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ } أي: البدن { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله على تسخيرها، فإنه لولا تسخيره لها، لم يكن لكم بها طاقة، ولكنه ذللها لكم وسخرها، رحمة بكم وإحسانا إليكم، فاحمدوه.

وقوله: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا } أي: ليس المقصود منها ذبحها فقط. ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيء، لكونه الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص فيها، والاحتساب، والنية الصالحة، ولهذا قال: { وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } ففي هذا حث وترغيب على الإخلاص في النحر، وأن يكون القصد وجه الله وحده، لا فخرا ولا رياء، ولا سمعة، ولا مجرد عادة، وهكذا سائر العبادات، إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله، كانت كالقشور الذي لا لب فيه، والجسد الذي لا روح فيه.

{ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ } أي: تعظموه وتجلوه، { عَلَى مَا هَدَاكُمْ } أي: مقابلة لهدايته إياكم، فإنه يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد، وأعلى التعظيم، { وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } بعبادة الله بأن يعبدوا الله، كأنهم يرونه، فإن لم يصلوا إلى هذه الدرجة فليعبدوه، معتقدين وقت عبادتهم اطلاعه عليهم، ورؤيته إياهم، والمحسنين لعباد الله، بجميع وجوه الإحسان من نفع مال، أو علم، أو جاه، أو نصح، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو كلمة طيبة ونحو ذلك، فالمحسنون لهم البشارة من الله، بسعادة الدنيا والآخرة وسيحسن الله إليهم، كما أحسنوا في عبادته ولعباده { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }

{ 38 } { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ }

هذا إخبار ووعد وبشارة من الله، للذين آمنوا، أن الله يدافع عنهم كل مكروه، ويدفع عنهم كل شر -بسبب إيمانهم- من شر الكفار، وشر وسوسة الشيطان، وشرور أنفسهم، وسيئات أعمالهم، ويحمل عنهم عند نزول المكاره، ما لا يتحملون، فيخفف عنهم غاية التخفيف. كل مؤمن له من هذه المدافعة والفضيلة بحسب إيمانه، فمستقل ومستكثر.

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ } أي: خائن في أمانته التي حمله الله إياها، فيبخس حقوق الله عليه، ويخونها، ويخون الخلق.

{ كَفُورٌ } لنعم الله، يوالي عليه الإحسان، ويتوالى منه الكفر والعصيان، فهذا لا يحبه الله، بل يبغضه ويمقته، وسيجازيه على كفره وخيانته، ومفهوم الآية، أن الله يحب كل أمين قائم بأمانته، شكور لمولاه.

{ 39 - 41 } { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ }

كان المسلمون في أول الإسلام ممنوعين من قتال الكفار، ومأمورين بالصبر عليهم، لحكمة إلهية، فلما هاجروا إلى المدينة، وأوذوا، وحصل لهم منعة وقوة، أذن لهم بالقتال، قال تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ } يفهم منه أنهم كانوا قبل ممنوعين، فأذن الله لهم بقتال الذين يقاتلون، وإنما أذن لهم، لأنهم ظلموا، بمنعهم من دينهم، وأذيتهم عليه، وإخراجهم من ديارهم.

{ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } فليستنصروه، وليستعينوا به، ثم ذكر صفة ظلمهم فقال: { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } أي: ألجئوا إلى الخروج بالأذية والفتنة { بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا } أن ذنبهم الذي نقم منهم أعداؤهم { أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } أي: إلا أنهم وحدوا الله، وعبدوه مخلصين له الدين، فإن كان هذا ذنبا، فهو ذنبهم كقوله تعالى: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } وهذا يدل على حكمة الجهاد، وأن المقصود منه إقامة دين الله، وذب الكفار المؤذين للمؤمنين، البادئين لهم بالاعتداء، عن ظلمهم واعتدائهم، والتمكن من عبادة الله، وإقامة الشرائع الظاهرة، ولهذا قال: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } فيدفع الله بالمجاهدين في سبيله ضرر الكافرين، { لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ } أي: لهدمت هذه المعابد الكبار، لطوائف أهل الكتاب، معابد اليهود والنصارى، والمساجد للمسلمين، { يُذْكَرَ فِيهَا } أي: في هذه المعابد { اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } تقام فيها الصلوات، وتتلى فيها كتب الله، ويذكر فيها اسم الله بأنواع الذكر، فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لاستولى الكفار على المسلمين، فخربوا معابدهم، وفتنوهم عن دينهم، فدل هذا، أن الجهاد مشروع، لأجل دفع الصائل والمؤذي، ومقصود لغيره، ودل ذلك على أن البلدان التي حصلت فيها الطمأنينة بعبادة الله، وعمرت مساجدها، وأقيمت فيها شعائر الدين كلها، من فضائل المجاهدين وببركتهم، دفع الله عنها الكافرين، قال الله تعالى: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }

فإن قلت: نرى الآن مساجد المسلمين عامرة لم تخرب، مع أنها كثير منها إمارة صغيرة، وحكومة غير منظمة، مع أنهم لا يدان لهم بقتال من جاورهم من الإفرنج، بل نرى المساجد التي تحت ولايتهم وسيطرتهم عامرة، وأهلها آمنون مطمئنون، مع قدرة ولاتهم من الكفار على هدمها، والله أخبر أنه لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لهدمت هذه المعابد، ونحن لا نشاهد دفعا.

