صلات الفعل (بخل يبخل بخلا) (في ضوء القرآن الكريم وكلام العرب) الفريق الاحمر
صلات الفعل (بخل يبخل بخلا) (في ضوء القرآن الكريم وكلام العرب)
• د. أورنك زيب الأعظمي[1]
المدخل: لا يخفى على دارسي اللغة العربية وآدابها أنّ الصلات لها دورٌ رائدٌ في تحديد أو توسيع معنى فعلٍ عمومًا واسمٍ خصوصًا فمجرد دخولها على فعل أو اسم يغيّر المعنى، بل ربما يبدّل المفهوم ظهرًا لبطن ويدلّ على ما يضادّه فمثلًا مَالَ إليه يعني جَنَح إليه كما يعني مَالَ عنه عَدَلَ عنه وكذا أتَاه يعني جَاءَه كما يعني أتَى عليه هَجَمَ عليه وهكذا ضَنَّ به يعني أمْسَكَ به وبَخِلَ كما يعني ضَنَّ عنه أعْرَضَ عنه وتَنَفَّرَ. فبمجرد تبديل الصلات لفعلٍ تغيّر المعنى وتبدّل. فلا بدّ لنا حين قراءة أيّ نصٍّ أو شعر عربي من أنْ نتشبث بذيل الحيطة ونحذر ونكون متنبّهين وإلا فعسى أنْ تزلّ أقدامنا ونقع في خطأ فاحش لا نخرج منه إلا بعد فوات الأوان. فالتنبه في أمر الصلات شيء مبدئي لمن يريد أن يستخدم فعلًا من أفعال العربية التي تكثر فيها حروف الجر وتفعل فعلَ الساحر ويقع فيها الخطأ وقوعَ البرق الخاطف.
وفي هذه العجالة نحاول البيان لما وقعت عليه أيدينا من صلات الفعل (بَخِلَ يَبْخَلُ بُخْلًا) ونستشهد على كلامنا بما قرضته الشعراء العرب أو بما دلّ عليه كلام الرب تعالى الذي نزل (بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ).[2]
بغض العرب للبخل: البخل ومشتقاته مذكورة كثيرًا في كلام العرب وذلك لأنهم كانوا مولعين بالجود والسخاء وكانوا يبغضون البخل وأصحابه، وحتى سموّا من لم يحضر مجلس القمار بالبرم كما قال زهير بن أبي سلمى:
حتى تآوى إلى لا فاحشٍ برمٍ *** ولا شحيح، إذا أصحابُه غنموا[3]
وقالت الخنساء:
وقد حال خيرٌ من أناس، ورفدُهم *** بكفّيْ غلام لا ضنين ولا برم[4]
وقال زياد بن حَمَل بن سعد:
كم فيهم من فتًى حلوٍ شمائله *** جمّ الرمادِ إذاما أخمد البرَمُ[5]
وأما ثناؤهم على الجود وأربابه فحدّث عنه ولا حرج. ويكفينا هنا نقل بعض الأبيات من الشعراء الأقدمين فقال الأعشى الكبير:
وما ذاك إلا أنّ كفيك بالندى *** تجودان بالإعطاء قبل سؤالكا[6]
فلا الجودُ يُفني المالَ قبلَ فنائه *** ولا البخلُ في مال الشحيح يزيد[13]
ولولا مخافة التطويل لنقلت ألف بيت بل أكثر على خلق العرب هذا. ونظرًا إلى هذا يمكن لنا أنْ نقول إنّ العرب فُطِروا على الجود والسخاء.
مختلف صلات الفعل (بَخِلَ): وللفعل (بَخِلَ يَبْخَلُ بُخْلًا) أربع صلات وجدتها حتى الآن وهي: الباء وعلى وعن ومِنْ. أشار إلى صلته (الباء) الجوهري[14] وشارحه[15] وابن منظور[16] والزمخشري[17] ولم يشر إلى أيّها الفراهيدي[18] ولا الشرتوتي[19] ولا أحمد المقري[20] والمعجم الوسيط.[21]
وأشهر هذه الصلات وأعمّها هي الباء كما قال عنترة بن شداد العبسي:
ولقد حبستُ الدمعَ، لا بخلًا به، *** يومَ الوداع على رسوم المعهد[22]
وقال زهير بن أبي سلمى:
ومن يك ذا فضلٍ فيبخل بفضله *** على قومه يستغن عنه ويذمم[23]
وقال زهير يخاطب جمله:
فزادك أنعمًا وخلاك ذمٌّ *** إذا أدنيتَ رحلي من سنان
فتًى لا يرزأ الخلّانَ شيئًا *** ولا يبخل بما حوتِ اليدان[24]
وقال دريد بن الصمة:
وهَوَّنَ وجدي أنني لم أقل له *** كذبتَ، ولم أبخل بما ملكتْ يدي[25]
إذا اختبطوا لم يفحشوا في نديّهم *** وليس على سؤالهم عندهم بخل[38]
وقال جرير:
فإن بخلتْ هندٌ عليك فعلّها *** وإنْ هي جادتْ كان صدعًا على وقر[39]
ومثله مثل الضنة بالشيء على أحد كما قال عبد الله بن رواحة:
فإنْ تضننْ عليك بما لديها *** وتقلبْ وصلَ نائلها جديدا[40]
وقال المثلم بن عمرو التنوخي:
وإني إذا ضنّ الأمير بإذنه *** على الإذن من نفسي إذا شئتُ قادر[41]
ولم أجد صلة (عن) للبخل سوى في كتاب الله العزيز حيث قال تعالى: ﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38].
فيعني بخل المرء عن نفسه هو البخل عليه[42] لا البخل الصادر عنه كما زعم ابن جرير الطبري[43] فإنّ البخل أو الإنفاق في سبيل الله يعود إلى الباخل أو المنفق يوم القيامة كخسران عظيم أو كفائدة ذات أضعاف مضاعفة كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195] وقال في نفس السورة: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245].
ويرادفه في الصلة الأفعال (ضَنَّ عنه، وأمْسَكَ عنه وأحَرَمَ عنه وكَزِمَ عنه) كما قال عبيد بن الأبرص:
"يا معشر طيء: إنكم أمسكتم عن حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الشرك، ونصرتم الله ورسوله في الإسلام على الردة، وعليٌّ قادمٌ عليكم، وقد ضمنتُ له مثل عدةِ من معه منكم، فخِفّوا معه".[45]
وقال أخضر بن عبّاد المازني الجاهلي:
لقد طال إعراضي وصفحي عن التي *** أبلّغُ عنكم، والقلوبُ قلوب