03-20-2021
|
03-20-2021
|
#2
|


القاعدة الثانية: الصبر على تبليغ الدعوة
مجلة الفرقان
لو تأملنا واقع دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأنبياء من قبله وما ابتلوا به، لوجدنا كثيرا من العبر في اجتهادهم وصبرهم في تبليغ دعوة ربهم إلى أقوامهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «ولهذا أمر الله الرسل -وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- بالصبر، كقوله لخاتم الرسل المقرون بتبليغ الرسالة: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى قوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}، إذًا: نزل الأمر بالصبر مع أول الأمر بالإبلاغ وبالنذارة، فهما مقترنان معًا.
ثم قال -رحمه الله-: «فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة، وختمها بالأمر بالصبر، والإنذار نفسه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعلم أنه يجب بعد ذلك الصبر، وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور:48) وقال -تعالى-: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (المزمل:10) وقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف:35) وقال: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (القلم:48) وقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (النحل:127) وقال: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (هود:115)».
معالم الصبر في دعوة نوح عليه السلام
فهذا نوح -عليه السلام- يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، لم يمل من دعوتهم ولم يدع عليهم، ولم ينحرف نحوهم رغم كثرة عدد الكافرين، ورغم أن زوجه وولده كانوا من الكافرين، فلما أعلمه ربه: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ}، دعا عليهم فقال: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}، وصبر على استهزائهم بدعوته.
ما آمن معه إلا قليل
وعاش نوح -عليه السلام- 950 سنة ومع ذلك لم يؤمن به إلا عدد قليل جدًا، يقول الله -سبحانه وتعالى-: {وما أمن معه إلا قليل}، قيل إن أقصى عدد آمن به هو 80 فردًا فقط طوال الـ 950 سنة، فهي دعوة للصبر والإصرار بلا يأس أو عنف حتى لو لم تحقق أي نتائج، فتخيل صبره وإصراره دون ملل أو عنف طوال هذه المدة.
أنواع متعددة من الأذى
صبر نوح -عليه السلام- على أشياء كثيرة، فصبر على مكر قومه وتكذيبهم وأذاهم، مثلما قال القرآن الكريم عنهم {ومكروا مكرًا كبارًا}، وصبر على سخرية قومه يقول الله -سبحانه وتعالى-: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}، كما أنه صبر على عدم تحقق أي نتائج {وما آمن معه إلا قليل}، وصبر أيضا على عدم إيمان زوجته وتكذيبها له، ومع ذلك صبر عليها لعلها تؤمن، وصبر أيضا على كفر ابنه، قال الله -تعالى-: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}، كما صبر على فقد ابنه؛ لأنه غرق في الطوفان قال الله -تعالى-: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}.
الإصرار على الدعوة بكل الوسائل
ومع كل هذه المحن ظل سيدنا نوح -عليه السلام- مصرًا على دعوة قومه بكل الوسائل الممكنة، يقول الله -تعالى-: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا }، {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}، فهل رأيت إصرارا أكثر من ذلك؟ وكل هذا من غير أي عنف أو تشدد.
الرغبة في نجاة الجميع
نبي الله نوح -عليه السلام- لم يصنع قاربا لينجو فيه هو وأهله فقط، لكنه صنع سفينة كبيرة، استمر بناؤها سنين طويلة؛ لأنه يريد إنقاذ أكبر عدد من الناس، فهذه هي نفسية المؤمن المحب للناس، لم يتمنَّ لهم الغرق، بل بنى سفينة وليس قارب نجاة لعلهم ينجون جميعًا.
معالم الصبر في دعوة إبراهيم عليه السلام
وكذلك صبر نبي الله إبراهيم -عليه السلام- على دعوة قومه، وكانت الحجة مَنطِقَه الذي يدعوهم به، فحاج ملكهم الذي ادعى أنه إله من دون الله فبهت الذي كفر، وحاج عبّاد الكواكب فغلبهم، وحاج عبّاد الأوثان بالحجة العملية فأقروا أنهم الظالمون، لكن لما غلبهم بالحجة قالوا: {حرقوه وانصروا آلهتكم}، فالعبد الضعيف ينصر إلهه، ضعف الطالب والمطلوب، لكن الله جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم.
الصبر على تبليغ الدعوة
وقد ضرب لنا إبراهيم -عليه السلام- أروع الأمثلة في كيفية الدعوة إلى الله -تعالى- والصبر عليها؛ فنجده بدأ بدعوة أقرب الأقربين منه وهو أبوه آزر، ونجده يخاطب أباه بأرق عبارة، وبألطف إشارة، وبأبلغ بيان، وهذا هو الأسلوب الذي يجب أن ينتهجه القائم بأمر الدعوة كما قال -تعالى-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125)، ثم نجده -عليه السلام- لم يترك وسيلة يتوقع عن طريقها أن يهتدي أبوه وقومه إلا استخدمها، كالدعوة باللين والحكمة ثم بالحجة البالغة عن طريق المشاهدة والمعاينة، ومع ذلك يجب أن يعلم الداعي إلى الله أن الهداية بيد الله وحده كما قال -تعالى-: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (البقرة:272).
الصبر على المصائب وتحمل الأذى
وقد لاقى إبراهيم -عليه السلام- في سبيل الدعوة إلى الله -تعالى- الكثير من الأذى من قومه ووالده، فقد هدده والده بالرجم إن لم ينتهِ عن الدعوة، وقام قومه بتسفيهه والتحقير من شأنه، ومع ذلك صبر وواصل مشوار الدعوة حتى أجمع قومه على حرقه في النار، ومع ذلك لم يرجع عن دعوته وإنما صبر وتوكل على الله، وفوض أمره لله -تعالى- وكما في حديث ابن عباسٍ قال: «{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَام- حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}» (رواه البخاري).
معالم الصبر في دعوة موسى عليه السلام
والمتأمل لقصة موسى -عليه السلام- التي تعد أكثر قصص القرآن الكريم ذكرًا؛ حيث ذكر قرابة 136 مرة - يرى قصة نبي صابر محتسب، ابتلي بابتلاءات كثيرة وشديدة، ليس فقط من قوم فرعون، بل من قومه الذين أسلموا معه؛ حيث آذوه في كل مرحلة من مراحل بعثته، رغم تودده إليهم واستعطافهم وتذكيرهم إياهم بما يعلمون من كونه رسولا من الله، وبما شاهدوا من الآيات والمعجزات، قال -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ}، وشهد له رسول الله بذلك في قصة الأعرابي الذي اتهم رسول الله بعد العدل فقال - صلى الله عليه وسلم -: «رحم الله موسى قد أوذِي بأكثر من هذا فصبر».