أجيب بأن هذا السؤال والاستشكال، داخل في عموم هذه الآية وفرد من أفرادها، فإن من عرف أحوال الدول الآن ونظامها، وأنها تعتبر كل أمة وجنس تحت ولايتها، وداخل في حكمها، تعتبره عضوا من أعضاء المملكة، وجزء من أجزاء الحكومة، سواء كانت تلك الأمة مقتدرة بعددها أو عددها، أو مالها، أو عملها، أو خدمتها، فتراعي الحكومات مصالح ذلك الشعب، الدينية والدنيوية، وتخشى إن لم تفعل ذلك أن يختل نظامها، وتفقد بعض أركانها، فيقوم من أمر الدين بهذا السبب ما يقوم، خصوصا المساجد، فإنها -ولله الحمد- في غاية الانتظام، حتى في عواصم الدول الكبار.

وتراعي تلك الدول الحكومات المستقلة، نظرا لخواطر رعاياهم المسلمين، مع وجود التحاسد والتباغض بين دول النصارى، الذي أخبر الله أنه لا يزال إلى يوم القيامة، فتبقى الحكومة المسلمة، التي لا تقدر تدافع عن نفسها، سالمة من [كثير] ضررهم، لقيام الحسد عندهم، فلا يقدر أحدهم أن يمد يده عليها، خوفا من احتمائها بالآخر، مع أن الله تعالى لا بد أن يري عباده من نصر الإسلام والمسلمين، ما قد وعد به في كتابه.

وقد ظهرت -ولله الحمد- أسبابه [بشعور المسلمين بضرورة رجوعهم إلى دينهم والشعور مبدأ العمل] فنحمده ونسأله أن يتم نعمته، ولهذا قال في وعده الصادق المطابق للواقع: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } أي: يقوم بنصر دينه، مخلصا له في ذلك، يقاتل في سبيله، لتكون كلمة الله هي العليا.

{ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي: كامل القوة، عزيز لا يرام، قد قهر الخلائق، وأخذ بنواصيهم، فأبشروا، يا معشر المسلمين، فإنكم وإن ضعف عددكم وعددكم، وقوي عدد عدوكم وعدتهم فإن ركنكم القوي العزيز، ومعتمدكم على من خلقكم وخلق ما تعملون، فاعملوا بالأسباب المأمور بها، ثم اطلبوا منه نصركم، فلا بد أن ينصركم.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } وقوموا، أيها المسلمون، بحق الإيمان والعمل الصالح، فقد { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا }

ثم ذكر علامة من ينصره، وبها يعرف، أن من ادعى أنه ينصر الله وينصر دينه، ولم يتصف بهذا الوصف، فهو كاذب فقال: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ } أي: ملكناهم إياها، وجعلناهم المتسلطين عليها، من غير منازع ينازعهم، ولا معارض، { أَقَامُوا الصَّلَاةَ } في أوقاتها، وحدودها، وأركانها، وشروطها، في الجمعة والجماعات.

{ وَآتُوا الزَّكَاةَ } التي عليهم خصوصا، وعلى رعيتهم عموما، آتوها أهلها، الذين هم أهلها، { وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ } وهذا يشمل كل معروف حسنه شرعا وعقلا، من حقوق الله، وحقوق الآدميين، { وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } كل منكر شرعا وعقلا، معروف قبحه، والأمر بالشيء والنهي عنه يدخل فيه ما لا يتم إلا به، فإذا كان المعروف والمنكر يتوقف على تعلم وتعليم، أجبروا الناس على التعلم والتعليم، وإذا كان يتوقف على تأديب مقدر شرعا، أو غير مقدر، كأنواع التعزير، قاموا بذلك، وإذا كان يتوقف على جعل أناس متصدين له، لزم ذلك، ونحو ذلك مما لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا به.

{ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } أي: جميع الأمور، ترجع إلى الله، وقد أخبر أن العاقبة للتقوى، فمن سلطه الله على العباد من الملوك، وقام بأمر الله، كانت له العاقبة الحميدة، والحالة الرشيدة، ومن تسلط عليهم بالجبروت، وأقام فيهم هوى نفسه، فإنه وإن حصل له ملك موقت، فإن عاقبته غير حميدة، فولايته مشئومة، وعاقبته مذمومة.

{ 42 - 46 } { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإن يكذبك هؤلاء المشركون فلست بأول رسول كذب، وليسوا بأول أمة كذبت رسولها { فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ* وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ* وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ } أي: قوم شعيب.

{ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ } المكذبين، فلم أعاجلهم بالعقوبة، بل أمهلتهم، حتى استمروا في طغيانهم يعمهون، وفي كفرهم وشرهم يزدادون، { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } بالعذاب أخذ عزيز مقتدر { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي: إنكاري عليهم كفرهم، وتكذيبهم كيف حاله، كان أشد العقوبات، وأفظع المثلات، فمنهم من أغرقه، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من أهلك بالريح العقيم، ومنهم من خسف به الأرض، ومنهم من أرسل عليه عذاب يوم الظلة، فليعتبر بهم هؤلاء المكذبون، أن يصيبهم ما أصابهم، فإنهم ليسوا خيرا منهم، ولا كتب لهم براءة في الكتب المنزلة من الله، وكم من المعذبين المهلكين أمثال هؤلاء كثير، ولهذا قال: { فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ } أي: وكم من قرية { أَهْلَكْنَاهَا } بالعذاب الشديد، والخزي الدنيوي، { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } بكفرها بالله وتكذيبها لرسله، لم يكن عقوبتنا لها ظلما منا، { فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } أي: فديارهم متهدمة، قصورها، وجدرانها، قد سقطت عروشها، فأصبحت خرابا بعد أن كانت عامرة، وموحشة بعد أن كانت آهلة بأهلها آنسة، { وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } أي: وكم من بئر، قد كان يزدحم عليه الخلق، لشربهم، وشرب مواشيهم، ففقد أهله، وعدم منه الوارد والصادر، وكم من قصر، تعب عليه أهله، فشيدوه، ورفعوه، وحصنوه، وزخرفوه، فحين جاءهم أمر الله، لم يغن عنهم شيئا، وأصبح خاليا من أهله، قد صاروا عبرة لمن اعتبر، ومثالا لمن فكر ونظر.

