التذكير وإثارة الأشواق لحج بيت الله الحرام، والتذكير بالأعمال التى يعادل ثوابها أجر وثواب الحج ليرتبط بها المؤمن؛ فتكون السنةُ كلُّها حجًّا بإذن الله تعالى.
مقدمة ومدخل للموضوع:
أيها المسلمون عباد الله، في مثل هذا الميقات الزماني من كل عام هجري تتجه أنظار المسلمين قاطبة إلى بيت الله الحرام؛ حيث يتوافد الحجيج من كافة الأقطار والأمصار لتأدية هذه الفريضة العظيمة، والركن العظيم من أركان الإسلام: "حج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلًا".
تتجه أنظار أهل الإيمان، وتنتقل قلوبهم وعقولهم ونفوسهم إلى هناك؛ حيث أحب البلاد والبقاع إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، إلى تلكم الرحاب الطاهرة والمشاعر المقدسة، إلى الكعبة بيت الله الحرام، إلى الصفا والمروة، وزمزم، وعرفات، ومِنى، ومزدلفة.
ترق القلوب وتهفو، وتشتاق النفوس وتحنُّ لأول بيت وضع للناس؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96، 97]، وتأمل كلمة "للناس" فالذي وضع قواعده ليسوا من جنس الناس؛ وإنما هم من الملائكة الأطهار.
تتجه الأنظار إلى وفود الحجيج الذين لبَّوا نداء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27].
تتجه الأنظار وتطير القلوب وترق النفوس إلى بيت الله الحرام دعوة إبراهيم عليه السلام؛ كما قال تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ﴾ [إبراهيم: 37]، وتأمل قوله: "من الناس"؛ أي: ليس كل الناس، فمنهم الكافر ومنهم المنافق.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لو قال: أفئدة الناس؛ لازدحمت عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم؛ لكنه قال: "من الناس"؛ فاختص به المسلمون".
تتجه الأنظار إلى بيت الله الحرام الذي سكن في قلوب أهل الإيمان؛ فالبيوت جعلها الله تعالى سكنًا يأوي إليها أهلها؛ لكن هذا البيت الحرام سكن هو في قلوب أهل الإيمان؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ﴾ [البقرة: 125]، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: جعله محلًّا تشتاق إليه الأرواح، وتحن إليه، ولو ترددت إليه كل عام".
أيها المسلمون عباد الله، الحج فريضةٌ عظيمةٌ، وشهادة ميلاد جديدةٌ لمن أكرمه الله تعالى به؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من حجَّ هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق رجع كيوم ولدَتْه أُمُّه)).
يقول الشيخ العثيمين رحمه الله: "والمعنى: أنه يخرج من ذلك نقيًّا من الذنوب، كما أن الإنسان إذا خرج من بطن أُمِّه فإنه لا ذنب عليه، فكذلك هذا الرجل إذا حج بهذا الشرط فإنه يكون نقيًّا من ذنوبه".
والحج هو من أفضل الأعمال؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمانٌ بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((جهادٌ في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حجٌّ مبرورٌ)).
وليس للحاجِّ ثواب إلا الجنة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفَّارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)).
والمتابعة بين الحج والعمرة من أسباب سعة الأرزاق برغم ما فيهما من الإنفاق؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد)).
الوقفة الثانية: دروسٌ مستفادةٌ من الحج.
إن لفريضة الحج دروسًا مستفادة تتحقق منها الفائدة، وتعود منافعها حتى لغير الحجيج:
1- وأول هذه الدروس المستفادة: تحقيق التوحيد:
فما من منسك من مناسك الحج إلا وفيه مَعْلَم من معالم التوحيد؛ فالتوحيد تتحقق معانيه في هذه الفريضة العظيمة؛ فأركان الحج وواجباته وسننه كلها توحيد، وما شرعت إلا من أجل تحقيق التوحيد؛ بل إن البيت العتيق ما وضعت أركانه إلا على التوحيد؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26].
وتأمل مناسك الحج بدايةً من التلبية؛ كما في حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثم أهَلَّ بالتوحيد)) وهكذا جميع مناسك الحج والعمرة كلها على التوحيد.
2- ومن الدروس المستفادة أيضًا: تحقيق المتابعة والامتثال:
ولذلك جاء في حديث جابر رضي الله عنه: ((فقدم المدينة بشرٌ كثيرٌ، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله)) ممتثلين لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((خُذُوا عني مناسِكَكم))؛ فترى الحاجَّ حريصًا كلَّ الحرص على تطبيق السنن في الحج والعمرة.