الصبر على الأذى في سبيل الدعوة
وأوذي كليم الله -عليه السلام- في الله -تعالى- أعظم الأذى؛ فاتهمه فرعون بالسحر لما جاءه بالآيات، وقال: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} (الشعراء:34), ورماه بالجنون لما عرفه بالله -تعالى- وقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (الشعراء:27)، وادعى أنه مسحور فقال: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} (الإسراء:101)، وزعم أنه في دعوته كذاب {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ} (القصص:38), واستصغر فرعون موسى -عليه السلام- وحقّر شأنه وعيره فقال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}.
(الزُّخرف:52).
بلوغ الأذى منتهاه
وبلغ الأذى بموسى ومن معه منتهاه حين توعدهم فرعون قائلا: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}(الأع راف:127), وموسى -عليه السلام- يثبتهم ويصبرهم ويعدهم بنصر الله -تعالى- فيقول: {اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَك ُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (الأعراف:128-129)، وتآمروا على قتله قبل هجرته -عليه السلام- إلى مدين, وبعد عودته منها بحجة أنه مفسد {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ}. (غافر:26).
الصبر على أذى بني إسرائيل
واستمر أذى قومه له حتى بعد هلاك فرعون، بتعنت بني إسرائيل، وكثرة سؤالهم واختلافهم، وبطئهم في الامتثال، وعبادتهم للعجل، ورميهم موسى بالسخرية فقالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ} (البقرة:67)، وعصوه في الجهاد وقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة:24)، ولا عجب مع كثرة الأذى الذي ناله وقت فرعون وبعده أن يقول لقومه {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} (الصَّف:5).
معالم الصبر في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم
أما صبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان أعظم الصبر، حيث صبر - صلى الله عليه وسلم - على أصناف كثيرة من الآلام والمشاقّ والمحن، فقد آذاه المشركون، ورموه بالكذب، والكهانة، والسحر، وهو في كل ذلك صابر ثابت محتسب، يبلغ رسالته، ويدعو أمته، كما صبر - صلى الله عليه وسلم - على أذى الـمنافقين.
صبره - صلى الله عليه وسلم - على المشركين
صبر - صلى الله عليه وسلم - على المشركين حينما آذوه، ورموه بالكذب، والكهانة، والسحر، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجد وحوله ناس من قريش، جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور، فقذفه على ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة -عليها السلام- فرفعته من فوق ظهره، ودعت على من صنع»، وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: «يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال: فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال، فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله -تعالى- وحده لا يشرك به شيئًا».
صبره - صلى الله عليه وسلم - على أذى المنافقين
أما المنافقون فقد صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم صبرًا عجيبًا، ومع أنهم كانوا أشد كفراً وأكثر خطراً من المشركين، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخذهم إلا بما ظهر منهم، مع علمه بما هم عليه من النفاق الأكبر، وكان من هديه وسيرته -صلوات الله وسلامه عليه- معهم محاولة إصلاحهم، حتى يكونوا لبنة صالحة في المجتمع، قال ابن القيم: «أما سيرته - صلى الله عليه وسلم - في المنافقين، فإنه أُمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكِل سرائرهم إلى الله، وأن يُجاهدهم بالعلم والحجة»، وقد سلك النبي - صلى الله عليه وسلم - معهم طريق الإغضاء والعفو عن أخطائهم، يقبل منهم أعذارهم على ضعفها وكذبها، فإذا وقع أحدهم في إساءة أدب معه - صلى الله عليه وسلم - إلى الحد الذي يجعل الصحابة -رضوان الله عليهم- يطالبونه بقتلهم، إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان متمسكاً بمنهجية التجاوز والصفح عنهم، وعدم قتل أحد منهم، حتى لا يقال: إن محمداً يقتل أصحابه.
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
03-20-2021
|
#3
|


القاعدة الثالثة
- الرفق واللين والموعظة الحسنة
مجلة الفرقان
الدعوة إلى الله هي إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الشرك إلى التوحيد، والدعوة الصحيحة هي التي تقوم على منهج الأنبياء والرسل، وتنبع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل دعوة لا تقوم على هذا الأساس هي دعوة قاصرة وناقصة، يخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معًا، لذلك بدأت لجنة البحث العلمي في الفرقان باستنباط بعض قواعد الدعوة والإصلاح من منهج الأنبياء والمرسلين، وقد تكلمنا في الحلقتين السابقتين عن التوحيد والصبر بوصفهما معلمين رئيسين من معالم تلك الدعوة، واليوم نكمل ما بدأناه مع قاعدة الرفق واللين والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
عند تأمل قصص الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- نجد أنهم استعملوا هذا اللفظ (يا قوم) في مخاطبتهم لأقوامهم، فقد جاء ذلك في قصة نوح، وإبراهيم، ولوط، وموسى، وهود، وصالح، وشعيب، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، كما نجد هذا الاستعطاف في دعوة إبراهيم - عليه السلام - لأبيه بقوله: (يا أبت) وتكرارها مرات كثيرة، كما في قوله -سبحانه-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (مريم:41-45)، وهكذا ينبغي للداعية اختيار الألفاظ المناسبة التي تشعر المدعوين بالقرب منه والحرص على مصلحتهم.
الأصل في منهج الأنبياء
من هنا فإن الناظر في الشرع الشريف يرى أن خلق الرحمة والرفق واللين هو الأصل في منهج الأنبياء -عليهم صلوات الله وسلامه- في دعوتهم إلى الله -تعالى- ومعاملتهم مع الخلق، وقد بيَّن الله -عز وجل- لنا في كتابه الكريم وكذا النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنته وسيرته الشريفة كيف أن الدعوة إلى الله لابد أن تكون برفق وشفقة، بل وخوف على الناس من عدم الإيمان واتباع الوحي المنزل.
معالم الرفق واللين في دعوة نوح -عليه السلام
دعا نوح -عليه السلام- قومه ليلاً ونهارًا، وسرًا وجهارًا، مراعاة لأحوال الناس وطبائعهم، {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إلَّا فِرَارًا وَإنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إسْرَارًا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا}، ففي الآيات الكريمات كشف لحال نوح - عليه السلام - مع قومه في دعوتهم إلى العبادة والتوحيد وأنه واجههم بطريق اللين والرفق، وهذا ما يظهر من حرصه ونصحه، وترغيبهم بأبلغ ما يكون من لذات الدنيا ومطالبها، وإتيانهم بكل باب يظن أن يحصل منه المقصود.
معالم الرفق واللين في دعوة إبراهيم -عليه السلام
دعا إبراهيم عليه السلام أباه بكل أدب ورفق راجياً هدايته، قال -تعالى-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)} قال العلامة السعدي -رحمه الله-: «أي: مستقيما معتدلا وهو: عبادة الله وحده لا شريك له، وطاعته في جميع الأحوال، وفي هذا من لطف الخطاب ولينه، ما لا يخفى، فإنه لم يقل: «يا أبت أنا عالم، وأنت جاهل» أو «ليس عندك من العلم شيء» وإنما أتى بصيغة تقتضي أن عندي وعندك علما، وأن الذي وصل إلى لم يصل إليك ولم يأتك، فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها.
معالم الرفق واللين في دعوة نبي الله لوط -عليه السلام
وهذا نبيُّ الله لوط الذي كان قومه يرتكبون أعظم الفاحشة، ومع ذلك لم يعاملهم بالعنف والقسوة، ولم يسلَّ في وجههم سيف الدين، بل راح يعظهم ويقدّم لهم دليلاً ليس دينيًّا، وإنما أمرٌ عقلي مفاده أنّ هذا الفعل لم يسبقكم إليه أحد من قبل، فلو كان فيه جهة حسنة لفعله من سبقكم من الأمم، قال -تعالى-: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ}، وقال -تعالى-: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
معالم الرفق واللين في دعوة موسى -عليه السلام
أمر الله -تعالى- كليمه موسى -عليه السلام- أن يذهب إلى فرعون الذي تمرد وزاد على الحد في الكفر والفساد والعلو في الأرض، والقهر للضعفاء، حتى إنه ادعى الربوبية والألوهية -قبحه الله- وقد علمه الله كيف يتحاور مع فرعون بالأسلوب اللين والخطاب اللطيف، عسى أن يقبل الحق، فقال -تعالى-: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}.
وأيضا أمر الله -تعالى- موسى وهارون -عليهما السلام- حين بعثهما إلى فرعون فقال: { اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} قال ابن كثير -رحمه الله-: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى} أي: تمرد وعتا وتكبر على الله وعصاه، {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أُمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، والحاصل أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين قريب سهل، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع، كما قال -تعالى-: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} الآية (النحل: 125).
معالم الرفق واللين في دعوة مؤمن آل فرعون
فهذا مؤمن آل فرعون يقول في دعوته لقومه: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} (غافر:30-32)، فأظهر لهم مشاعره الصادقة وخوفه الحقيقي عليهم.
معالم الرفق واللين في دعوة صالح -عليه السلام
وهذه دعوة بقية الأنبياء من صالح -عليه السلام- إلى هود -عليه السلام- إلى إبراهيم -عليه السلام-، إلى غيرهم من أنبياء الله الذين ذكرهم القرآن الكريم، ولا ترى في دعوتهم إلا الوعظ والتذكير، والدعوة إلى التأمّل ومراجعة الذات وبيان المعارف الإلهية والنعم التي أنعمها الله على بني البشر، وغيرها من الأساليب التي لا تنطوي إلّا على المحبّة والرفق والخوف على الآخر والنصيحة دون عنف أو قسوة، قال -تعالى-: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، وقال -تعالى-: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
معالم الرفق واللين في دعوة نبينا - صلى الله عليه وسلم
الرحمة والرأفة كما قال الحسن البصري -رحمه الله-: هذا خلق محمد - صلى الله عليه وسلم - بعثه الله به. ويدل لهذا قول الله -تعالى-: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}، وقال الله -تعالى-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} قال ابن كثير -رحمه الله-: «الفظ: الغليظ، والمراد به هاهنا غليظ الكلام؛ لقوله بعد ذلك: {غليظ القلب} أي: لو كنت سيئ الكلام، قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم، كما قال عبد الله بن عمرو: «إنه رأى صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المتقدمة: أنه ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح «.
من صور رفقه ولينه - صلى الله عليه وسلم
ومن صور رفقه ولينه - صلى الله عليه وسلم - من السنة ما جاء في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم -رضي الله عنه- قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله؛ إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أماه! ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتّونني لكنني سكت، فلما صلى النبي فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه! فو الله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (أخرجه مسلم).
وامتدح الله النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران:159)، وقال -عز وجل-: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}(التوبة:128)، وبلغ من شفقته - صلى الله عليه وسلم - وحرصه على هداية الناس أن كادت نفسه الشريفة أن تتلف حزنًا على مَن ضل ولم يؤمن حتى واساه الله بقوله: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} (فاطر:8).
الشيخ الألباني: الرفق واللين من آداب الدعوة والداعي
قال الإمام المحدث محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله-: « قال -تعالى-: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، لا شك أن أكبر ضلالة هي التي كان عليها المشركون ومع ذلك فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتلطف معهم ويترفق بهم، إلى أبعد حدود الحسن واللطف، ولعله يحسن بهذه المناسبة أن نُذكّر بحديث السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: دخل يهودي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: السام عليك يا محمد! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وعليك»، فقالت عائشة: فهممت أن أتكلم، فعلمت كراهية النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك، فسكت، ثم دخل آخر فقال: السام عليك، فقال: «عليك»، فهممت أن أتكلم، فعلمت كراهية النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك، ثم دخل الثالث فقال: السام عليك، فلم أصبر حتى قلت: وعليك السام وغضب الله ولعنته، إخوان القردة والخنازير، أتحيُّون رسول الله بما لم يحيه؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الله لا يُحب الفحش ولا التفحّش، قالوا قولاً فرددنا عليهم، إنّ اليهود قوم حُسدٌ، وإنهم لا يَحْسدُوننا على شيء كما يَحْسُدُوننا على السلام، وعلى آمين».
