03-19-2022
|
03-19-2022
|
#2
|


ثانيًا: الفاصلة:
حين سمع الكفارُ من عَبَدَةِ الأصنام تلاوة القرآن لأوّل نزوله حاروا في أمر نَظْمِه، فلقد كانوا يعرفون من ضروب الكلام عندهم الشعر، والخطابة، والسحر، وسجع الكُهّان، ولم يكن القرآن في تراكيبه ولا في أسلوبه يشبه واحدًا ولا أكثر من واحد من هذه الأضرب. حين أرادوا أن ينسبوا القرآن إلى البشر وينكروا مصدره الإلهي كان عليهم أن يجعلوا القرآن واحدًا من أنواع كلامهم التي تقدّم ذكرها، فلما فكَّروا في هذا الأمر لم يستطيعوا نسبته إلى الخطابة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقم بينهم بالقرآن خطيبًا، ولم يستطيعوا نسبته إلى سجع الكهان لما في العبارة القرآنية من الوضوح الناصع في مقابل ما في سجع الكهان من غموض، فلم يبقَ أمامهم إلا أن يرصدوا أثر القرآن فيما كان من القطيعة بين بعض المؤمنين وبين أهليهم فنسبوا القرآن إلى السِّحْر، ثم أن يرصدوا ما في أسلوب القرآن من فواصل في أواخر الآيات فنسبوا القرآن إلى الشِّعْر، وهكذا اتخذ غلوُّهم في القرآن أحدَ هذين الاتجاهين.
كان من اليسير دفعُ الشّبهة الأولى عن القرآن؛ لأن السحر شيءٌ، والدعوة إلى الدين شيءٌ آخر؛ فالسحر لا يدعو إلى صلاح ولا ينتهي إلى إصلاح، ولا يجمع شملًا، ولا يوحِّد أُمّة، ولا يُنشئ شريعة ولا عقيدة، وقد كان كلّ ذلك من آثار القرآن الكريم، وقد عَلِم ذلك عامّتهم كما علمه الخاصّة منهم، فانتفى عندهم أنه سحرٌ.
أما دعواهم أنّ القرآن شعر؛ فإن دفعها يتطلّب معرفة بالفرق بين الوزن الشعري ومطلق الإيقاع من جهة، ثم بين القافية الشعرية والفاصلة القرآنية من جهة أخرى؛ لأن الوزن والقافية جزءٌ من تعريف الشعر، فنفيهما عن القرآن نفي لكونه شعرًا بحكم تعريف الشِّعر.
ولقد مرَّ بنا بيان المقصود بمطلق الإيقاع، واتضح الفرق بينه وبين الوزن، وعلينا الآن أن نوضّح الفرق بين الفاصلة القرآنية والقافية الشعرية.
إنّ تقفية الشعر تتطلب تطابق خواتيم الأبيات من الناحية الصوتية، وقد جعل الالتزام بالقافية جزءًا من عمود الشعر الذي لا يكون الشعر شعرًا إلا به، كما أنّ البيت -والمقصود خيمة الأعرابي- لا يقوم إلا على عمود أو عماد يعتمد بناؤه عليه، وفي القرآن من الفواصل ما يتشابه جرسه في الأذن، فحين سمع الكافرون هذه الفواصل غرتهم عن ملكاتهم وأذواقهم، فربطوا بينها بالباطل وبين القوافي، ثم ادّعَوا لأدنى ملابسة أنّ القرآن قول شاعر.
وإنّ المتأمل في الفاصلة القرآنية ليرى الفارق عظيمًا بينها وبين القافية، حتى ليمكن تلخيصه على النحو التالي:
1- تتطلّب القافية التطابق التامّ بين عددٍ من الحروف في آخر البيت الشعري، فإذا قرأت مثلًا قصيدة شوقي:
سَلُوا قَلْبِي غَدَاة سَلا وتَابا ** لعلّ على الجمالِ له عِتَابا
وجدتَ التقفية تحتّم أن تنتهي أواخر الأبيات بألف بعدها باء وألف، وأنّ ذلك يلتزم في نهاية كلّ بيت من أبيات القصيدة، بل إنّ ذلك التزم أيضًا فيه شطري مطلع القصيدة وهو ما يسمى (التصريع)، وكذلك الأمر إذا قرأتَ أيّة قصيدة جاهلية أو إسلامية تجري على حدود عمود الشعر.
أما الفاصلة فلا تلتزم بشيء من ذلك؛ إذ تراها تجري في عدد من آيات السورة على نمط، ولكنها سرعان ما تتحول عنه إلى نمط آخر، وفي خلال جريها على نمط واحد قد يكون الالتزام مقصورًا على حرف المدّ فقط، كما في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة: 7، 8].
وقد يكون بصفة من صفات الحرف كصفة الضّيق -والمقصود تضييق الفم بتقريب الأسفل من الفكّ الأعلى أثناء النطق- كالنظر إلى الواو كما لو كانت من قبيل الياء، كما في قوله تعالى بعد ذلك: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[البقرة: 9].
2- في كثير من السّور القرآنية لا يكون هناك التزام بشيء بعد حرف المد، كما في سورة الحج، فإذا قرأت هذه السورة مثلًا وجدت فواصل الآيات لا تحمل أيّ شبه بالتقفية؛ لأن فواصل الآيات تتمثل في الكلمات الآتية: عظيم- شديد- مريد- السعير- بهيج- قدير- القبور- منير- الحريق- للعبيد- المبين- البعيد- العشير- ما يريد- ما يغيظ- من يريد- شهيد- ما يشاء- الحميم- الجلود- حديد- الحريق- حرير- الحميد- أليم- السجود- عميق- الفقير- العتيق- الزور- سحيق- القلوب- العتيق- المخبتين- ينفقون- تشكرون- المحسنين- كفور- لقدير- عزيز- الأمور- ثمود- لوط- نكير- مشيد- الصدور- تعدون- المصير- مبين- كريم- الجحيم- حكيم- بعيد- مستقيم- عقيم- النعيم- مهين- الرازقين- حليم- غفور- بصير- الكبير- خبير- الحميد- رحيم- لكفور- مستقيم- تعملون- تختلفون- يسير- نصير- المصير- المطلوب- عزيز- بصير- الأمور- تفلحون- النصير.
وهكذا جاءت نهايات الآيات على النحو التالي:
اء -1 يد-12
وب-2 ور-8
يج -1 ير-17
ود-3 يق-6
يم-12 يز-2
ون-6 وط-1
ين-6 يظ-1
المجموع: 78
وانظر إلى فواصل سورة الرعد تجد الواو والنون قد ختمت الآيات الخمس الأُولى، ثم عدلت الفواصل التالية عن ذلك فلم تلتزم إلَّا ألِف المدّ، مع قطع النظر عمّا يتلوها من الحروف التي تختتم بها الآيات، فتجد من ذلك: العقاب- هاد- بمقدار- المتعال- بالنهار- وال- الثقال- المحال- ضلال- الآصال- القهار- الأمثال- المهاد- الألباب- الميثاق- الحساب- الدار- باب- الدار- متاع- أناب.
ثم تأتي كلمة (القلوب)، ثم تعود الألِف مرة أخرى فنجد: مآب- متاب- الميعاد- عقاب- هاد- واق- النار- مآب- واق- كتاب- الكتاب- الحساب- الحساب- الدار- الكتاب.
ويسود هذا التباين بين الفواصل في سورٍ كثيرة من القرآن منها: آل عمران- هود- إبراهيم- مريم- النور- لقمان- فاطر- الصافات- ص- الزمر- غافر- فصلت- الذاريات- الواقعة- الحشر- المعارج- المدثر- القيامة- المرسلات- النازعات- عبس- التكوير- الانفطار- الانشقاق- الطارق- الغاشية- الفجر- البلد- الشرح- العلق- وغير ذلك من قصار السور.
ولسنا نجد شيئًا مما التزمت به الفواصل القرآنية يصلح أن يكون قافية؛ فالواو والميم في الشعر لا تناسب الياء والنون، ومن ثمّ لا تُقَفِّيها، وكذلك لا يكفي للقافية أن تعتمد على وجود المد الضيق قبل الحرف الأخير من البيت مع حرية اختيار هذا الحرف الأخير؛ فكلمة: (أمين) لا تقفو كلمة: (إدريس)، ولا تُعَدُّ إحدى هاتين الكلمتين قافية بعد كلمة: (نوح) على رغم ضيق المدّ في هذه وتلك، وكذلك لا يكفي للقافية أن يكون الحرف الأخير ألِفًا مطلقة، فلا يُعَدُّ من التقفية توالي كلمات مثل: عجبًا- همسًا- تسليمًا- كثيرًا- أصيلًا- عزيزًا، كما في سورة الأحزاب.
