لفظة "الكأس" في القرآن الكريم وكلام العرب
د. أورنك زيب الأعظمي[1]
القرآن الكريم يذكر الشراب الطهور حيث يذكر نعم الجنة والتسهيلات المتوفرة فيها فمثلًا قال الله تعالى: ﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ﴾ [الصافات: 45 - 47].
وهكذا ذكر من ميزات هذا الشراب أنه يكون معينًا صافيًا لذيذًا، ولا يسكر ولا يضلّ، ويكون مزيجًا من الزنجبيل والكافور. وهذا وأشباهه معلومة لكل من له أدنى إلمام بكتاب الله العزيز.
وإنْ نرجع البصر إلى هذه الآيات نجد أنّ القرآن الكريم أورد لفظة "الكأس" مؤنثة في كلّ من مواضعه ولم يوردها مذكّرة في موضع ما، وهذه حقيقة أنّ القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين. معنى ذلك أنّ استخدام القرآن هو الشائع العام.
لنتتبع استعمالات كلام العرب ونعرف استعمالها لديهم فقال طرفة بن العبد البكري:
وما شرُّ الثلاثة أمَّ عمرو
بصاحبكِ الذي لا تصبحينا
وكأسٍ قد شربتُ ببعلبكّ
وأخرى في دمشقَ وقاصرينا
إذا صمدتْ حُمَيّاها أريبًا
من الفتيان خلتَ به جنونا[3]
وله ما يلي:
صبنتِ الكأسَ عنا أمَّ عمرو *** وكان الكأس مجراها اليمينا[4]
وقال عنترة بن شداد العبسي:
كم ليلة قد قطعنا فيك صالحة
رغيدة، صفوُها ما شابه كدر
معْ فتية تتعاطى الكأسَ مُترَعة
من خمرة كلهيب النار تزدهر
تديرها من بنات العُرْب جاريةٌ
رشيقة القدّ، في أجفانها حور[5]
وقال عنترة أيضًا:
إذا اشتغلتْ أهلُ البطالة في الكأس
أو اغتبقوها بين قَسٍّ وشمّاس
جعلتُ منامي تحت ظلِّ عجاجةٍ
وكأسَ مدامي قِحفَ جُمجُمةِ الرأس[6]
وله ما يلي:
وغدًا يمرّ على الأعاجم من يدي *** كأسٌ أمرُّ من السموم نقيعُها[7]
وقال أمية بن أبي الصلت:
من لم يمتْ عَبطَةً يمتْ هرَمًا *** الموتُ كأسٌ والمرءُ ذائقُها[8]
وقال أمية أيضًا:
وكأسٍ قد شربتُ بماء ثلجٍ *** وأخرى قد شربتُ بقاصرينا[9]
وقال سنان بن أبي حارثة الجاهلي:
قلُ للمثلّمِ وابنِ هندٍ مالك
إنْ كنتَ رائمَ عزّنا فاستقدم
تلقَ الذي لاقى العدوُّ وتصطبحْ
كأسًا صُبابتُها كطعمِ العلقم[10]
وعلى هذا قال الجوهري (1003م): "الكأس مؤنثة".[29] وتبعه الجواليقي (1088م) في شرح أدب الكاتب،[30] وابن منظور (1311م) في اللسان،[31] والزبيدي (1790م) في تاج العروس،[32] وسعيد الخوري (2014م) في أقرب الموارد،[33] وأحمد بن محمد المقري في المصباح المنير (1368م)[34] والمعجم الوسيط من صنع مجمع اللغة العربية بالقاهرة.[35] ولم يشر إلى تأنيثها أو تذكيرها الفراء (822م) في معاني القرآن،[36] ولا ابن السكّيت (858م)[37] ولا الراغب الأصفهاني (1108م)[38] ولا الدكتور أحمد مختار عمر (2003م)[39] ولا الشيخ الدكتور أحمد عبيد الكبيسي (2016م)[40] كما لم يشر إليه محمود ربايعة في مقالته "دلالة الكأس في القرآن الكريم".[41] وهكذا لم أجد الإشارة إلى ذلك عند المفسرين أمثال الطبري (923م) والزمخشري (1143م) والرازي (1209م) والقرطبي (1273م) وأبي حيان الغرناطي (1344م) وابن كثير (1373م) والمعلّم عبد الحميد الفراهي (1930م)[42] وآخرين غيرهم.
ولكن نجد استخدامها مذكّرة في غير ما شاهد في الكلام الجاهلي والإسلامي فقال قال امرؤ القيس:
وكان لها[43] في سالفِ الدهر خلّةٌ
يُسارقُ بالطرف الخباءَ المستّرا
إذا نال منها نظرةً ريع قلبُه
كما ذعرتْ كأسُ الصبوح المخمّرا[44]
وقال عنترة بن شداد العبسي:
يا طامعًا في هلاكي عُدْ بلا طمع *** ولا ترِدْ كأسَ حتف أنت شاربُه[45]
فالضمير في "شاربه" راجع إلى كأس.