الشيخ ابن باز: الرفق واللين أمر للأمة جميعًا
قال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: أما أسلوب الدعوة فبينه الرب -جل وعلا- وهو الدعوة بالحكمة أي بالعلم والبصيرة، بالرفق واللين لا بالشدة والغلظة، هذا هو الأسلوب الشرعي في الدعوة، قال -تعالى-: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}، هذا الأمر العظيم، وإن كان موجها إلى الرسول العظيم - صلى الله عليه وسلم -، فهو أمر للأمَّة جميعًا وإن خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو الأصل والأساس، وهو القدوة - صلى الله عليه وسلم -، وفي هذه الآية العظيمة بيان كيفية الدعوة وأسلوبها، ونظامها وما ينبغي للداعي أن يكون عليه: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} قال جماعة من علماء التفسير: معنى ذلك: الآيات والأحاديث: يعني ادع إلى الله بآيات الله وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لما فيها من الحكمة، ولما فيها من الفقه والردع والبيان والإيضاح، والكلمة الحكيمة هي التي فيها الردع عن الباطل، والتوجيه إلى الخير، وفيها الإقناع والتوجيه إلى ما فيه السعادة.
الشيخ العثيمين: الدعوة باللطف واللين وبيان الحق
قال الشيخ محمد صالح العثيمين -رحمه الله-: «إننا نحث إخواننا ولا سيما الشباب على أن يحرصوا غاية الحرص على دعوة إخوانهم إلى الحق، وليكن ذلك باللطف واللين وبيان الحق؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف» وهذا كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو لا ينطق عن الهوى، فعلى الشباب أن يدعوا إلى الله على بصيرة وعلم بالرفق واللين ولا ييأسوا، قد تحصل من المدعو نفرة في أول الأمر وكراهية، لكن إذا عومل بالتي هي أحسن ودون عنف وباللين، فإن الله -عز وجل- يقول لموسى وهارون: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا} لماذا؟ {لعله يتذكر أو يخشى} (سورة طه، الآيتان: 43-44)، فهكذا ينبغي على كل داعية إلى الخير أن يقابل الناس باللين وبيان الحق، وأن يصبر على ما يجد من جفوة.
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
03-20-2021
|
#4
|


القاعدة الرابعة
- التــدرج في الدعـــوة
مجلة الفرقان
الدعوة إلى الله هي إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الشرك إلى التوحيد، والدعوة الصحيحة هي التي تقوم على منهج الأنبياء والرسل، وتنبع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل دعوة لا تقوم على هذا الأساس دعوة قاصرة وناقصة، وقد تفشل بسبب انحرافها عن الصراط المستقيم، لذلك بدأت لجنة البحث العلمي بالفرقان في استنباط بعض قواعد الدعوة والإصلاح من منهج الأنبياء والمرسلين، وقد تكلمنا في الحلقتين السابقتين عن التوحيد والصبر بوصفهما معلمين رئيسين من معالم تلك الدعوة، واليوم نكمل ما بدأناه مع قاعدة فقه التدرج في الدعوة.
سنةٌ ربَّانية إلهية
إن التدرج سنةٌ ربَّانية إلهية في الرسالات جميعها، منذ نوح -عليه السلام-إلى خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وعليهم- أجمعين، ولا عجبَ في ذلك؛ فإن الرسالات جاءت من عند اللهِ الواحد الأحد، والرسل كلهم أرسَلهم الله -تعالى- ليُبلِّغوا للخلقِ رسالة واحدة، هي الإسلام، وليأمروا الناس بعبادةِ الله وحده لا شريك له، ونَبْذ عبادة الأصنام والأنداد، سواء كانت بشرية أم خشبية أم حجرية، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } (النحل: 36).
الدعوة إلى توحيد الله -تعالى
ويبدأ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - دعوتَه إلى توحيد الله -تعالى- باللِّين وبالرفق، ويُقِيم الأدلة والبراهين، ويدعو بالترغيب قبل الترهيب، ثم ما يلبَثُ الملأُ أصحابُ المصالح الدنيوية بالتكذيب وإلقاء الاتهامات، وقيادة حملات التشكيك والطعن في بشرية الرسول، أو في صدقه، أو في نبل الغاية التي جاء لأجلها، ومع هذا يواجِهُ الرسلُ -صلوات الله عليهم- أجمعين هذه الاتهاماتِ بالصبر وباللين وسَعة الصدر، والأمل في الهداية، وكلُّ هذا بتوجيهٍ من الله -عز وجل.
فقه التدرج في دعوة نوح -عليه السلام
أرسل الله -عز وجل- نوحًا -عليه السلام- إلى قومٍ يعبدون أصناما صنعوها لأناس صالحين، ولكن الشيطان خطا بهم خطواته، وزيَّن لهم الأمر شيئًا فشيئًا، وسلك معهم سبيلَ التدرج حتى عبَدوا التماثيل التي صنعوها لهؤلاء الرجال الصالحين، وأصروا على هذا الصنيع، قال -تعالى-: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح: 23)، وقد تعمَّقت جذور الكفر، وتأصَّلت عبادة الأصنام في عقول الناس وقلوبهم بفعل الإضلال الشيطاني؛ ليتبيَّن لنا أن زرع الأفكار وبناء العقائد أو تغييرها لا يمكن أن يتم فجأة أو دفعة واحدة، وإنما يكون على مراحل وبتدرج؛ ولهذا كانت المهمة صعبةً، والظروف قاسية بالنسبة لنوح -عليه السلام-، فلقد ظل يدعو قومه ليلاً ونهارًا، وسرًّا وجهارًا، ومكث بين قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وقد انقسمت مراحل دعوته إلى الآتي:
(1) البَدْء بتوحيد الله -عز وجل- ونبذ عبادة الأصنام.
(2) مواجهة الملأ الذين تصدَّوا لدعوته.
(3) طول أمد الدعوة؛ مما استدعى تنويع أساليبها وتدرجها من استعمال الرفق واللين والترغيب، ثم التأنيب والتوبيخ، ومواجهة ذلك منهم بالاستخفاف والاستهزاء والسخرية، وتعرُّضه للمساومة كي يَطرُدَ المؤمنين الفقراء.
(4) اليأس من إيمانهم بعد إخبار الله -تعالى- له والدعاء عليهم.
(5) هلاك المكذِّبين.
سمات التدرج في دعوة نوح -عليه السلام
وقد اتسمت سُنَّة التدرج في دعوة نوح -عليه السلام- بسمات عدة، منها:
(1) فهم بيئة الدعوة؛ لتحديد نقطة البَدْء.
(2) الدعوة إلى نَبْذ الأصنام، وتوحيد الله -عز وجل.
(3) استعمال الأساليب الممكنة والمتاحة لدى الداعي مع الصبر والتحمل.
(4) مراعاة أحوال المخاطَبين ودعوتهم بالحكمة.
(5) البَدْء بأسلوب اللين والرفق مع المدعوِّين، والترغيب أولاً ثم الترهيب والتوبيخ، ثم التعنيف والتخويف، ثم يدعو الله -عز وجل- أن يفتح بينه وبين قومه.
فقه التدرج في دعوة إبراهيم -عليه السلام
لقد أثنى الله -تعالى- على خليله إبراهيم -عليه السلام- في مواضع كثيرة، منها قوله -تعالى-: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (النجم: 37)، وقوله -تعالى-: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: 124)، وهذه شهادة من الله -تعالى- بأنه أتم عهد العبودية، وأما سنة التدرج في قصة إبراهيم -عليه السلام- تتلخص في الآتي:
(1) البَدْء بدعوة أبيه؛ لأنه أقرب الأقربين إليه، ولأنه كان صانعًا للأصنام، وهذا من باب تجفيف ينابيع الكفر.
(2) دعوته لقومه، وعلى رأسهم النمرود، وكان هذا في بابل محل نشأته الأولى، وهكذا يكون البَدْء.
(3) دعوته لأهل حران بعد تركه بابلا؛ حيث كانوا يعبدون الكواكب.
والمتتبع لقصة إبراهيم -عليه السلام- يجد أنَّ سنة التدرج سنةٌ ثابتة في دعوته -عليه السلام-، ويظهر ذلك فيما يلي:
(1) البَدْء بالأهم، وهو الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك، وكان ذلك بالبراهين والأدلة، والمناظرات العقلية، ومجادلة الخصم واستدراجه؛ لتظهر له الأدلة واضحة جلية فيقف في حيرة من أمره، لا يجد حيلة ولا حجة، فينهار داخليًّا، ويخر ساقطًا، ولو ظل واقفًا في أعين الناس.
(2) البَدْء بالأقربين، وقد تمثَّل ذلك في البدء بدعوة أبيه، وقد كان صانعًا للتماثيل، وبهذا يستطيع إبراهيم -عليه السلام-أن يجتثَّ جذور الشرك، بالقضاء عليه من منابعه، ثم كانت دعوته لقومه.
(3) لقد ابتعد إبراهيم -عليه السلام-عن أسلوب الصدام المباشر، فقد كان يقر الخصم على سبيل الافتراض أو الجدال؛ ليستدرجه بعد ذلك لما يريد.
(4) الترقي في استعمال الأدلة كما حدث في مناظرة عبدة الكواكب؛ حيث بدأ بالكواكب ثم القمر ثم الشمس.
فقه التدرج في دعوة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم
بدأ نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الدعوة للإسلام بالدعوة لأركان الإيمان، لإفراد الله -عز وجل- بالعبودية ونبذ الشرك والوثنية، وقد بقي - صلى الله عليه وسلم - ما يقارب نصف عمره بعد الرسالة يدعو إلى هذا التوحيد، ويركز عليه دون غيره، وبعد بضع سنوات من تثبيت عقيدة التوحيد -التي تعد الأساس والأصل- في نفوس الجماعة المؤمنة، فرضت الصلاة ثم الصيام والزكاة والجهاد والحج، دل على ذلك حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-؛ حيث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت» (البخاري)، وعن جرير بن عبد الله قال: «بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم» (رواه البخاري)، يقول ابن حجر مبينًا البدء بالصلاة بعد التوحيد: «وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما يشترط بعد التوحيد إقامة الصلاة؛ لأنها رأس العبادات البدنية، ثم أداء الزكاة؛ لأنها رأس العبادات المالية، ثم يعلم كل قوم ما حاجتهم إليه أَمَسُّ».
الدعوة إلى أصول الأخلاق
وكما تدرج - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى أركان الإسلام مراعيًا البدء بالأهم ثم المهم، فقد راعى هذا الجانب في الدعوة إلى أخلاق الإسلام؛ حيث بدأ بالدعوة إلى أصول الأخلاق من الصدق والعدل وأداء الأمانة والعفة، مراعيًا في ذلك جانب التدرج في الوجوب والعلو؛ حيث حاجة الفرد إليها أمس، وأداؤها عليه أوجب، وقد جاءت الأدلَّة تؤكد اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بهذا الجانب في عهد مبكر من دعوته.
التدرج في تحريم المنكرات
وبالتدرج نفسه جرى تحريم المنكرات، فتحريم الخمر على سبيل المثال تم على مراحل، بدأت بالتحذير من مضاره وآثامه، ثم انتهت إلى تحريمه على وجه القطع.
التدرج في الدعوة
وأما في المدعوين أنفسهم فقد تدرجت دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ بدأ بمحيطه القريب جدا، (زوجته خديجة، وصاحبه أبي بكر، وابن عمه علي بن أبي طالب، وغلامه زيد بن حارثة)، ثم اتسعت الدائرة لتشمل محيطًا من أقاربه أوسع من ذي قبل عملًا بقوله - عز وجل -: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) وقضى فترة زمنية ليست بالقصيرة يدعوهم إلى الله -تعالى-، وينذرهم عذابه، فدل هذا على أن البداءة بالأقربين مستمرة في كل زمان، وبعد أن أنذر - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة وصبر على أذاهم طويلًا، دعا أهل الطائف ثم أعيان قبائل العرب ممن يقدمون على بيت الله الحرام.
دعوة أهل الكتاب
وبعد الإذن بالهجرة إلى المدينة دعا - صلى الله عليه وسلم - أهل الكتاب، ثم أزال بالجهاد الذين كانوا يعيقون إبلاغ الدعوة إلى الناس، ثم أرسل الكتب إلى زعماء الروم والفرس والحبشة وغيرهم يدعوهم إلى الدخول في دين الله، وبذلك نعلم أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - تدرج في تبليغ الإسلام والدعوة إليه متخذا في ذلك الوسائل المناسبة لدعوة الكفار.
سمات التدرج في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم
ومن سمات سنة التدرج في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - الآتي:
(1) نزول القرآن منجَّمًا بحسب الوقائع والأحداث.
(2) البَدْء بالدعوة إلى توحيد الله -عز وجل.
(3) البَدْء بدعوة الأقربين.
(4) الدعوة السرية في بداية الأمر، ثم الدعوة جهرًا.
(5) الصبر وتحمل الأذى، ثم رد العدوان، ثم القتال.
(6) بناء جيل الصفوة على الإيمان بالله واليوم الآخر في فترة المرحلة المكية.
(7) عدم الأمر بالتكاليف الشرعية من عبادات ومعاملات في مكة، ثم الأمر بالتكاليف والأوامر الشرعية بالمدينة المنورة.
(8) لم يفرض الجهاد إلا بعد قيام الدولة.
(9) لم تفرض التكاليف الشرعية دفعة واحدة، وإنما فرضت بتدرج.
(10) قَبول بعض أمور الجاهلية حتى تستقر العقيدة وتتهيأ النفوس للتخلِّي عنها.
مظاهر التدرج في دعوة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم
وتتلخص مظاهر التدرج في دعوة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، التي مرت بالمراحل السابقة، وبدأت بالاستضعاف، وانتهت بالتمكين في الأرض في النقاط الآتية:
(1) البدء بالأقربين.
(2) البدء بالتوحيد.
(3) إرساء قواعد العقيدة قَبْل الأمر بالتكاليف؛ حيث بدأ الأمر بالتكاليف في المدينة بعد إقامة الدولة وتمكين الإيمان في القلوب.
(4) الدعوة باللِّين وبالحكمة والموعظة الحَسَنة، وتحمُّل مشاقِّ الدعوة، والصبر على ذلك، ثم تحمل أذى المعارضين، ولا سيما في مرحلة الاستضعاف.
(5) عرض الدعوة على جميع الناس: الفقراء والأغنياء، والقريب والبعيد، وإقامة الحجة عليهم، وطلب النصرة.
(6) استعمال القوة لحماية الدعوة عند الاستطاعة.
(7) الالتزام الشرعي بالأحكام في كل مرحلة من مراحل الدعوة، وعدم تغليب الأهواء، وترويض النفس على قَبول حكم الله -عز وجل-، حتى لو كان شاقًّا على النفس؛ حيث لم يؤمَرِ المسلمون بالقتال أو ردِّ العدوان بمكة وقد كانوا أهل شَكيمة وعزة.
الشيخ صالح الفوزان: التدرج المنهي عنه
يقول فضيلة الشيخ صالح الفوزان: «فالتدرج في الدعوة معناه: الإتيان بالأهم فالأهم. وذلك بأن يبدأ أول شيء بالتوحيد: دعوة الناس إلى التوحيد وعبادة الله وحده؛ لأن هذا هو الأساس»، ثم قال: «أما التدرج المنهي عنه فهو العكس الذي يسير عليه بعض الدعاة في عصرنا الحاضر وهو أن يبدأ بالأمور التي هي دون الشرك، يبدأ بنهي الناس عن الزنا وعن الكبائر وأكل الربا وغير ذلك، ويترك جانب العقيدة ولا يهتم به، فهذا عكس دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وأيضًا هو لا يثمر ولا يفيد؛ لأنه حتى لو ترك الناس هذه الكبائر وتعاملوا بالأخلاق الفاضلة والمعاملات المباحة مع بقاء الشرك فيهم فإن هذه الأعمال لا تنفعهم؛ لأنهم بنوا على أساس غير صحيح، بينما لو أن الإنسان حقق التوحيد وتجنب الشرك، ووقع منه بعض الكبائر وبعض المعاصي، فإنه لا يخرج بذلك من الإيمان، وترجى له المغفرة، وهو تحت المشيئة، قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48) (2) وقال -تعالى-: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (النساء: 31).
الشيخ ابن باز: الدعوة إلى أصل الدين مقدمة على كل شيء
يقول سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز: «فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه الله، بدأ بدعوة الناس إلى التوحيد في مكة، وترك الشرك، ونبذ آلهتهم المعبودة من دون الله، من أشجار وأحجار وأصنام وغيرها، ولهذا لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وفي لفظ: فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» فأمره أن يدعوهم إلى توحيد الله قبل الصلاة وقبل غيرها، فدل ذلك على أن الدعوة إلى أصل الدين مقدمة، ثم بعد ذلك يتدرج بدعوتهم إلى الصلاة والزكاة وبقية أمور الدين، ولهذا قال له بعده: «فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم... إلخ».
الشيخ العثيمين: البدء بالدعوة إلى الشهادتين
يقول فضيلة الشيخ محمد العثيمين: «الدعوة إلى الله مثل ما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: «ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإن أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم»، فإذا كنا نريد أن ندعو كفارًا فلابد أن ندعوهم كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ -رضي الله عنه-، وإذا أردنا أن ندعو شخصًا بعينه، فلننظر أيضًا هل هو كافر؟ فندعوه إلى أصل الإسلام، ثم بعد ذلك نأمره بالصلاة، ثم بالزكاة، ثم بالصوم، ثم بالحج».
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
03-20-2021
|
#5
|


القاعدة الخامسة
- التنوع في أساليب الدعوة
مجلة الفرقان
الدعوة الصحيحة هي التي تقوم على منهج الأنبياء والرسل، وتنبع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل دعوة لا تقوم على هذا الأساس هي دعوة قاصرة وناقصة، يخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معًا، لذلك بدأت لجنة البحث العلمي في الفرقان باستنباط بعض قواعد الدعوة والإصلاح من منهج الأنبياء والمرسلين، واليوم مع قاعدة مهمة وهي التنوع في أساليب الدعوة.