ومغزى كلّ ذلك: أنّ مَطَالِب الفاصلة تختلف اختلافًا تامًّا عن شروط القافية، ومع ذلك تأتي الفاصلة في نهاية الآية لتحقِّق للنصّ جانبًا جماليًّا لا تخطئه الأُذن؛ لأننا مهما يكن من أمرٍ نَحسُّ أنها تُضفي على النصّ قِيَمًا صوتيةً منتظمةً، فينقسم سياق النصّ بها إلى وحدات أدائية تُعدّ معالم للوقف والابتداء، وتتضافر مع الإيقاع الذي سبق شرحه فينشأ من تضافرهما أثرٌ جماليّ يُشبه ما يُخَلِّفُه وزن الشعر وقافيته، ولكنه يمتاز عن ذلك بالحرية من كلّ قيد مما تفرضه الصّنعة على الوزن والقافية.
ولِأَمْرٍ ما كان الوقف على رؤوس الآي مسنونًا إلَّا أن يفسد به المعنى؛ ذلك أنّ الوصل بالقراءة إلى فاصلة الآية يتفق في الغالب من الحالات مع كمية النَّفَس لدى القارئ، فيقف القارئ عنده ليتزود بزاد نَفَس جديد، ويحسّ القارئ مع بلوغ الفاصلة بأنه قد انتهى من إحدى مراحل طريق متواصل تحفُّ به روائق الإيقاع وروائع المعنى من كلّ جانب، وللفاصلة علاقة بالآية التي اختتمت بها، قد تكون على إحدى صورتين:
1. أن تكون الفاصلة جزءًا من سياق الآية لا يتجزّأ، فلا يُتصور معنى الآية إلَّا به، كما في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ * فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}[الأعراف: 74- 79]، فكلّ آية تنتهي بجملة هي جزء من سياق ما قبلها، شديد الارتباط به نحويًّا ودلاليًّا.
2. وقد تأتي الفاصلة بعد تمام المعنى، فتكون تذييلًا للآية أو تعقيبًا على محتواها، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}[آل عمران: 152- 155].
فقوله تعالى: {واللهُ ذو فضلٍ عَلَى المؤمِنِينَ}، وقوله: {واللهُ خبيرٌ بما تعملونَ}، ثم قوله: {واللهُ عليمٌ بذاتِ الصدورِ}، وكذلك: {إنّ اللهَ غفورٌ حليمٌ}، إنما جاء بعد تمام المعنى، فكان تذييلًا للآية، أكسبها جمالًا على جمال أسلوبها، وحدّد معالم كلّ آية وميَّزها عن الأخرى، وأبرز ما لها من مضمونٍ خاصٍّ.
والملاحظ أنّ هناك انسجامًا وتآلُفًا بين مضمون الآية ومضمون التذييل، فليس في القرآن آية يدعو مضمونُها إلى العقاب تنتهي بتذييل من قبيل الرحمة، وليس فيه من آية تتضمن رضوانًا من الله تنتهي بتذييل يهدّد بشدّة العقاب، وهلمّ جرًّا.
والفاصلة قِيمة صوتية تُراعَى في كثيرٍ من آيات القرآن، وربما أدّت رعايتها إلى تقديم عنصر في الجملة عن موقعه أو تأخيره عنه. ولقد يتكلم البلاغيون في أغراض التقديم والتأخير فيوردون من أسباب ذلك أمورًا تدور حول رعاية المعنى، وربما جعلوا الاهتمام بمدلول اللفظ عنوانًا يندرج تحته الكثير من هذه الأمور، وهذا اتجاه لا اعتراض عليه، أما في القرآن فيُضاف إلى ذلك ما يعرف باسم (رعاية الفاصلة)، قارن من ذلك ما يلي:
1. (وينفقون مما رزقناهم). في مقابل: {ومما رزقناهم ينفقون}[البقرة: 3].
2. (وهم يوقنون بالآخرة). في مقابل: {وبالآخرة هم يوقنون}[البقرة: 4].
3. (وكانوا يظلمون أنفسهم). في مقابل: {وأنفسهم كانوا يظلمون}[الأعراف: 177].
