البلاغة في آيات في خلق السماء
وما يتبعها من أجرام سماوية وبروج
بعد الكلام عن بناء السماء، وبَدْء التكوين، واكتمال عظمة الكون وبهائه، يأتي الكلام عن توابع السماء وما يحدُثُ فيها من جريان الشمس والقمر، وحدوث الليل والنهار على الأرض، واليوم والليلة، والشهر والسنة، وبعض الظواهر الكونية.
إن أول ما يَلفِتُ الانتباه لصنع الله -تعالى- في السماء هي ظاهرةُ الشمس والقمر، والليل والنهار، قال الله -تعالى-: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54].
قال في تفسير ابن كثير:
"يُخبِر الله -تعالى- أنه خلق العالَم، سماواته وأرضه وما بين ذلك، في ستة أيام؛ وهي: الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، وفيه - أي: يوم الجمعة - اجتمع الخلق كله، وفيه خُلق آدم - عليه السلام - واختلفوا في هذه الأيام هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الأذهان؟ أم أن كل يوم كألف سنة كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل؟
فأما يوم السبت، فلم يقع فيه خلق؛ لأنه اليوم السابع، ومنه سُمِّي السبت، وهو القطع.
وأما قوله في الاستواء، فقد سلك مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل... إلى أن يقول: فمَن أثبت لله -تعالى- ما وردت به الآيات الصريحة، والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله النقائص، فقد سلك سبيل الهدى.
وأما قوله: ﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ﴾؛ أي: يُذهِب ظلامَ هذا بضياء هذا، وضياءَ هذا بظلامِ هذا، وكل منهما يطلب الآخر طلبًا حثيثًا؛ أي: سريعًا لا يتأخر عنها.. ثم إن الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته؛ أي: له الملك والتصرف"؛ اهـ.
تأكيدٌ على تسخيرِ ما في الكون لأجل الإنسان ومصلحته وسعادته، فالإنسان لا يهنَأُ أو يسعَدُ إلا بوجودِ الليل والنهار؛ أحدهما للراحة والنوم الذي لا بد للإنسان منه، والآخر للسعي والعمل لتأمين الرزق في جوٍّ من الإضاءة والنور، وهي أيضًا ضرورية للحيوان والنبات، وكذلك تسخير النجوم للاهتداء بها، كما هو الحال في نجم القطب الذي يدل على الشمال، وقد لا يعرف إلا من خلال مجموعة الدب الأكبر، أو غيرها من المجموعات التي تدل عليه، وكوكب الزهرة الذي يظهر في الغرب مع غروب الشمس وإلى ما بعد العشاء بقليل، وفي أوقات يظهر في الشرق قبل الفجر ويختفي مع طلوع الشمس.
وفيها من البلاغة:
• الطباق: وهو من المحسِّنات اللُّغوية، بين الليل والنهار.
• تقديم الأهم على المهم: كما في ترتيب الشمس والقمر في التسخير، ولارتباط الشمس والقمر بالليل والنهار وفوائدهما الواضحة للإنسان والأرض، كان العطف، ثم قطع العطف؛ لتغاير فوائد النجوم، وهناك قراءات بالعطف، وهو دليل ارتباط هذه الأجرام بعضها ببعض في منظومة متكاملة مسخَّرة لصالح الإنسان والأرض التي يعيش عليها، وقد وضحت الآية 16 من السورة نفسها ﴿ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [النحل: 16]، تجليةً أكثر لفوائد النجوم.
ثم تأتي الفائدة بشكل مفصَّل بالنسبة للإنسان في سورة الأنعام: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 97]، فإذا أحاط الظلامُ بالمسافر وأطبق عليه اللَّيل بحِنْدِسِه في يومٍ غاب فيه القمرُ، تاه في هذا الظلام ولم يعُدْ يعلَمُ شرقَه من غربِه، ولا شمالَه من جنوبِه، فليس له بعد ذلك إلا النظر في السماء بإمعانٍ؛ ليتبين موقعه ويحدد خط سيره.
يقول صاحب كتاب "من الإعجاز العلمي في القرآن":
يقول صاحب كتاب "من الإعجاز العلمي في القرآن":
"وإذا كانت العينُ المجرَّدة يمكن أن تشاهد 2000 نجمٍ في ليلة سماء صافية، فإن الفلكي يمكن أن يشاهد في الوقت نفسه أكثر من ألف مليون نجمٍ بواسطة المرقب الفلكي المطوَّر"؛ ص144، فمعنى هذا أن المسافر العادي يرى ما يكفيه للاسترشاد إلى الوجهة الصحيحة.
وفيها من البلاغة:
طباق بين البر والبحر مع سجع لطيف، وهذا من خصائص القرآن الكريم؛ علو العبارة وطلاوتها وجرسها، فلم يقل: بين اليابسة والماء.
مناسبة الفاصلة القرآنية؛ حيث خاطب مَن له علم بالأسفار وتذكيرهم بصنع الله وتيسير الأمر للإنسان؛ لكي يسير على هدًى، ليتبع بعد هذا التذكير الهدى الأعم، وهو الإيمان بالله خالق هذا الكون، وهذا هو الأسلوب الحكيم في الدعوة المتبع مع فئة خاصة في الفهم.
الالتفات، من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم (﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ ﴾.. ﴿ قَدْ فَصَّلْنَا ﴾).
وفي سورة الطارق: ﴿ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴾ [الطارق: 3]؛ أي: المضيء الذي يثقب نوره فيخرق السموات، فينفذ حتى يُرى في الأرض.
وللعلم الحديث قولٌ آخر فيه، فقد ورد في الموسوعة الكونية الكبرى ما يلي:
"فالطارق هو جرم سماوي له صفتان: وهما ﴿ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴾، ولو قارنَّا بين تلك الخواص وأي جرم سماوي، لوجدنا أن النجم النيوتروني يستوفي هذه الخواص؛ نجم وطارق وثاقب.. له نبضات وطرقات منتظمة، تلك البيانات التي نقلها لنا اللاسلكي والتي كان مصدرها النجم النيروتروني، وقد توصَّل العلماء إلى أن النجم له نبضاتٌ سريعة لسرعةِ دورانه وسرعة طاقته.. وأن النجم النيوتروني العجوز له إشاراتٌ بطيئة على فترات أطول، وذلك عندما تقلُّ طاقته وتنقص سرعة دورانه، فسبحان الله العظيم، حين خصَّ هذا النجم بالثاقب، وأقسم به، فمن عظمة القَسَم نُدرِك عظمة المُقسَم به، فكثافة النجم الثاقب النيوتروني أعلى كثافةً معروفة للمادة، ووزنه يزيد عن وزن الكرة الأرضية برغم صغر حجمه، فهو ثاقب.