وقال عنترة أيضًا:
دعوني أوفّي السيف، في الحرب، حقَّه *** وأشرب من كأس المنية صافيا[46]
وقال ذو الإصبع العدواني:
واشربْ بكأسهم وإنْ *** شربوا به السمَّ الثميلا[47]
وقالت الخنساء:
وعبسًا صبحنا بثهلانهم *** بكأس وليس بكأس المُدام[48]
وهذا هو الخليل (786م) الذي أشار إلى مجيئها مذكرة ومؤنثة فقال: "الكأس يذكّر ويؤنث، وهو القدَح والخمر جميعًا، وجمعها أكؤس وكئوس".[53] ولكنه لم يستشهد بكلام العرب، الفراغ الذي ملأناه.
وأما الدِهاق والدَهق فمصدر جاء صفة بمعنى مليئة كما قال روبة بن العجاج:
تسقي به الحقَّ سقاك الساقي
من كأسه بلذة دهاق[54]
وقال أبو قردودة الطائي:
صلقناهم باللوى صَلقَةً *** سقتْهم من الموت كأسًا دهاقا[55]
وقال حبيب بن خدرة الهلالي:
يتساقون بأطراف القنا *** من نجيعِ الموت كأسًا دَهَقا[56]
وملخص القول أنّ لفظة "الكأس" تذكّر وتؤنّث إلا أنّ مجيئها مذكّرة أقلّ من مجيئها مؤنثة. وأنّ القرآن الكريم يفضّل من الاستخدامات ما هو عامّ شائع.
المصادر والمراجع:
1- القرآن الكريم.
2- أساس البلاغة لأبي القاسم الزمخشري، تحقيق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1998م.
3- أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد للعلامة سعيد الخوري الشرتوتي، دار الأسوة للطباعة والنشر، إيران، 1374هـ.
4- البحر المحيط في التفسير لأبي حيان الغرناطي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 2010م.
5- تاج العروس من جواهر القاموس للسيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، مطبعة حكومة الكويت، الكويت، 1965م.
6- تعليقات في تفسير القرآن الكريم للإمام عبد الحميد الفراهي، الدائرة الحميدية، مدرسة الإصلاح، أعظم كره، الهند، ط1، 2010م.
7- جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري) لابن جرير الطبري، تحقيق: د. عبد الله التركي، هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، القاهرة، ط1، 2001م.
8- جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام لأبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، تحقيق: محمد علي البجادي، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، د.ت.
9- ديوان ابن مُقبِل، تحقيق: د. عزة حسن، دار الشرق العربي، بيروت، لبنان، 1995م.
10- ديوان أعشى همدان، تحقيق: د. حسن عيسى أيو ياسين، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض، ط1، 1983م.
11- ديوان الأخطل، شرح: مهدي محمّد ناصر الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1994م.
12- ديوان الأعشى الكبير بشرح محمود إبراهيم محمد الرضواني، وزارة الثقافة والفنون والتراث، إدارة البحوث والدراسات الثقافية، الدوحة، قطر، 2010م.
13- ديوان الحطيئة، دراسة وتبويب: د. مفيد محمد قميحة، درا الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1993م.
14- ديوان الخنساء، اعتنى به وشرحه: حمدو طمّاس، دار المعرفة، بيروت، 2004م.
15- ديوان الفرزدق، شرح الأستاذ علي فاعور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1987م.
16- ديوان القطامي، تحقيق: إبراهيم السامرائي وأحمد مطلوب، دار الثقافة، بيروت، ط1، 1960م.
17- ديوان المفضليات للمفضل الضبي، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون، دار المعارف، ط6.
18- ديوان الهذليين، الجمهورية العربية المتحدة، الثقافة والإرشاد القومي، طبعة دار الكتب، 1996م.
19- ديوان امرئ القيس، ضبطه وصحّحه: الأستاذ مصطفى عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004م.
20- ديوان أمية بن أبي الصلت، جمع وتحقيق ودراسة: د. عبد الحميد السطلي، دمشق، 1974م، د.ت.
21- ديوان بِشر بن أبي خازم الأسدي، تقديم وشرح: مجيد طراد، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1994م.
22- ديوان حسان بن ثابت الأنصاري الخزرجي، شرح: ضابط بالحربية، مطبعة السعادة، مصر، د.ت.
23- ديوان ذي الإصبع العَدواني، جمع وتحقيق: عبد الوهاب محمد علي العدواني ومحمد نائف الدُلَيمي، مطبعة الجمهور، الموصل، 1973م.
24- ديوان ذي الرمة، تقديم وشرح: أحمد حسن بسج، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1995م.
25- ديوان سلامة بن جندل، صنعة: محمد بن الحسن الأحول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1987م.
26- ديوان طرفة بن العبد، شرح وتقديم: مهدي محمد ناصر الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3، 2002م.
27- ديوان عمرو بن كلثوم، جمعه وحقّقه وشرحه: د. إميل بديع يعقوب، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1991م.