ولهذا دعا الله عباده إلى السير في الأرض، لينظروا، ويعتبروا فقال: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } بأبدانهم وقلوبهم { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } آيات الله ويتأملون بها مواقع عبره، { أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } أخبار الأمم الماضين، وأنباء القرون المعذبين، وإلا فمجرد نظر العين، وسماع الأذن، وسير البدن الخالي من التفكر والاعتبار، غير مفيد، ولا موصل إلى المطلوب، ولهذا قال: { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } أي: هذا العمى الضار في الدين، عمى القلب عن الحق، حتى لا يشاهده كما لا يشاهد الأعمى المرئيات، وأما عمى البصر، فغايته بلغة، ومنفعة دنيوية.

{ 47 - 48 } { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ }

أي: يستعجلك هؤلاء المكذبون بالعذاب، لجهلهم، وظلمهم، وعنادهم، وتعجيزا لله، وتكذيبا لرسله، ولن يخلف الله وعده، فما وعدهم به من العذاب، لابد من وقوعه، ولا يمنعهم منه مانع، وأما عجلته، والمبادرة فيه، فليس ذلك إليك يا محمد، ولا يستفزنك عجلتهم وتعجيزهم إيانا. فإن أمامهم يوم القيامة، الذي يجمع فيه أولهم وآخرهم، ويجازون بأعمالهم، ويقع بهم العذاب الدائم الأليم، ولهذا قال: { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } من طوله، وشدته، وهو له، فسواء أصابهم عذاب في الدنيا، أم تأخر عنهم العذاب، فإن هذا اليوم، لا بد أن يدركهم.

ويحتمل أن المراد: أن الله حليم، ولو استعجلوا العذاب، فإن يوما عنده كألف سنة مما تعدون، فالمدة، وإن تطاولتموها، واستبطأتم فيها نزول العذاب، فإن الله يمهل المدد الطويلة ولا يهمل، حتى إذا أخذ الظالمين بعذابه لم يفلتهم.

{ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا } أي: أمهلتها مدة طويلة { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } أي: مع ظلمهم، فلم يكن مبادرتهم بالظلم، موجبا لمبادرتنا بالعقوبة، { ثُمَّ أَخَذْتُهَا } بالعذاب { وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } أي: مع عذابها في الدنيا، سترجع إلى الله، فيعذبها بذنوبها، فليحذر هؤلاء الظالمون من حلول عقاب الله، ولا يغتروا بالإمهال.

{ 49 - 51 } { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }

يأمر تعالى عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يخاطب الناس جميعا، بأنه رسول الله حقا، مبشرا للمؤمنين بثواب الله، منذرا للكافرين والظالمين من عقابه، وقوله: { مُبِينٌ } أي: بين الإنذار، وهو التخويف مع الإعلام بالمخوف، وذلك لأنه أقام البراهين الساطعة على صدق ما أنذرهم به، ثم ذكر تفصيل النذارة والبشارة فقال: { فَالَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم إيمانا صحيحا صادقا { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بجوارحهم { في جنات النعيم } أي: الجنات التي يتنعم بها بأنواع النعيم من المآكل والمشارب والمناكح والصور والأصوات والتنعم برؤية الرب الكريم وسماع كلامه { والذين كفروا } أي: جحدوا نعمة ربهم وكذبوا رسله وآياته فأولئك أصحاب الجحيم أي: الملازمون لها، المصاحبون لها في كل أوقاتهم، فلا يخفف عنهم من عذابها ولا يفتر عنهم لحظة من عقابها.



{ 52 - 57 } { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }

يخبر تعالى بحكمته البالغة، واختياره لعباده، وأن الله ما أرسل قبل محمد { مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى } أي: قرأ قراءته، التي يذكر بها الناس، ويأمرهم وينهاهم، { أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } أي: في قراءته، من طرقه ومكايده، ما هو مناقض لتلك القراءة، مع أن الله تعالى قد عصم الرسل بما يبلغون عن الله، وحفظ وحيه أن يشتبه، أو يختلط بغيره. ولكن هذا الإلقاء من الشيطان، غير مستقر ولا مستمر، وإنما هو عارض يعرض، ثم يزول، وللعوارض أحكام، ولهذا قال: { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } أي: يزيله ويذهبه ويبطله، ويبين أنه ليس من آياته، و { يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } أي: يتقنها، ويحررها، ويحفظها، فتبقى خالصة من مخالطة إلقاء الشيطان، { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي: كامل القوة والاقتدار، فبكمال قوته، يحفظ وحيه، ويزيل ما تلقيه الشياطين، { حَكِيمٌ } يضع الأشياء مواضعها، فمن كمال حكمته، مكن الشياطين من الإلقاء المذكور، ليحصل ما ذكره بقوله: { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً } لطائفتين من الناس، لا يبالي الله بهم، وهم الذين { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي: ضعف وعدم إيمان تام وتصديق جازم، فيؤثر في قلوبهم أدنى شبهة تطرأ عليها، فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان، داخلهم الريب والشك، فصار فتنة لهم.

{ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } أي: الغليظة، التي لا يؤثر فيها زجر ولا تذكير، ولا تفهم عن الله وعن رسوله لقسوتها، فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان، جعلوه حجة لهم على باطلهم، وجادلوا به وشاقوا الله ورسوله، ولهذا قال: { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي: مشاقة لله، ومعاندة للحق، ومخالفة له، بعيد من الصواب، فما يلقيه الشيطان، يكون فتنة لهؤلاء الطائفتين، فيظهر به ما في قلوبهم، من الخبث الكامن فيها ، وأما الطائفة الثالثة، فإنه يكون رحمة في حقها، وهم المذكورون بقوله: { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } لأن الله منحهم من العلم، ما به يعرفون الحق من الباطل، والرشد من الغي، فيميزون بين الأمرين، الحق المستقر، الذي يحكمه الله، والباطل العارض الذي ينسخه الله، بما على كل منهما من الشواهد، وليعلموا أن الله حكيم، يقيض بعض أنواع الابتلاء، ليظهر بذلك كمائن النفوس الخيرة والشريرة، { فَيُؤْمِنُوا بِهِ } بسبب ذلك، ويزداد إيمانهم عند دفع المعارض والشبه.

{ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } أي: تخشع وتخضع، وتسلم لحكمته، وهذا من هدايته إياهم، { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا } بسبب إيمانهم { إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } علم بالحق، وعمل بمقتضاه، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وهذا النوع من تثبيت الله لعبده.

وهذه الآيات، فيها بيان أن للرسول صلى الله عليه وسلم أسوة بإخوانه المرسلين، لما وقع منه عند قراءته صلى الله عليه وسلم: { والنجم } فلما بلغ { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } ألقى الشيطان في قراءته: " تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى " فحصل بذلك للرسول حزن وللناس فتنة، كما ذكر الله، فأنزل الله هذه الآيات.

{ 55 - 57 } { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }

يخبر تعالى عن حالة الكفار، وأنهم لا يزالون في شك مما جئتهم به يا محمد، لعنادهم، وإعراضهم، وأنهم لا يبرحون مستمرين على هذه الحال { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } أي: مفاجأة { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } أي: لا خير فيه، وهو يوم القيامة، فإذا جاءتهم الساعة، أو أتاهم ذلك اليوم، علم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين، وندموا حيث لا ينفعهم الندم، وأبلسوا وأيسوا من كل خير، وودوا لو آمنوا بالرسول واتخذوا معه سبيلا، ففي هذا تحذيرهم من إقامتهم على مريتهم وفريتهم.

{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ } أي: يوم القيامة { لِلَّهِ } تعالى، لا لغيره، { يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } بحكمه العدل، وقضائه الفصل، { فَالَّذِينَ آمَنُوا } بالله ورسله، وما جاءوا به { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ليصدقوا بذلك إيمانهم { فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } نعيم القلب والروح والبدن، مما لا يصفه الواصفون، ولا تدركه العقول.

{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا } بالله ورسله وكذبوا بآياته الهادية للحق والصواب فأعرضوا عنها، أو عاندوها، { فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } لهم، من شدته، وألمه، وبلوغه للأفئدة كما استهانوا برسله وآياته، أهانهم الله بالعذاب.

{ 58 - 59 } { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ }

هذه بشارة كبرى، لمن هاجر في سبيل الله، فخرج من داره ووطنه وأولاده وماله، ابتغاء وجه الله، ونصرة لدين الله، فهذا قد وجب أجره على الله، سواء مات على فراشه، أو قتل مجاهدا في سبيل الله، { لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا } في البرزخ، وفي يوم القيامة بدخول الجنة الجامعة للروح والريحان، والحسن والإحسان، ونعيم القلب والبدن، ويحتمل أن المعنى أن المهاجر في سبيل الله، قد تكفل برزقه في الدنيا، رزقا واسعا حسنا، سواء علم الله منه أنه يموت على فراشه، أو يقتل شهيدا، فكلهم مضمون له الرزق، فلا يتوهم أنه إذا خرج من دياره وأمواله، سيفتقر ويحتاج، فإن رازقه هو خير الرازقين، وقد وقع كما أخبر، فإن المهاجرين السابقين، تركوا ديارهم وأبناءهم وأموالهم، نصرة لدين الله، فلم يلبثوا إلا يسيرا، حتى فتح الله عليهم البلاد، ومكنهم من العباد فاجتبوا من أموالها، ما كانوا به من أغنى الناس، ويكون على هذا القول، قوله: { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ } إما ما يفتحه الله عليهم من البلدان، خصوصا فتح مكة المشرفة، فإنهم دخلوها في حالة الرضا والسرور، وإما المراد به رزق الآخرة، وأن ذلك دخول الجنة، فتكون الآية جمعت بين الرزقين، رزق الدنيا، ورزق الآخرة، واللفظ صالح لذلك كله، والمعنى صحيح، فلا مانع من إرادة الجميع { وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ } بالأمور، ظاهرها، وباطنها، متقدمها، ومتأخرها، { حَلِيمٌ } يعصيه الخلائق، ويبارزونه بالعظائم، وهو لا يعاجلهم بالعقوبة مع كمال اقتداره، بل يواصل لهم رزقه، ويسدي إليهم فضله.