3- ومن الدروس المستفادة أيضًا: توحيد وجمع كلمة المسلمين:
وهكذا كل الفرائض والشرائع إنما شرعت لتحقيق هذا المعنى؛ فالمسلم يجتمع مع أهله وجيرانه في اليوم خمس مرات يراهم ويتفقد أحوالهم، فإذا أتم الأسبوع اجتمع مع أهل حيِّه وقريته وذلك كل جمعة، وفي الحج يجتمع مع المسلمين من كافة البلاد والأقطار؛ لغات مختلفة ولهجات، وألوان شتى: (أكثر من ثلاثة ملايين مسلم على صعيد واحد، وفي مكان واحد، بزيٍّ واحد، لا فرق بين غني ولا فقير) يسمع منهم مباشرةً ويتعايش مع هموم وآلام الأمة الإسلامية بعيدًا عن أكاذيب الإعلام.
4- ومن الدروس المستفادة أيضًا: تذكُّر أحوال يوم القيامة:
تأمل عندما يودِّع الحاجُّ أهله وذويه ويرتحل عنهم؛ فيتذكر يوم أن يرحل عنهم إلى الدار الآخرة، فإذا وصل إلى الميقات يغتسل ويتجرد من ملابسه فيتذكر يوم أن يكون طريحًا بين يدي أهله وذويه وقد غسَّلوه وكفَّنوه.
ثم تأمَّل هذا المشهد العظيم والمهيب يوم التاسع من ذي الحجة: يوم عرفة؛ أكثر من ثلاثة ملايين حاجٍّ على صعيد عرفات بزيٍّ واحد، وقد اشتدَّ بهم الحر، فيتذكرون ذلكم اليوم العظيم: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 6].
نسأل الله العظيم أن يرزقنا حجَّ بيته الحرام، وأن يرزقنا الانتفاع بما سمعنا.
الخطبة الثانية
أعمالٌ ثوابها الحج:
1- بالنية الصادقة تبلغ منازلهم وأجورهم بإذن الله تعالى:
في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)).
وفي صحيح مسلم عن سهل بن حنيف رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)).
وعندما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، ودنا من المدينة، قال: ((إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم؛ حبسهم المرض))، وفي رواية: ((حبسهم العذر))، وفي رواية: ((إلا شركوكم في الأجر)).
وهذه بشارة عظيمة كما في السنن من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، وفيه: ((وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواءٌ)).
2- المكث بعد صلاة الفجر حتى الشروق وصلاة ركعتين:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة)).
وفي رواية: ((مَن صلَّى صلاة الصبح في جماعة، ثم ثبت حتى يسبح لله سبحة الضحى كان له كأجر حاجٍّ ومعتمر تامًّا له حجه وعمرته))؛ [صحيح الترغيب والترهيب].
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إذا صلى الفجر جلس يذكر الله إلى قريب من انتصاف النهار ويقول: "هذه غدوتي لو لم أتغدها لسقطت قوتي".
3- الخروج من بيته متطهرًا إلى الصلاة المكتوبة:
روى أبو داود عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من خرج من بيته متطهرًا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاةٌ على أثر صلاة لا لغو بينهما كتابٌ في علِّيِّين))؛ فهنيئًا والله لمن هذا دَأْبُه يوميًّا في المحافظة على الصلوات الخمس في جماعة.
4- الخروج إلى المساجد لحضور مجالس العلم:
عن أبي أُمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلَّم خيرًا أو يُعلِّمه كان له كأجر حاجٍّ تامًّا حجته))؛ [رواه الطبراني].
ومن صور تعلُّم الخير في المسجد: حلقات القرآن، وسماع المواعظ بعد الصلوات، والحلقات والدورات العلمية، وشهود الجمعة، والاستماع للخطبة بنية تعلُّم الخير.
5- الأذكار بعد الصلوات المكتوبة:
في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العُلا والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضلٌ من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون! فقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أُحدِّثكم إن أخذتم أدركتم من سبقكم، ولم يدركم أحدٌ بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم إلا من عمل مثله؟ تسبحون، وتحمدون، وتُكبِّرون، خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين)).
وهنا تنبيه مهم: وهو أن هذه الأعمال تعدل الحج في الجزاء لا الإجزاء؛ بمعنى أن هذه الأعمال تعدل الحج في الفضل؛ لكن لا تسقط حجة الفرض للمستطيع.