28- ديوان قيس بن الملوّح- مجنون ليلى، دراسة وتعليق: يُسري عبد الغني، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1999م.
29- شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام، جمع وترتيب: بشير يموت، المطبعة الوطنية، ط1، 1934م.
30- شرح أدب الكاتب لموهوب الجواليقي، تحقيق ودراسة: الدكتور طيبة حمد بودي، قسم اللغة العربية، كلية الآداب، جامعة الكويت، 1995م.
31- شرح ديوان الحماسة للعلامة التبريزي، دار القلم، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى.
32- شرح ديوان روبة بن العجاج، تحقيق: د. ضاحي عبد الباقي محمد، جمهورية مصر العربية، مجمع اللغة العربية، ط1، 2011م.
33- شرح ديوان عنترة بن شداد العبسي، للعلامة التبريزي، دار الكتاب العربي، ط1، 1992م.
34- شعر الخوارج، جمع وتحقيق: د. إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، لبنان، 1974م.
35- شعراء أمويون، د. نوري حمودي القيسي، مكتبة النهضة العربية، بيروت، ط1، 1985م.
36- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية لإسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطّار، دار العلم للملايين، بيروت، 1956م.
37- الصحاح للجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطّار، دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1984م.
38- عشرةُ شعراء مقلّون، صنعة: أ.د. حاتم صالح الضامن، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة بغداد، العراق، 1990م.
39- قصائد جاهلية نادرة، د. يحيى الجبوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1988م.
40- كتاب الأشباه والنظائر للخالديين، تحقيق: د. السيد محمد يوسف، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، د.ت.
41- كتاب الألفاظ لابن السكيت يعقوب بن إسحاق، تحقيق: الدكتور فخر الدين قبادة، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، لبنان، ط1، 1998م.
42- كتاب العين للخليل الفراهيدي، ترتيب وتحقيق: الدكتور عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 2003م.
43- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل للزمخشري، دار الكتب العلمية، د.ت.
44- لسان العرب لابن منظور الإفريقي، دار صادر، بيروت، د.ت.
45- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي لأحمد بن محمد المقري، تحقيق: الدكتور عبد العظيم الشتاوي، دار المعارف، القاهرة، ط2.
46- معاني القرآن لأبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء، عالم الكتب، بيروت، ط3، 1983م.
47- المعجم الموسوعي لألفاظ القرآن الكريم وقراءاته للدكتور أحمد مختار عمر، مؤسسة سطور المعرفة، الرياض، ط1، 2002م.
48- المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، د.ت.
49- موسوعة الكلمة وأخواتها في القرآن الكريم للشيخ الدكتور أحمد عبيد الكبيسي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط1، 2017م.
50- النوادر في اللغة لأبي زيد الأنصاري، تحقيق ودراسة: د. محمد عبد القادر أحمد، دار الشروق، بيروت، ط1، 1981م.
[1] مدير تحرير، مجلة الهند، وأستاذ مساعد، قسم اللغة العربية وآدابها، الجامعة الملية الإسلامية، نيو دلهي.
[2] جمهرة أشعار العرب، ص 322.
[3] ديوانه، ص 66.
[4] جمهرة أشعار العرب، ص 274.
[5] شرح ديوانه، ص 80.
[6] شرح ديوانه، ص 87.
[7] شرح ديوانه، ص 92.
[8] ديوانه، ص 421.
[9] ديوانه، ص 514.
[10] ديوان المفضليات، ص 347.
[11] ديوانه، ص 156.
[12] شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام، ص 78.
[13] شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام، ص 102.
[14] ديوانه، 1 /381.
[15] ديوانه، 2 /526.
[16] عشرة شعراء مقلّون، ص 16.
[17] شرح ديوانه، ص 249.
[18] ديوانه، ص 136.
[19] شرح ديوان الحماسة، 1 /42.
[20] ديوان المفضليات، ص 345.
[21] شعراء أمويّون، ص 54.
[22] نطفت أي سالت.
[23] ديوانه، ص 269.
[24] ديوانه، ص 52.
[25] ديوانه، ص 209.
[26] شعر الخوارج، ص 142.
[27] ديوانه، ص 93.
[28] النوادر في اللغة، ص 227.
[29] الصحاح: كأس..
[30] شرح أدب الكاتب للجواليقي، ص 21.
[31] لسان العرب: كأس.
[32] كأس.
[33] كأس.
[34] فقال: "وهي مؤنثة". (كاس).
[35] فجاء فيه: "الكأس: القدح ما دام فيه الخمر، وهي مؤنثة". (كأس).
[36] المجلد: 3، الصفحة: 217.
[37] كتاب الألفاظ، ص 270 و277.
[38] المفردات في غريب القرآن، ص 571.
[39] المعجم الموسوعي لألفاظ القرآن الكريم وقراءاته، ص 385.
[40] موسوعة الكلمة وأخواتها في القرآن الكريم، 10/572.