{ 60 } { ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ }

ذلك بأن من جني عليه وظلم، فإنه يجوز له مقابلة الجاني بمثل جنايته، فإن فعل ذلك، فليس عليه سبيل، وليس بملوم، فإن بغي عليه بعد هذا، فإن الله ينصره، لأنه مظلوم، فلا يجوز أن يبغي عليه، بسبب أنه استوفى حقه، وإذا كان المجازي غيره، بإساءته إذا ظلم بعد ذلك، نصره الله، فالذي بالأصل لم يعاقب أحدا إذا ظلم وجني عليه، فالنصر إليه أقرب.

{ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } أي: يعفو عن المذنبين، فلا يعاجلهم بالعقوبة، ويغفر ذنوبهم فيزيلها، ويزيل آثارها عنهم، فالله هذا وصفه المستقر اللازم الذاتي، ومعاملته لعباده في جميع الأوقات بالعفو والمغفرة، فينبغي لكم أيها المظلومون المجني عليهم، أن تعفوا وتصفحوا وتغفروا ليعاملكم الله كما تعاملون عباده { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }

{ 61 - 62 } { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }

ذلك الذي شرع لكم تلك الأحكام الحسنة العادلة، هو حسن التصرف، في تقديره وتدبيره، الذي { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ } أي: يدخل هذا على هذا، وهذا على هذا، فيأتي بالليل بعد النهار، وبالنهار بعد الليل، ويزيد في أحدهما ما ينقصه في الآخر، ثم بالعكس، فيترتب على ذلك، قيام الفصول، ومصالح الليل والنهار، والشمس والقمر، التي هي من أجل نعمه على العباد، وهي من الضروريات لهم. { وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف، اللغات، على تفنن الحاجات، { بَصِيرٌ } يرى دبيب النملة السوداء، تحت الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ }

{ ذَلِكَ } صاحب الحكم والأحكام { بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } أي: الثابت، الذي لا يزال ولا يزول، الأول الذي ليس قبله شيء، الآخر الذي ليس بعده شيء، كامل الأسماء والصفات، صادق الوعد، الذي وعده حق ولقاؤه حق، ودينه حق، وعبادته هي الحق، النافعة الباقية على الدوام.

{ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } من الأصنام والأنداد، من الحيوانات والجمادات، { هُوَ الْبَاطِلُ } الذي، هو باطل في نفسه، وعبادته باطلة، لأنها متعلقة بمضمحل فان، فتبطل تبعا لغايتها ومقصودها، { وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } العلي في ذاته، فهو عال على جميع المخلوقات وفي قدره، فهو كامل الصفات، وفي قهره لجميع المخلوقات، الكبير في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، الذي من عظمته وكبريائه، أن الأرض قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، ومن كبريائه، أن كرسيه وسع السماوات والأرض، ومن عظمته وكبريائه، أن نواصي العباد بيده، فلا يتصرفون إلا بمشيئته، ولا يتحركون ويسكنون إلا بإرادته.

وحقيقة الكبرياء التي لا يعلمها إلا هو، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، أنها كل صفة كمال وجلال وكبرياء وعظمة، فهي ثابتة له، وله من تلك الصفة أجلها وأكملها، ومن كبريائه، أن العبادات كلها، الصادرة من أهل السماوات والأرض، كلها المقصود منها، تكبيره وتعظيمه، وإجلاله وإكرامه، ولهذا كان التكبير شعارا للعبادات الكبار، كالصلاة وغيرها.

{ 63 - 64 } { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }

هذا حث منه تعالى، وترغيب في النظر بآياته الدالات على وحدانيته، وكماله فقال: { أَلَمْ تَرَ } أي: ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك { أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } وهو: المطر، فينزل على أرض خاشعة مجدبة، قد أغبرت أرجاؤها، ويبس ما فيها، من شجر ونبات، فتصبح مخضرة قد اكتست من كل زوج كريم، وصار لها بذلك منظر بهيج، إن الذي أحياها بعد موتها وهمودها لمحيي الموتى بعد أن كانوا رميما.

{ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } اللطيف الذي يدرك بواطن الأشياء، وخفياتها، وسرائرها، الذي يسوق إلى عبده الخير، ويدفع عنه الشر بطرق لطيفة تخفى على العباد، ومن لطفه، أنه يري عبده، عزته في انتقامه وكمال اقتداره، ثم يظهر لطفه بعد أن أشرف العبد على الهلاك، ومن لطفه، أنه يعلم مواقع القطر من الأرض، وبذور الأرض في باطنها، فيسوق ذلك الماء إلى ذلك البذر، الذي خفي على علم الخلائق فينبت منه أنواع النبات، { خَبِيرٌ } بسرائر الأمور، وخبايا الصدور، وخفايا الأمور.

{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وما في الْأَرْضِ } خلقا وعبيدا، يتصرف فيهم بملكه وحكمته وكمال اقتداره، ليس لأحد غيره من الأمر شيء.

{ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ } بذاته الذي له الغنى المطلق التام، من جميع الوجوه، ومن غناه، أنه لا يحتاج إلى أحد من خلقه، ولا يواليهم من ذلة، ولا يتكثر بهم من قلة، ومن غناه، أنه ما اتخذ صاحبة ولا ولدا، ومن غناه، أنه صمد، لا يأكل ولا يشرب، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلق بوجه من الوجوه، فهو يطعم ولا يطعم، ومن غناه، أن الخلق كلهم مفتقرون إليه، في إيجادهم، وإعدادهم وإمدادهم، وفي دينهم ودنياهم، ومن غناه، أنه لو اجتمع من في السماوات ومن في الأرض، الأحياء منهم والأموات، في صعيد واحد، فسأل كل منهم ما بلغت أمنيته، فأعطاهم فوق أمانيهم، ما نقص ذلك من ملكه شيء، ومن غناه، أن يده سحاء بالخير والبركات، الليل والنهار، لم يزل إفضاله على الأنفاس، ومن غناه وكرمه، ما أودعه في دار كرامته، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

{ الْحَمِيدِ } أي: المحمود في ذاته، وفي أسمائه، لكونها حسنى، وفي صفاته، لكونها كلها صفات كمال، وفي أفعاله، لكونها دائرة بين العدل والإحسان والرحمة والحكمة وفي شرعه، لكونه لا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة، الذي له الحمد، الذي يملأ ما في السماوات والأرض، وما بينهما، وما شاء بعدها، الذي لا يحصي العباد ثناء على حمده، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده، وهو المحمود على توفيق من يوفقه، وخذلان من يخذله، وهو الغني في حمده، الحميد في غناه.


{ 65 - 66 } { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ }

أي: ألم تشاهد ببصرك وقلبك نعمة ربك السابغة، وأياديه الواسعة، و { أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ } من حيوانات، ونبات، وجمادات، فجميع ما في الأرض، مسخر لبني آدم، حيواناتها، لركوبه، وحمله، وأعماله، وأكله، وأنواع انتفاعه، وأشجارها، وثمارها، يقتاتها، وقد سلط على غرسها واستغلالها، ومعادنها، يستخرجها، وينتفع بها، { وَالْفُلْكِ } أي: وسخر لكم الفلك، وهي السفن { تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } تحملكم، وتحمل تجاراتكم، وتوصلكم من محل إلى محل، وتستخرجون من البحر حلية تلبسونها، ومن رحمته بكم أنه { يمسك السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ } فلولا رحمته وقدرته، لسقطت السماء على الأرض، فتلف ما عليها، وهلك من فيها { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }

{ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } أرحم بهم من والديهم، ومن أنفسهم، ولهذا يريد لهم الخير، ويريدون لها الشر والضر، ومن رحمته، أن سخر لهم ما سخر من هذه الأشياء.

{ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ } أوجدكم من العدم { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } بعد أن أحياكم، { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } بعد موتكم، ليجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، { إِنَّ الْإِنْسَانَ } أي: جنسه، إلا من عصمه الله { لَكَفُورٌ } لنعم الله، كفور بالله، لا يعترف بإحسانه، بل ربما كفر بالبعث وقدرة ربه.

{ 67 - 70 } { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ * وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }

يخبر تعالى أنه جعل لكل أمة { مَنْسَكًا } أي: معبدا وعبادة، قد تختلف في بعض الأمور، مع اتفاقها على العدل والحكمة، كما قال تعالى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } الآية، { هُمْ نَاسِكُوهُ } أي: عاملون عليه، بحسب أحوالهم، فلا اعتراض على شريعة من الشرائع، خصوصا من الأميين، أهل الشرك والجهل المبين، فإنه إذا ثبتت رسالة الرسول بأدلتها، وجب أن يتلقى جميع ما جاء به بالقبول والتسليم، وترك الاعتراض، ولهذا قال: { فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ } أي: لا ينازعك المكذبون لك، ويعترضون على بعض ما جئتهم به، بعقولهم الفاسدة، مثل منازعتهم في حل الميتة، بقياسهم الفاسد، يقولون: " تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله " وكقولهم { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } ونحو ذلك من اعتراضاتهم، التي لا يلزم الجواب عن أعيانها، وهم منكرون لأصل الرسالة، وليس فيها مجادلة ومحاجة بانفرادها، بل لكل مقام مقال، فصاحب هذا الاعتراض، المنكر لرسالة الرسول، إذا زعم أنه يجادل ليسترشد، يقال له: الكلام معك في إثبات الرسالة وعدمها، وإلا فالاقتصار على هذه، دليل أن مقصوده التعنت والتعجيز، ولهذا أمر الله رسوله أن يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويمضي على ذلك، سواء اعترض المعترضون أم لا، وأنه لا ينبغي أن يثنيك عن الدعوة شيء، لأنك { على هُدًى مُسْتَقِيمٍ } أي: معتدل موصل للمقصود، متضمن علم الحق والعمل به، فأنت على ثقة من أمرك، ويقين من دينك، فيوجب ذلك لك الصلابة والمضي لما أمرك به ربك، ولست على أمر مشكوك فيه، أو حديث مفترى، فتقف مع الناس ومع أهوائهم، وآرائهم، ويوقفك اعتراضهم، ونظير هذا قوله تعالى: { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } مع أن في قوله: { إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ } إرشاد لأجوبة المعترضين على جزئيات الشرع، بالعقل الصحيح، فإن الهدى وصف لكل ما جاء به الرسول، والهدى: ما تحصل به الهداية، من مسائل الأصول والفروع، وهي المسائل التي يعرف حسنها وعدلها وحكمتها بالعقل والفطرة السليمة، وهذا يعرف بتدبر تفاصيل المأمورات والمنهيات.