4. {فلا يؤمنون إلا قليلًا}[النساء: 46، 155] - {فقليلًا ما يؤمنون}[البقرة: 88].
بل إنّ التقديم والتأخير قد يتناول التتابع التاريخي للأحداث لمناسبة الفاصلة، كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء: 163- 164].
فلقد تقدّم عيسى في الآية على هارون وتقدّم سليمان على داود من أجل الفاصلة {زبورًا}، وجاء موسى آخر الأنبياء ذكرًا من أجل الفاصلة أيضًا {تكليمًا}، حتى عند التفصيل الذي يتسم بسِمة الطّباق نجد: {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}[الأحزاب: 26]، بدل: (وفريقًا أسرتم)، وكذلك نجد: {ففريقًا كذبتم وفريقًا تقتلون}[البقرة: 87]، بدل: (وفريقًا قتلتم).
ومن إخضاع الطّباق للفاصلة أيضًا قوله تعالى: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[النمل: 27] بدل: (أَمْ كَذَبْتَ)، وقوله: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ}[النمل: 41]، بدل: (أَمْ لَا)، فكلّ ذلك من قَبِيل رعاية الفاصلة من حيث هي قيمة صوتية ذات وظيفة جمالية.
والمعروف أنّ اللغة العربية أوسع من النحو العربي؛ لأنّ النحو يَنْظِم المطَّرد، ويَقْصُرُ عن غير المطَّرد، وكلاهما من اللغة. ومن قواعد النحاة أنفسهم قاعدة أصولية تقول: «الشذوذ لا ينافي الفصاحة»، ومن هنا تكون اللغة الفصيحة أرحب من القواعد وحدودها، ولقد نزل القرآن بلسانٍ عربيّ مبين لا بنحوٍ عربيّ مبين، فاتَّسم نَصُّه بسعة اللغة، لا بضيق القواعد النحوية، فهو يهيمن على اللغة كلّها ما اطَّرد منها وما لم يطَّرد.
أضف إلى ذلك أن القراءة سُنَّة متبعة؛ لأن القرآن مرويٌّ عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- الذي تلقّاه عن جبريل -عليه السلام- وقد رواه الصحابة والتابعون ومن تبعهم بالتواتر جمعًا عن جَمْعٍ، وأنّ النصّ المرويَّ ربما تحدى الأصل بالعدول، أو تحدّى القاعدة بالترخُّص، وقد يكون هذا العدول عن الأصل أو ذاك الترخّص في القرينة لرعاية الفاصلة.
ومن المقرّر في النحو أنّ الألِف المطلقة تنوب عن الفتحة والتنوين عند الوقف، ومِن ثمّ يخلو الاسم الذي ينتهي بها من أداة التعريف (ال)؛ لأن (ال) لا تجتمع مع التنوين وقد نابت الألِف عنه، ولكن القرآن يجمع بينهما رعايةً للفاصلة كما في قوله تعالى:
1. {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}[الأحزاب: 10].
2. {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا}[الأحزاب: 66].
3. {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}[الأحزاب: 67].
ولقد تتوالى الفاصلة في آيات متتابعة، ومعناها مع تواليها واحد أو شبه متّحد، وإنما جاء التوالي لغرض لولا رعايته لأجزأَتْ عن ذلك فاصلة واحدة، من ذلك أنّ المؤمنين لا يؤمنون إلا مع رسوخ اليقين بما آمنوا به، ولا بد أن يكون هذا اليقين نتيجة تدبّر ودلالة عقلية، ومن ثمّ فهم يعقلون. أي: أنّ (المؤمنين) (يوقنون) و(يعقلون) و(يؤمنون)، وهذه الألفاظ الأربع تتوالى في موقع الفاصلة في قوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}[الجاثية: 3- 6]، ففي هذه الآيات القرآنية ذكرٌ لبعض الآيات الكونية التي تدركها الحواس، ولكن الإدراك الحسي ليس إلا وسيلة موصلة إلى الحكم العقلي المبني على اليقين والإيمان، وقد عدَّت الآيات القرآنية من ذلك ما يلي:
1. ما في السماوات والأرض من الآيات بصورة عامّة، وهي تتطلّب الإيمان أو تمنحه.
2. خلق الإنسان والحيوان (الدواب)، وهي توصل إلى اليقين.
3. اختلاف الليل والنهار (أي: تواليهما الواحد بعد الآخر) والمطر الذي يحيي الأرض بعد موتها، والرياح التي تهب حينًا وتسكن حينًا آخر، وكلّ ذلك مدعاة للنظر العقلي، ومن ثمّ كان موضوعًا للعلوم الطبيعية.
وأخيرًا يأتي سؤال يقول: هذه هي الآيات الصادقة، فأيّ شيء غيرها يوصل إلى الإيمان؟! وهذا نوع من الإجمال ثم التفصيل؛ لأن رقم 1 يشتمل على 2 و3، فأجمله أولًا وجعله موصلًا للإيمان، ثم سأل عنه آخرًا: أي شيء غيره يوصل للإيمان؟! وبين الإيمان في الآية الأولى، والإيمان في الآية الأخيرة جاءت عناصره مِن يقين وعقل (أي: نظر عقلي).
إنّ بعض الفواصل القرآنية يأتي قبل أن تستكمل الجملة عناصرها النحوية؛ رعاية للطابع النغمي وحفاظًا عليه أن يتخافت بسبب طول الكلام، وليكون أداءُ الفاصلة غرضها أبلغَ وأتمّ.
انظر على سبيل المثال إلى قوله تعالى في فاتحة الكتاب: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة: 2- 4]، أو إلى قوله جلّ شأنه في سورة البقرة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[البقرة: 2- 3]، أو قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي}[طه: 29- 30]، إذ تقدّم المفعول الثاني {وزيرًا} وتأخّر المفعول الأول {هارون} وأصبح {هَارُونَ أَخِي} آية مستقلّة، والتقدير: (واجعل هارون أخي وزيرًا لي من أهلي)، أو قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الروم: 1- 5] إِذْ فصل بين الجار والمجرور والمتعلق مرارًا، أو قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}[الصافات: 41- 44]، أو قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ}[الذاريات: 1- 5]، واقرأ إن شئت سورة الرحمن، أو سورة الواقعة، أو سور الجزأين الأخيرين من القرآن، وستجد هذه الظاهرة شائعة.
ومعنى هذا: أنّ الفاصلة القرآنية لا تدلّ بالضرورة على تمام المعنى، ومِن ثَمَّ تُصبح وظيفتها في القرآن غير نحويّة ولا دلالية، فإذا لم يكن للفاصلة غرض نحوي أو دلالي، فماذا يكون الغرض منها؟! أغلب الظنّ أنّ الغرض منها جماليّ يرتبط أشدّ الارتباط بموسيقى النصّ القرآنيّ.
[1] نُشرت في مجلة مجمع اللغة العربية، الجزء الستين، رمضان 1407هـ - مايو 1987م، وأشير في حاشيتها أنها قدمت إلى مؤتمر المجمع في دورته الثالثة والخمسين (1407هـ - 1987م).
وقد أضفنا العنوان الفرعي: (نظرات في الإيقاع والفاصلة) لعنوان المقالة؛ كونها تختصّ بهاتين الظاهرتين من الظواهر الصوتية. (موقع تفسير).
[2] (لم أرَ على ظهر جبلٍ سمكة) عبارة تعليمية تجمع الأزواج الثلاثة التي تتكون منها التفعيلة، وهي: السبب؛ وينقسم إلى خفيف وثقيل، والوتد؛ وينقسم إلى مجموع ومفروق، والفاصلة؛ وتنقسم إلى صغرى وكبرى، وتقطيع هذه العبارة عَرُوضيًّا كالتالي: (/0 - //، //0 - /0/، ///0 - ////0)، وأسماؤها على الترتيب: سبب خفيف - سبب ثقيل، وتد مجموع - وتد مفروق، فاصلة صغرى - فاصلة كبرى. (موقع تفسير).
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
03-19-2022
|
#3
|
جزاك الله خير على الطرح
وجعله الله بميزان حسناتك
عناقيد من الجوري تطوقك فرحاً
الله لايحرمنا من جديدك
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
03-19-2022
|
#4
|
جزاك الله خيـر
بارك الله في جهودك
وأسال الله لك التوفيق دائما
وأن يجمعنا على الود والإخاء والمحبة
وأن يثبت الله أجرك
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
03-19-2022
|
#5
|
شكراً يَ ألق
لـِ جمال هذا الانتقاء وَ التقديم
دمتم بخير
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
03-20-2022
|
#6
|
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 12:35 AM
| | | | | |