إذا نظرنا في أساليب الأنبياء ووسائلهم في دعوتهم لأقوامهم؛ فسنجد أن التنوع سمة عامة في كل الدعوات؛ فكل نبي أو رسول يبدأ دعوته باللين والحجج والبراهين وعرض الدليل تلو الدليل، ومع ذلك الصبر على أذى المعارضين وتكذيب المكذبين، ثم مع تصاعد المواجهة وردود الأفعال تتغيّر المواقف، وبيان ذلك فيما يلي:
معالم التنوع في دعوة نوح -عليه السلام
دعا نوح -عليه السلام- قومه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً مراعاة لأحوال الناس وطبائعهم؛ {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إلَّا فِرَارًا (6) وَإنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إسْرَارًا} (نوح: ظ¦ - ظ©)، فمن الناس من يكون وعيه وإدراكه في النهار أكثر من الليل بحسب طبيعة نشاطه وسعيه في الحياة، ومنهم من يكون أصفى ذهناً لسماع الدعوة وحججها وأكثر تقبلاً للموعظة بالليل حيث يغلب السكون والتأمل، وهو ما لا يكون بالنهار.
كما أنه علم أن من الناس من يستنكف عن قبول دعوته إذا وجهت إليه جهراً أمام الملأ وفي العلن؛ فأسر إليه بدعوته ليحرره من قيود وتأثيرات العقل الجمعي العام، وفي الوقت ذاته لم يترك الدعوة العلنية لجماهير الناس لتنشيط الحوار المجتمعي لتثبيت المواقف وتمييز الاتجاهات.
غير أن الأمور لم تستمر على هذه الوتيرة، ولا سيما أمام الخصوم الذين اتهموه بالضلال، وانطلقت أبواق الدعاية المضادة لتسخر منه وممن آمن معه، وسعوا للصد عن دعوته وصرف الناس عنه، وأمام هذا العداء والعناد والإصرار على الكفر، وبعد إعلام الله -تعالى- له أنه لن يؤمن إلا من قد آمن، لم يكن هناك من وسيلة إلا الدعاء عليهم: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إنَّكَ إن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} (نوح: 26 - 27)، فاستجاب الله -تعالى- وعاقبهم بالماء المنهمر من السماء والمتفجر من عيون الأرض، فأغرقوا وصاروا إلى يوم الدين عبرة وأحاديث.
معالم التنوع في دعوة إبراهيم -عليه السلام
دعا إبراهيم -عليه السلام- أباه بأدب ورفق راجيًا هدايته، كما ناظر قومه من عابدي الكواكب والشمس وجادلهم بالأدلة العقلية في مناظرة استدراجية، موافقاً لهم حتى يكونوا هم الحاكمين على أنفسهم بضلال ما هم عليه من اعتقادات لا سند لها ولا برهان، لكنه لما جادل عباد الأوثان، وبيّن لهم أنها لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع دعاء ولا تستجيب لداع، توجه إليها - موطناً نفسه على ما قد يلقاه من أذى - فكسرها بيمينه وأهانها وهي لا تحس ألماً ولا تعي ما يفعل بها: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} (الصافات: 93)؛ فسلك بذلك وسيلة القوة، وتغيير هذا المنكر المتمثل في عبادة الأوثان باليد آخذاً بعزائم الأمور، غير عابئ بما قد يناله من عابديها أو صانعيها، وهذ شأن أصحاب الدعوات الذين يضحون بكل ما يملكون من أجل دعوتهم وعقيدتهم، ولا يخافون في الله لومة لائم؛ فعواقب الأمور بيد الله -عز وجل- وحده.
معالم التنوع في دعوة موسى -عليه السلام
سلك نبي الله موسى -عليه السلام- في بداية دعوته لفرعون ومَلَئِهِ أسلوب اللين والحوار العقلي الهادئ، لكن مع رعونة فرعون والملأ، وتصاعد حدة التهديدات، وردود الأفعال العدائية والرافضة للدعوة رغم الحجج الواضحة والآيات الدامغة، ما كان من موسى إلا أن سلك مسلكاً آخر، وفاجأ فرعون بهذا الرد الذي يليق بأمثاله: {وَإنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} (الإسراء: 102).. قال ابن كثير: «أي هالكاً، وقيل ملعوناً، وقيل مغلوباً». ولما رأى موسى -عليه السلام- أنه ومن معه في خطر، وأن الدعوة تمر بمنعطف صعب، وأن العقبات تعوق تقدمها، وأنها مهددة بألا تسير في طريقها، دعا على فرعون وملئه، وتوجه إلى الله -تعالى- بهذا الدعاء: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} (يونس: ظ¨ظ¨)، فأغرق الله فرعون وجنده وجعلهم عبرة لمن خلفهم.
معالم التنوع في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم
لم يدع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبيلا يمكن من خلاله أن يدعو إلى الله إلا سلكه، ولا طريقًا إلا ولجه، فأرشد الدعاة بعده إلى استعمال كل وسيلة مهما تيسرت أسبابها وكانت مشروعة، وفيما يأتي أبرز أساليب النبي - صلى الله عليه وسلم - في التربية والدعوة إلى الله، والتي تظهر حرصه الشديد على هداية الناس جميعًا:
تقديم الترغيب على الترهيب
عَلِم النبي - صلى الله عليه وسلم - طبيعة النفس البشرية وأن فيها إقبالا وإدبارا، وفيها النشاط والضعف، وأن من النفوس من لا يصلحها إلا الترغيب، ومن النفوس من لا يردعها ويهذبها إلا الترهيب، لذا راعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل هذه الاعتبارات، فجمع بين الترغيب والترهيب، بل لقد قدَّم الترغيب على الترهيب؛ لأنه أنفع وأجدى، يتَّضح هذا من موقفه - صلى الله عليه وسلم - مع أبي ذر - رضي الله عنه - الذي يرويه لنا أبو ذر - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «مَا مِنْ عَبْدٍ» قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ». قُلْتُ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟» قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ». قُلْتُ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟» قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ». قُلْتُ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟» قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ». (متفق عليه)، والمتأمل في تلك القصة يلحظ حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على الترغيب.
