تفسير قوله تعالى: {ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض...}
قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 107].
قوله: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ الاستفهام للتقرير- كما سبق بيانه، أي: قد علمت أن الله له وحده ملك السماوات والأرض.
وقدم الخبر في قوله: ﴿ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾لإفادة الحصر والاختصاص، أي: أن لله- عز وجل- وحده خاصة ملك السماوات والأرض، خلقاً وملكاً وتدبيراً، لا شريك له في ذلك، كما قال تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ﴾ [سبأ: 22]. فله- عز وجل- وحده ملك السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهما.
ومن قدرته عز وجل على كل شيء وملكه للسموات والأرض أنه ينسخ ما يشاء، ويثبت ما يشاء، كما قال عز وجل:
﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39]. ﴿ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ الواو: استئنافية و"ما" نافية، والخطاب للمؤمنين، أي: وما لكم سوى الله ﴿ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾"من" زائدة من حيث الإعراب، مؤكدة للنفي من حيث المعنى، أي: ما لكم سوى الله أيُّ ولي يتولاكم، فيجلب لكم النفع والخير. ﴿ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ معطوف على ما قبله و"لا" مؤكدة للنفي، أي: وما لكم من دون الله أيُّ نصير ينصركم، ويدفع عنكم الضر والشر.
قال الشاعر:
يا نفسُ مالكِ دونَ اللهِ من واقي
وما على حدَثَان الدَّهرِ من باقِي[1]
وفي قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 106، 107] بعد تقرير ثبوت النسخ في القرآن الكريم، بقوله: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ﴾ [البقرة: 106] الآية: إفحام لمنكري النسخ من اليهود وغيرهم، وذلك بتقرير قدرته- عز وجل- التامة على كل شيء، وتقرير أن له ملك السموات والأرض، فهو- عز وجل- ذو القدرة التامة على كل شيء، والمشيئة النافذة، في خلقه وملكه، وحكمه وشرعه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، وهم يُسألون، له الأمر والتدبير الكوني، وله الأمر والحكم الشرعي، يحل ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء، ويوجِب ما يشاء، وينسخ ما يشاء، ويُثبت ما يشاء. قال الطبري[2]: "وهذا الخبر- وإن كان من الله تعالى خطاباً لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته- فإنه منه- جلَّ ثناؤه- تكذيب لليهود، الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد- صلى الله عليهما- لمجيئهما بما جاءا به من عند الله، بتغيير ما غيّر الله من حكم التوراة". وقال ابن القيم[3]: "فأخبر سبحانه أن عموم قدرته وملكه، وتصرفه في مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخ ما يشاء، ويثبت ما يشاء، كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية ما يشاء، ويثبت، فهكذا أحكامه الدينية الأمرية، ينسخ منها ما يشاء، ويثبت منها ما يشاء، فمن أكفر الكفر وأظلم الظلم: أن يعارض الرسول الذي جاء بالبينات والهدى، وتدفع نبوته، وتجحد رسالته، بكونه أتى بإباحة بعض ما كان محرماً على من قبله، أو تحريم بعض ما كان مباحاً لهم، وبالله التوفيق، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء". وقال ابن كثير[4]: "وفي هذا المقام رد عظيم، وبيان بليغ لكفر اليهود، وتزييف شبهتهم- لعنهم الله- في دعوى استحالة النسخ، إما عقلاً- كما زعمه بعضهم- جهلاً وكفراً، وإما نقلاً- كما تخرصه آخرون منهم افتراءً وكذباً".
المصدر: «عون الرحمن في تفسير القرآن»
[1] البيت لأمية بن أبي الصلت. انظر "ديوانه" ص (21). [2]في "جامع البيان" (1 /407). [3] انظر: "بدائع التفسير" (1 /370). [4] في "تفسيره" (1 /217).
الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم