اللغة: سبحان الذي أنزل كتابه مبيناً ميسراً للذكر، لا تخفى معاني كلمة على التدبير، ولا تعزب مقاصد آياته عن المتفكر. وهذه الآية الكريمة واضحة أشد الوضوح؛ ظاهرة أتم الظهور، فإن نحن تناولنا بعض مفرداتها أو تراكيبها بالشرح أو التفسير؛ لم تكن غايتنا إلا الذكرى، وإيقاظ الانتباه، وحفز الهمم إلى التأمل الخصب الكريم.
﴿ أَنْدَادًا ﴾ [البقرة: 165] جمع ند وهو المثل. ومشركو العرب على رغم شركهم لم يكونوا يعتقدون أن في الوجود من يماثل الله تعالى وأقصى ما كانوا يعتقدون في آلهتهم أنهم شفعائهم عند الله، وأنهم يقربونهم إلى الله زلفى، وكفى بالقرآن على ذلك شهيداً، قال تعالى: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [يونس: 18]، وقال تعالى: ﴿ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ [الزمر: 3]، أما الخلق والرزق والإحياء والإماتة، وإجابة المضطر إذا دعاه وكشف السوء، وتدبير الأمر فكانوا يضيفون هذا كله إلى الخالق جل شأنه. وبذلك نطق القرآن في أكثر من آية من آياته الكريمة. قال تعالى. ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [يونس: 31-32]، وقال تعالى ﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ [المؤمنون: 84-89 ]، ولقد كانوا مع هذا ينسون ما يشركون إذا حزب الأمر أو اشتد الكرب، أو نزلت الكارثة. قال تعالى ﴿ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [لقمان: 32]، وقال تعالى ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾ [الزمر: 8]، وقال تعالى ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً ﴾ [الاسراء: 67]، والآيات في هذا المعنى كثيرة وكلها ناطقة بأن مشركي العرب كانوا في آونة الشدة يفزعون إلى الله وينسون آلهتهم.
وكان أهل الكتاب يحلون ما يحل لهم أحبارهم ورهبانهم، ويحرمون ما يحرمونه عليهم بغير هدى من الله؛ فاعتبر الله ذلك تأليهاً لهؤلاء الأحبار والرهبان قال تعالى ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31]، وقد بينت السنة ذلك غاية البيان.
وأظنك بعد هذا الإيضاح تسكن نفسك. ويطمئن قلبك إلى أن المراد بالأنداد هو هذه الآلهة الباطلة؛ والمعبودات الزائفة التي كانوا يعبدونها من دون الله وينذرون لها، وينحرون ويطوفون من حولها ويلتمسون، وأولئك الذين كان أهل الكتاب يمنحونهم حق التشريع الذي لا يكون إلا لله تعالى؛ ويخضعون لما يشرعون وعلى ذلك يكون الأنداد، والشركاء والأولياء والآلهة والأرباب بمعنى واحد وإن تنوعت الألفاظ واختلفت الأسماء.
(يحبونهم) الحب نازعة قلبية بيعث على التقدير وإرادة الخير، وتختلف طوعاً لاختلاف بواعثها. فتضعف تارة وتقوى تارة أخرى؛ وقد تعصف بصاحبها أحياناً فتطغى على كل شيء. فهناك حب النفس، وحب الزواج، وحب الولد، وحب الوالد وحب الصديق، وحب المعين وحب المنعم، وحب العشير. وإذا كان الحب يقوى طوعاً لقوة الباعث عليه، كان أقوى ألوان الحب حب الله تعالى لأن باعثه أقوى البواعث لأن الله هو الخالق الرازق مولى النعم كلها، ومانح الخير كله؛ والموفق لسعادة الدنيا والآخرة فحب الله هو الحب الذي لا ينبغي أن يكون في قلب المؤمن حب يغلبه أو يظهر عليه. هو الحب الذي ينبغي أن يكون كل حب دونه، هو الحب الذي يدفع إلى التضحية بالمال والولد والنفس في سبيل الله. قال تعالى ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24].
﴿ وَلَوْ يَرَى ﴾ [البقرة: 165] ولو يعلم ﴿ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ [البقرة: 165] الظلم[1] وضع الشيء في غير موضعه. والذين ظلموا هم أولئك المشركون الذين يوجهون العبادة إلى غير مستحقها، والحب إلى غير الخليق به، ويظلمون بذلك أنفسهم ﴿ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ﴾ [البقرة: 165] يشاهدونه ويحسونه ﴿ الْقُوَّةَ ﴾ [البقرة: 165] القدرة والتصرف.
التفسير: أثبت الله تعالى وحدانيته ورحمته وأقام على ذلك من الحجج والبينات ما لا يسموا إليه الشك، ولا يبقى معه ريب لمرتاب؛ ولا شك لشاك. وذلك في الآيتين الكريمتين اللتين سبقتا هذه الآية. وهما قوله تعالى ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 163-164]، ثم أراد تعالى أن يبين أن من الناس فريقاً عطلوا مداركهم، وخدّروا حواسهم؛ وشلوا عقلوهم، فأصبحوا لا ينتفعون بما وهبهم الله تعالى من القوى، تتجلى لهم الآيات فلا يبصرون، وتقرع أسماعهم الحجج فلا يسمعون، وتتلى عليهم آيات الله فلا يفقهون. أولئك من الذين عناهم الله بقوله ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [لأعراف: 179]، وهم الذين عناهم بقوله في هذه الآية الكريمة التي نحن بسبيل القول في التذكير بها ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً ﴾ [البقرة: 165].
أي أن من الناس من بلغت بهم الغفلة وفساد التصور؛ وضعف التمييز، وفرط الغباء أنهم اتخذوا من دون الله أنداداً أو آلهة زائفة يستشفعون بهم إلى الله تعالى، أو ينسبون إليهم من القدرة على التصرف في الملكوت ما لا يملكه إلا الله تعالى، ويزعمون لهم القدرة على تيسير الأرزاق؛ ومنح الذرية، وكشف الكوارث والملمات وجميع وجوه النفع، ووسائل الضر، مع وضوح الأدلة وتضافر الحجج التي تثبت وحدته تعالى ورحمته وقد رد الله جميع هذه المزاعم رداً لا هوادة فيه.
قال تعالى ﴿ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [الزمر: 44].
وقال تعالى ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [لأعراف: 3].
يختلف الناس في نظرهم إلى هؤلاء الأنداد، فمنهم فريق يراهم شفعاء يقربون إلى الله زلفى، كان ذلك في الجاهلية الجهلاء، والاحتذاء بالآباء والأجداد غالب على الناس؛ والكبرياء تصدهم عن الحق بعد إذا جاءهم، والحرص على موار الرزق يحول بينهم وبين الإيمان، والعادات القاهرة تحول دون الهداية، فما عذر فريق من المسلمين الآن وقد تورطوا في شر مما تورطت فيه الجاهلية الأولى؟
أجل أن مما يحز في القلب ويؤذي الوجدان أن ترى فريقاً من المسلمين طال عليهم الأمد، وبعد عهدهم بخير القرون فصاروا ينظرون إلى طائفة من الناس نظر الجاهلية الأولى إلى آلهتهم الزائفة فيقولون: نحن ملوثون بالذنوب فإذا دعونا الله لم يستجب لنا، فلا بد من الاستشفاع بأولى الحظوة عنده والزلفى لديه. وهم في مقالتهم هذه يتورطون في أبشع الخطأ وأقبح الجهل؛ إذ يشبهون الله تعالى بالحكام العتاة الجبارين المستبدين الجاهلين الذين لا يردون على الناس حقوقهم إلا إذا ازدلفوا إليهم بالمقربين منهم، ولا يغدقون عليهم فضلهم إلا إذا استشفعوا إليهم بأولي المكانة عندهم، وحاش لله الذي قامت بعدله السموات والأرض، ووسعت رحمته كل شيء وأحاط علماً بما توسوس به الأنفس وتهجس به الضمائر. خاش لله أن تضرب له الأمثال وقد قال تعالى ﴿ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 74].
والسبيل إلى رحمة الله ميسرة، فمن سلكها نال من رحمته ما تصبوا إليه نفسه ويهفوا إليه قلبه. قال تعالى﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً ﴾ [النساء: 110].
أفليست الطهارة من الذنوب والآثام بالتوبة النصوح خيراً من التمرغ في ردغة الفسوق وحمأة الإثم ودنس الفواحش مع اللياذ بالصالحين من دون رب العالمين؟
والله تعالى يقول لنبيه نوح عليه السلام وهو من أولي العزم ﴿ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾ [هود: 37].
فما أبشعها من جهالة! وما أشنعه من غباء!
وصدق الله إذ يقول ﴿ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ﴾ [غافر: 12].
ومنهم فريق يعونهم من دون الله، ويستنجدون بهم في الملمات؛ ويستعينونهم على تنفيس الكربات، وقضاء الحاجات ويهتفون بأسمائهم في القومة والقعدة والحرمة والسكون؛ ويزعمون – هداهم الله – أن لهم قوة غيبية يستمعون بها الداعي من مكان بعيد، ويستجيبون له؛ ويقضون حاجاته فتراهم لذلك يتقربون إليهم بالنذور، ويجعلون لهم نصيباً مما رزقهم الله من الحرث والأنعام، ويشدون الرحال إلى قبورهم، ويطوفون من حولها، ويتمسحون بما عليها من الثياب ويناجونهم من وراء الأجداث، ويحسبون أنهم أحياء حياة مادية كحياتهم في الدنيا يأكلون ويشربون.. ويخرجون من قبورهم لقضاء حاجات السائلين وغافلين عن قول الله الحق لأكرم الخلق ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [فاطر: 22]، ألا بعداً للقوم الظالمين.
ومنهم فريق يدع النص الصريح من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اتباعاً لرأي فلان فإذا أوردت على أحدهم الآية الكريمة أو الحديث الصحيح عبس وبسر، وأدبر واستكبر؛ ولج في عتوٍ ونفور، وقال في لهجة المتغطرس الفخور: وما تصنع بقول فلان؟
يا عجباً كل العجب أتدع قول الخالق لقول المخلوق؟
أتذر قول الشارع الحكيم لقول من لا تعلم من أمره شيئاً!
أتذر قوله المعصوم لقول امرئ خير ما يقال فيه: إنه يخطئ ويصيب؟
نحن إنما نقبل قول العلماء إذا كانوا يبلغوننا عن الله ورسوله؛ فأما إن كانوا ينتحلون صفة المشرع، ويفرضون علينا طاعتهم فلا، ولا كرامة.
تلك التي قدمت لك طوائف الانداد التي يتخذها بعض الناس من دون الله وينظرون إليها نظرة التقديس. ﴿ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 165] أي أن هذا الفريق الذي يجعل لله أنداداً يحبهم كحب الله لأنه يرى لهم من الفضل والرحمة والنعمة مثل ما يرى لله.
ما أكثر الذين يذكرون الله، أو يذكر الله أمامهم فلا ترى لذكره في نفوسهم أثرهم حتى إذا ذكرت أحد هؤلاء الأنداد أخذتهم الأريحية، وعرتهم هزة سرور، وارتسمت على أساريرهم خطوط البشر، وسرت في أجسامهم نشوة الفرح فكأنهم الذين عناهم الله تعالى بقوله الكريم ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [الزمر: 45].
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 165] أجل الذين آمنوا بالله وحده؛ وصدقوا برسالة نبيه واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله يحبون الله حقاً من كل قلوبهم، ويضحون بكل شيء في سبيله؛ ويحبون أنبياءه ورسله وأولياءه والصالحين من عباده من أجل محبته؛ فهم يحبونهم لله وفي الله، ولا يحبونهم مع الله.
المؤمنون يحبون الله ولا يحبون معه شيئاً وإن أحبوا غيره فله ومن أجله وفي سبيله؛ لا يؤثرون عليه مالاً ولا ولداً ولا يخالفون قوله وقول نبيه لقول إنساناً أياً ما يكن، ولو طلع من جيبه القمر.
﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ [البقرة: 165] ولو أن هؤلاء الظالمين الذين يتخذون من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله يعلمون الحقيقة حين يشاهدون ويحسون ما أعد الله لهم من عذاب الهون يوم القيامة ويعلمون أن القوة جميعاً وأن التصرف له وحده لا شريك له، وأن الأمر كله له لتقطعت أنفسهم حسرات وندموا على ما فرط منهم وقالوا يا حسرتا على ما فرطنا في جنب الله.
نسأل الله بواسع رحمته، وعظيم فضله أن يوفقنا إلى إخلاص الدين، وإسلام الوجه إليه، والإحسان في طاعته. إنه سميع الدعاء.
[1] (الهدي النبوي) لعل أنسب ما فسرت به كلمة الظلم هو النقص فيقال ظلمه أي غصه حقه كما قال تعالى ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾ [الكهف: 33] وهي منسحبة من هذا المعنى في سائر آيات الذكر الحكيم فقوله تعالى ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ﴾ [هود: 101] وقوله ﴿ وَمَا ظَلَمُونَا ﴾ [البقرة: 57] وغير ذلك مما ذكرت فيه هذه الكلمة أو مشتقاتها فإنها لا تتعدى معنى النقص وإن كانت بعض كتب اللغة كالمختار يفسر الظلم كما فسره أستاذنا أبو الوفاء بأنه وضع الشيء في غير موضعه.