ولهذا أمره الله بالعدول عن جدالهم في هذه الحالة، فقال: { وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي: هو عالم بمقاصدكم ونياتكم، فمجازيكم عليها في يوم القيامة الذي يحكم الله بينكم فيما كنتم فيه تختلفون، فمن وافق الصراط المستقيم، فهو من أهل النعيم، ومن زاغ عنه، فهو من أهل الجحيم، ومن تمام حكمه، أن يكون حكما بعلم، فلذلك ذكر إحاطة علمه، وإحاطة كتابه فقال: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } لا يخفى عليه منها خافية، من ظواهر الأمور وبواطنها، خفيها وجليها، متقدمها ومتأخرها، أن ذلك العلم المحيط بما في السماء والأرض قد أثبته الله في كتاب، وهو اللوح المحفوظ، حين خلق الله القلم، قال له: " اكتب " قال: ما أكتب؟ قال: " اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة

{ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } وإن كان تصوره عندكم لا يحاط به، فالله تعالى يسير عليه أن يحيط علما بجميع الأشياء، وأن يكتب ذلك في كتاب مطابق للواقع.

{ 71 - 72 } { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }

يذكر تعالى حالة المشركين به، العادلين به غيره، وأن حالهم أقبح الحالات، وأنه لا مستند لهم على ما فعلوه، فليس لهم به علم، وإنما هو تقليد تلقوه عن آبائهم الضالين، وقد يكون الإنسان لا علم عنده بما فعله، وهو -في نفس الأمر- له حجة ما علمها، فأخبر هنا، أن الله لم ينزل في ذلك سلطانا، أي: حجة تدل علي وتجوزه، بل قد أنزل البراهين القاطعة على فساده وبطلانه، ثم توعد الظالمين منهم المعاندين للحق فقال: { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } ينصرهم من عذاب الله إذا نزل بهم وحل. وهل لهؤلاء الذين لا علم لهم بما هم عليه قصد في اتباع الآيات والهدى إذا جاءهم؟ أم هم راضون بما هم عليه من الباطل؟ ذكر ذلك بقوله: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا } التي هي آيات الله الجليلة، المستلزمة لبيان الحق من الباطل، لم يلتفتوا إليها، ولم يرفعوا بها رأسا، بل { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ } من بغضها وكراهتها، ترى وجوههم معبسة، وأبشارهم مكفهرة، { يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } أي: يكادون يوقعون بهم القتل والضرب البليغ، من شدة بغضهم وبغض الحق وعداوته، فهذه الحالة من الكفار بئس الحالة، وشرها بئس الشر، ولكن ثم ما هو شر منها، حالتهم التي يؤولون إليها، فلهذا قال: { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } فهذه شرها طويل عريض، ومكروهها وآلامها تزداد على الدوام.

{ 73 - 74 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }

هذا مثل ضربه الله لقبح عبادة الأوثان، وبيان نقصان عقول من عبدها، وضعف الجميع، فقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } هذا خطاب للمؤمنين والكفار، المؤمنون يزدادون علما وبصيرة، والكافرون تقوم عليهم الحجة، { ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ } أي: ألقوا إليه أسماعكم، وتفهموا ما احتوى عليه، ولا يصادف منكم قلوبا لاهية، وأسماعا معرضة، بل ألقوا إليه القلوب والأسماع، وهو هذا: { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } شمل كل ما يدعى من دون الله، { لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا } الذي هو من أحقر المخلوقات وأخسها، فليس في قدرتهم خلق هذا المخلوق الضعيف، فما فوقه من باب أولى، { وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } بل أبلغ من ذلك لو { يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ } وهذا غاية ما يصير من العجز. { ضَعُفَ الطَّالِبُ } الذي هو المعبود من دون الله { وَالْمَطْلُوبُ } الذي هو الذباب، فكل منهما ضعيف، وأضعف منهما، من يتعلق بهذا الضعيف، وينزله منزلة رب العالمين.

فهذا ما قدر { اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } حيث سوى الفقير العاجز من جميع الوجوه، بالغني القوي من جميع الوجوه، سوى من لا يملك لنفسه، ولا لغيره نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، بمن هو النافع الضار، المعطي المانع، مالك الملك، والمتصرف فيه بجميع أنواع التصريف.

{ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي: كامل القوة، كامل العزة، من كمال قوته وعزته، أن نواصي الخلق بيديه، وأنه لا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن، إلا بإرادته ومشيئته، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ومن كمال قوته، أنه يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ومن كمال قوته، أنه يبعث الخلق كلهم، أولهم وآخرهم، بصيحة واحدة، ومن كمال قوته، أنه أهلك الجبابرة والأمم العاتية، بشيء يسير، وسوط من عذابه.


