الرفق واللين في تربية البنات والبنين
محمد السيد السقيلي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب الرفقَ في الأمر كله))؛ رواه البخاري، رقم (6395).
ولا شك أن من أعظم الأمور التي تحتاج إلى اللين والرفق تربيةَ الأبناء، وإذا كان الرفق خلقًا جميلًا، يجعل صاحبه يتَّصف بلين الجانب في القول والفعل، ويلجأ صاحبه إلى الأخذ بالأيسر والأسهل، والدفع بالتي هي أحسن؛ إذ هو ضد العنف - فقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم المسلمَ على ملازمة الرقة والرفق في تعامله مع كل المسلمين، ولا شك أن أَولى الناس بهذا هم ذوو القربى والأرحام، وليس أقرب للإنسان من أولاده إذ هم بَضْعةٌ منه، وفي هذا المعنى رُوِي أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مُقسط متصدِّق مُوفَّق، ورجل رحيم رقيقُ القلب لكل ذي قربى ومسلمٍ، وعفيفٌ متعفِّفٌ ذو عِيالٍ))؛ أخرجه مسلم عن عياض بن خمار.
والرجل الرحيم الرقيق القلب الذي يرحم أولاده وقرابته، ويرحم الضعفاء والفقراء والعجَزة، والأيتام والأرامل، ويُشفق عليهم جميعًا - يستحق بهذه الصفات والمؤهلات أن يكون من أهل الجنة.
والأولاد حينما تُوجههم وترشدهم برحمة ورِفق ولِين، يكونون بهذا الأسلوب أسرع للاستجابة والمبادرة منهم إذا استخدمتَ معهم الترهيبَ والتخويف والعنف، فقد يستجيب الطفل ويفعل ما أمرته به تحت وطأة الخوف والترهيب، وبذلك سيتعود ألا يفعل شيئًا إلا والعصا على ظهره، ومتى ارتفعت أو غابت، انقلب على وجهه، ونحن لا نريد مثل هذه النماذج، نحن نريد من يتربى على القيم والأخلاق، ويتمثل بها؛ سواء كان في حضرتنا، أو في غيبتنا، وهذا لا يتأتَّى إلا بالرفق واللين والحب.
الرفق واللين لا يعني التفريط:
لا تتساهل أخي المربي معهم فيما إذا فعلوا شيئًا مما حرَّمه الله تعالى بدعوى أنهم صغار لا يَعون ولا يدركون، أو بزعم أنهم لا يُفرقون بين الحلال والحرام، ولا بين ما هو صحيح أو خطأ من الأقوال والأفعال.
- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فِيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كَخْ كَخْ، ارْمِ بها، أما علمتَ أنَّا لا نأكل الصدقة))؛ متفق عليه.
هكذا يستثمر النبي صلى الله عليه وسلم الموقف؛ ليصل إلى هدف تربوي يريد غرسه في نفس الطفل، ولو ترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الموقف ليمر دون استغلاله، لَما كان لتوجيهه أثر، وهذا ما يسمى (بالتربية بالموقف)، ولقد رأينا كيف تعامل صلى الله عليه وسلم مع الحسن ذلك الطفل الذي كان عمره آنذاك ثلاث سنوات، فأرسى لديه قيمة عظيمة في أقل من دقيقة، ولم يقل: إنه طفل صغير لا يعي، ولم يقل: إنها تمرة صغيرة لا تساوي شيئًا، فلنتركها له حتى لا تنكسِر نفسه، ولم يقل: إنه ابن بنتي وحبيبتي وقرة عيني فاطمة الزهراء، وربما تَحزَن لحزن ابنها، لم يقل شيئًا من ذلك، بل مضى يربِّي ويعلِّم ويرشد صلى الله عليه وسلم.
• ومن توجيهه وإرشاده وحسن تربيته صلى الله عليه وسلم ما رواه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: ((يا غلام، إني أُعلمك كلمات: احفظ الله يَحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف))؛ رواه الترمذي، رقم (2516)، وقال: حديث حسَن صحيح.
كلمات عميقة ومعانٍ دقيقة تحتاج إلى جهد كبير ووقت طويل لتفسيرها، فقد يتطلب الأمر مجلدات؛ لتستوعب تفسيرها وشرحها، لكن هذه الكلمات تُعد بذورًا طيبة يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بغرسها في قلب الغلام وعقله، هذا الغلام الذي ما زال يخطو نحو العاشرة من عمره، يَغرِس النبي صلى الله عليه وسلم هذه البذور وهو يعلم أنها ستَكبر معه، وستَنبُت يومًا ما، وعما قريب سوف تُثمر علمًا وفقهًا ونورًا وحكمةً في قلب هذا الغلام، وقد كان!