من منا لم يسمع من قبل عن التفكير المفرط أو الـ Overthinking؟! لدينا جميعا شخصٌ واحد على الأقل من معارفنا مصاب بهذا الداء العضال _هذا إذا لم نكن نحن أنفسنا من ذوي التفكير المفرط_ الذي لا يكف عن توقع الأسوأ، وعن رسم سيناريوهات وسيناريوهات بديلة للتعامل مع ما لم يكن بعد.
تبدو النصيحة «تملك ألق الموت المحتوم» جد بسيطة من حيث القول، لكن ما أصعبها عند التطبيق العملي، إن أولئك الذين بإمكانهم غرس أظفار وجودهم في جسد الحاضر سعداء حقًا، لكن من يقوى على هذا؟
الماضي يطاردنا، والذاكرة، كما يقول عالم الاجتماع بيونغ تشول هان؛ مقلب قمامة، لا تملك، على الأغلب، سوى ما يزعجنا، والمستقبل ماثل أمامنا بتهديداته ومخاوفنا منه، إننا هنا بين المطرقة والسندان، وذلك هو السبب الأبرز الذي يؤدي بنا إلى وهدة التفكير المفرط.
اقرأ أيضًا: كيف تحافظ على إيجابيتك؟.. طرق تُحسّن نظرتك للحياة
التفكير المفرط والخوف
الشخص المصاب بالتفكير المفرط أسير دوامات لا قرار لها، أحيانًا يجد نفسه مشغولًا بمطاردة فكرة ما (غريبة على الأرجح وغير واقعية) لكنه لا يدرك ما الذي أدى به إلى التفكير فيها! إنها دوامات من الأفكار التي تحتل رأسك ولا تعرف لها سببًا، بالأحرى هناك أسباب ودواع لهذا التفكير المفرط أبرزها الخوف _في معناه الخام والمجرد_ فضلًا عن عدم الشعور بالأمان.
يقول زيجمونت باومان في كتابه “الخوف السائل”:
«إن زماننا لا تنقصه الأسباب الباعثة على الخوف، ويفقتر أيما افتقار إلى اليقين والأمن والأمان، فما أكثر المخاوف، وما أكثر ألوانها؛ حيث تستحوذ مخاوف خاصة على الناس من فئات عمرية وجنسية واجتماعية مختلفة، وهنالك أيضًا مخاوف تنتابنا جميعًا، بصرف النظر عن المكان الذي وُلدنا فيه، أو اخترنا أو (أُجبرنا) على العيش فيه». (الخوف السائل ص 44).
والمشكلة في هذا الخوف الذي أمسى «سائلًا»، حسب تعبير زيجمونت باومان، أنه يولد خوفًا آخر، هذا الخوف المتولد عن خوف _لاحظ أننا هنا أسرى التفكير المفرط الذي يأخذنا إلى دوامات لا ترحم ولا قرار لها_ هو ما يسميه «باومان» بـ «الخوف المشتق»، يقول مجلّيًا حدود فكرته:
«الخوف المشتق هو إطار ثابت للعقل، وهو أقرب إلى أثر ناتج عن التعرض للخطر، إنه شعور بفقدان الأمان.. وهو شعور بالعجز… وإذا ما استوعب المرء رؤية للعالم تقوم على الإحساس بفقدان الأمان والعجز، فإنه يلجأ عادة، حتى في غياب خطر حقيقي، إلى استجابات ملائمة من أجل مواجهة مباشرة مع الخطر، وهكذا يكتسب «الخوف المشتق» قوة دفع ذاتي» (الخوف السائل ص 24).
طبعًا لم يكن في ذهن زيجمونت باومان أن يجلي لنا حدود فكرة التفكير المفرط ولا أن يقف على معالمها، لكننا ربحنا ذلك كمسكب ثانوي من تحليله لبنيات الخوف المعاصر الذي يجتاح شتى جنبات وجودنا الهش في عالم يسير إلى حتفه بسرعة الصاروخ.