الإقناع العقلي واستخدام الحوار
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب العقل في الإنسان، ومن مواقفه - صلى الله عليه وسلم - الدعوية التي تبرز ذلك موقفه من الفتى الذي جاء يستأذنه في الزنا! كيف كان ردُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه وكيف تعامل معه؟
يروي لنا ذلك أبو أُمامة - رضي الله عنه- فيقول: «إِنَّ فتىً شابًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رسولَ الله، ائْذَنْ لي بالزِّنا، فأَقْبلَ القومُ عليه فزَجَرُوه»، وقالوا: «مَهْ مَهْ!!» فقال له: «ادْنُه، فدنا منه قريبًا، قال: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟»قال: «لَا واللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ!» قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِم ْ». قال: «أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟» قَالَ: «لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ!» قَاَل: «وَلَا النَّاسُ جَمِيعًا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ» قال: «أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟» قال: «لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ!» قَالَ: «وَلَا النَّاسُ جَمِيعًا يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ ». قال: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك! قال: «وَلَا النَّاسُ جَمِيعًا يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ» . قال: «أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟» قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ!» قَالَ: «وَلَا النَّاسُ جَمِيعًا يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ» . قال: «فوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ»، وقالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفتُ إلى شيءٍ» (رواه أحمد).
يوضح لنا هذا الموقف كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعامل بالحوار والإقناع العقلي مع العصاة والمجترئين على المعصية.. تأمَّلْ كيف ردَّ على ذلك الشابِّ بأسلوبٍ عقليٍّ ومنطقيٍّ مُقْنعٍ مُوَضِّحًا له قبيحَ طلَبِه وشناعةَ تلك المعصيةِ، والتي يأباها كل أفراد المجتمع، ثم لما انتهى - صلى الله عليه وسلم - من حديثه مع الشاب وضع يده الشريفة برفق وحنو على صدر الشاب داعيًا له بالمغفرة وطهارة القلب وإحصان الفرج، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولًا وعملًا حينما قال: «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ». (رواه مسلم).
استثمار المواقف والفرص
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستثمر المواقف في التعليم؛ لأنها أوقع أثرًا وأثبت في الذاكرة، ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مع أصحابه يومًا، وإذا بامرأة من السبي تبحث عن ولدها، فلما وجدته ضمته، هنا أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستثمر هذه الفرصة ويعلم أصحابه مدى رحمة الله، فقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟» قَالُوا: لَا!! قَالَ: «واللهُ لَا يُلْقِي حَبِيبَهُ فِي النَّارِ» (متفق عليه)، والمواقف متنوعة فقد يكون الموقف موقف حزن أو خوف فيستخدم في الوعظ، كما في وعظه - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عند القبر، يقول البراء بن عازب - رضي الله عنه-: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ (أي: لم ينتهوا من حفر المكان الذي يدفن فيه الميت)، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.. مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا»، ثم ذكر الحديث الطويل في وصف عذاب القبر وفتنته. (رواه أبو داود).
الاعتدال والوسطية ورفض التشدد
كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته الاعتدال والوسطية ورفض التشدد، فالتشدد المقيت يؤدي إلى المشقة على النفس ويؤدي إلى التطرف في الدين والبعد عن وسطية الإسلام، وضياع حق النفس وحقوق الآخرين. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الثلاثة الذين جاؤوا إلى بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليسألوا عن عبادته، يروي لنا ذلك أنس بن مالك - رضي الله عنه- فيقول: «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا»، فَقَالُوا: «وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ! قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا»، وَقَالَ آخَرُ: «أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ»، وَقَالَ آخَرُ: «أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِمْ» فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا.. أَمَا وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» (رواه البخاري)، إنه - صلى الله عليه وسلم - القدوة والأسوة الحسنة في دعوته وتعليمه وإشفاقه على الناس والبعد عن التشدد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا...» (رواه البخاري).
أسلوب الهجر
وقد استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أسلوب الهجر في الموقف المشهور لكعب بن مالك - رضي الله عنه - وأصحابه حينما تخلفوا عن غزوة تبوك، فهجرهم - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، لا يكلمهم أحد أكثر من شهر حتى تاب الله -تبارك وتعالى- عليهم، إلا أن استخدام هذا الأسلوب لم يكن هديًا دائمًا له - صلى الله عليه وسلم -، وإنما المعيار في ذلك هو تحقيق المصلحة، فمتى كان الهجر مصلحة وردعًا للمهجور شرع ذلك، وإن كان فيه مفسدة وصد له حَرُم هَجْرُه.
أسلوب التوجيه غير المباشر
وتمثل ذلك الأسلوب في مواقف عدة: منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بال أقوام»، دون أن يخصص أحدًا بعينه، ومن ذلك قوله في قصة بريرة حينما صعد على المنبر فقال: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ؟! مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَلَيْسَ لَهُ وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ» (متفق عليه).
وأحيانًا يخاطب غيره وهو يسمع، ومن ذلك حينما استبَّ رجلان عنده - صلى الله عليه وسلم - وأحدهما يسب صاحبه مغضبًا قد احمر وجهه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ». فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إِنِّي لستُ بِمَجْنُونٍ». (رواه البخاري).
أسلوب الوعظ والتذكير
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخول أصحابه بالموعظة مخافة السآمة والملل، وكان ينتهز كل فرصة مواتية تجمع المسلمين ليوجه إليهم رسائل وعظية وتذكيرية نافعة، منها حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ وَزَرَفَتْ مِنَها العُيُونُ، فَقُلْنَا كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا، فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا؛ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٍ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». (رواه الترمذي).
أسلوب القصص والأمثال
وهي وسيلة من أنفع الوسائل، وقد استخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الوسيلة كما في أحاديث كثيرة مشهورة: منها قصة الثلاثة أصحاب الغار، وقصة الأبرص والأقرع والأعمى، وقصة صاحبي جرة الذهب، وقصة المتداينين من بني إسرائيل، وغيرها من القصص المليئة بالعبر والعظات التي تزخر بها كتب السيرة.
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
03-20-2021
|
#6
|
سلمت يدآك على روعة الطرح
وسلم لنآ ذوقك الراقي على جمال الاختيار
لك ولحضورك الجميل كل الشكر والتقدير
اسأل البآري لك سعآدة دائمة
تحياتي..
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
الكلمات الدلالية (Tags)
|
-, الأولى:, الأنبياء, البدء, التوحيد, الإصلاح, القاعدة, بالدعوة, عند, إلى, والمرسلين, والتغيير, قواعد  |
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 01:57 AM
| | | | | |