{ 75 - 76 } { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }

لما بين تعالى كماله وضعف الأصنام، وأنه المعبود حقا، بين حالة الرسل، وتميزهم عن الخلق بما تميزوا به من الفضائل فقال: { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } أي: يختار ويجتبي من الملائكة رسلا، ومن الناس رسلا، يكونون أزكى ذلك النوع، وأجمعه لصفات المجد، وأحقه بالاصطفاء، فالرسل لا يكونون إلا صفوة الخلق على الإطلاق، والذي اختارهم واصطفاهم ليس جاهلا بحقائق الأشياء، أو يعلم شيئا دون شيء، وإنما المصطفى لهم، السميع، البصير، الذي قد أحاط علمه وسمعه وبصره بجميع الأشياء، فاختياره إياهم، عن علم منه، أنهم أهل لذلك، وأن الوحي يصلح فيهم كما قال تعالى: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }

{ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } أي: هو يرسل الرسل، يدعون الناس إلى الله، فمنهم المجيب، ومنهم الراد لدعوتهم، ومنهم العامل، ومنهم الناكل، فهذا وظيفة الرسل، وأما الجزاء على تلك الأعمال، فمصيرها إلى الله، فلا تعدم منه فضلا أو عدلا.


{ 77 - 78 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }

يأمر تعالى، عباده المؤمنين بالصلاة، وخص منها الركوع والسجود، لفضلهما وركنيتهما، وعبادته التي هي قرة العيون، وسلوة القلب المحزون، وأن ربوبيته وإحسانه على العباد، يقتضي منهم أن يخلصوا له العبادة، ويأمرهم بفعل الخير عموما.

وعلق تعالى الفلاح على هذه الأمور فقال: { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي: تفوزون بالمطلوب المرغوب، وتنجون من المكروه المرهوب، فلا طريق للفلاح سوى الإخلاص في عبادة الخالق، والسعي في نفع عبيده، فمن وفق لذلك، فله القدح المعلى، من السعادة والنجاح والفلاح.

{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } والجهاد بذل الوسع في حصول الغرض المطلوب، فالجهاد في الله حق جهاده، هو القيام التام بأمر الله، ودعوة الخلق إلى سبيله بكل طريق موصل إلى ذلك، من نصيحة وتعليم وقتال وأدب وزجر ووعظ، وغير ذلك.

{ هُوَ اجْتَبَاكُمْ } أي: اختاركم -يا معشر المسلمين- من بين الناس، واختار لكم الدين، ورضيه لكم، واختار لكم أفضل الكتب وأفضل الرسل، فقابلوا هذه المنحة العظيمة، بالقيام بالجهاد فيه حق القيام، ولما كان قوله: { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } ربما توهم متوهم أن هذا من باب تكليف ما لا يطاق، أو تكليف ما يشق، احترز منه بقوله: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي: مشقة وعسر، بل يسره غاية التيسير، وسهله بغاية السهولة، فأولا ما أمر وألزم إلا بما هو سهل على النفوس، لا يثقلها ولا يؤودها، ثم إذا عرض بعض الأسباب الموجبة للتخفيف، خفف ما أمر به، إما بإسقاطه، أو إسقاط بعضه. ويؤخذ من هذه الآية، قاعدة شرعية وهي أن " المشقة تجلب التيسير " و " الضرورات تبيح المحظورات " فيدخل في ذلك من الأحكام الفرعية، شيء كثير معروف في كتب الأحكام.

{ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } أي: هذه الملة المذكورة، والأوامر المزبورة، ملة أبيكم إبراهيم، التي ما زال عليها، فالزموها واستمسكوا بها.

{ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } أي: في الكتب السابقة، مذكورون ومشهورون، { وَفِي هَذَا } أي: هذا الكتاب، وهذا الشرع. أي: ما زال هذا الاسم لكم قديما وحديثا، { لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ } بأعمالكم خيرها وشرها { وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } لكونكم خير أمة أخرجت للناس، أمة وسطا عدلا خيارا، تشهدون للرسل أنهم بلغوا أممهم، وتشهدون على الأمم أن رسلهم بلغتهم بما أخبركم الله به في كتابه، { فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } بأركانها وشروطها وحدودها، وجميع لوازمها، { وَآتُوا الزَّكَاةَ } المفروضة لمستحقيها شكرا لله على ما أولاكم، { وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ } أي: امتنعوا به وتوكلوا عليه في ذلك، ولا تتكلوا على حولكم وقوتكم، { هُوَ مَوْلَاكُمْ } الذي يتولى أموركم، فيدبركم بحسن تدبيره، ويصرفكم على أحسن تقديره، { فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } أي: نعم المولى لمن تولاه، فحصل له مطلوبه { وَنِعْمَ النَّصِيرُ } لمن استنصره فدفع عنه المكروه.

تم تفسير سورة الحج، والحمد لله رب العالمين.



.
.
.








 توقيع : دره العشق
 

 

 
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
(والله, الاعمال, الحج, يتقبل, سامح, وأنكم, كامل

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد : الآية رقم 70 من سورة النحل Şøķåŕą ۩ القُــرآن الكرِيــم ۩ 33 منذ 4 أسابيع 07:48 AM
بردوسكات رمضانيه2020, أدعو الله أن يتقبل صالح العمل ! شيخة رواية ϟ التواصُــل الإجتمَاعــي ϟ 18 09-08-2023 09:53 PM
( والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير ( 70 رحيل ۩ القُــرآن الكرِيــم ۩ 13 04-12-2023 08:59 PM
ما هو الفرق بين ريادة الاعمال وادارة الاعمال لَـحًـــنِ ♫ 𓇬 تَطـوير الــذَّات 𓇬 10 01-30-2023 01:48 PM

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


الساعة الآن 02:11 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2024, Trans. By Soft
تنويه : المشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس بالضرورة تمثل رأي أدارة الموقع