يقول الشريف الجرجاني (816 هـ) في كتابه التعريفات: "الغيرة كراهة شركة الغير في حقه"؛ ولذلك جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله: أن يأتي المؤمن ما حرم عليه".
وجاء في (عيون الأخبار) لابن قتيبة أن أبا الأسود قال لابنته: "إياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق"، ومما يُنقل عن الراغب الأصفهاني (516 هـ): "الغيرة ثوران الغضب حماية على أكرم الحرم، وأكثر ما تراعى في النساء، وجعل الله - سبحانه - هذه القوة في الإنسان سببًا لصيانة الماء، وحفظًا للإنسان؛ ولذلك قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها، وضعت العفة في نسائها، وقد يستعمل ذلك في صيانة كل ما يلزم الإنسان صيانته".
غير أن الغيرة قد تنحو إلى مسالك أخرى، وتنبعث من طرق شتى، ولعل من ذلك مثلاً ما اصطلحنا عليه هنا بـ(الغيرة الشعرية)، تلك التي يجدها الشعراء فيما بينهم عندما يُعجَب أحدهم بشعر الآخر، فيتمنى لو كان هو قائل هذه الأبيات، وهي غيرة في ظاهرها محمودة؛ لأنها تحث على الإبداع، وتبعث على التنافس، وبخاصة عند الشعراء المبدعين حين تتحرك غيرتهم نحو شعر غيرهم، وقد تنبئ عن حسٍّ نقدي، وثقافة شعرية واسعة لدى الشاعر، وذلك حينما يتأمل في شعر الآخرين، ويتعرّف عليه، ويتذوقه، وبهذا تكون الغيرة باعثة على التناظر فيما بين الشعراء، وهو ما يجعل المعاني، والأفكار، والأخيلة، أكثر تجدداً وتمدداً.
ويظهر أن الشاعر كُثَيّر، المعروف بكثيّر عزّة (105 هـ)، كان من أولئك الشعراء الذين بانت فيهم الغيرة الشعرية، حيث أورد له المبرد (285 هـ) في كتابه (الكامل) هذا الخبر: "وحدثت أن كثيّراً كان يقول: لوددت أني كنت سبقت الأسود، أو العبد الأسود، إلى هذين البيتين، يعني (نصيباً) في قوله: من النفر البيض الذين إذا انتجوا / أقرت لنجواهم لؤي بن غالب".
كما وجدنا في كتاب (الكامل) خبراً عن الشاعر الأموي جرير بن عطية الخطفي (110 هـ)، حيث كانت لديه بعض نوازع من الغيرة الشعرية، مع شاعريته الفذة التي كان يتميز بها، ولعل هذه الغيرة كانت سبباً من أسباب نبوغه وتألقه؛ ذلك أنها كانت تدفعه إلى انتقاء الأجود من الشعر؛ لهذا رأينا عنده أشكالاً متنوعة من تلك الغيرة الشعرية التي يكشف عنها هذا الخبر: "وحدثت أن جريرًا كان يقول: وددت أن هذا البيت من شعر هذا العبد كان لي بكذا وكذا بيتًا من شعري، يعني قول نصيب: بزينب أَلمِم قبلَ أن يرحل الركّبُ / وقُلْ إنْ تمَلّينا فما مَلّك القَلبُ".
وجاء في كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني (356 هـ) في أخبار (مزاحم بن عقيل ونسبه) هذا الخبر: "وكان جرير يصفه ويقرّظه ويقدّمه بيتان له تمنى جرير أنهما له. أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني الفضل بن محمد اليزيديّ، عن إسحاق الموصليّ، قال: قال لي عمارة بن عقيل: كان جرير يقول: ما من بيتين كنت أحبّ أن أكون سبقت إليهما غير بيتين من قول مزاحم العقيليّ: "وددتُ على ما كان من سرف الهوى / وغَي الأماني أنّ ما شئتُ يُفعلُ = فترجع أيامٌ مضينَ ولذة / تولّت، وهل يُثنى من العيش أولُ؟".
د.فهد إبراهيم البكر
الله يسعدكم مثل مااسعدتوني
تهنئه ولوك فخمه كفخامة
حضوركم شكثر فرحتو قلبي
الله يوفقكم ويرزقكم ماتتمنون
4 أعضاء قالوا شكراً لـ مثلي قليل على المشاركة المفيدة: