وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة : الآية رقم 29 من سورة الأحزاب
تفسير الآية
وَإِنْ كُنْتُنَّ لا تردن ذلك، وإنما تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.
أى: وإنما تردن ثواب الله- تعالى- والبقاء مع رسوله صلّى الله عليه وسلم، وإيثار شظف الحياة على زينتها، وإيثار ثواب الدار الآخرة على متع الحياة الدنيا.
إن كنتن تردن ذلك فاعلمن أن اللَّهَ- تعالى- أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ، بسبب إيمانهن وإحسانهن أَجْراً عَظِيماً لا يعلم مقداره إلا الله- تعالى-.
وبهذا التأديب الحكيم، والإرشاد القويم، أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يؤدب نساءه، وأن يرشدهن إلى ما فيه سعادتهن، وأن يترك لهن حرية الاختيار.
ثم وجه- سبحانه- الخطاب إلى أمهات المؤمنين، فأدبهن أكمل تأديب وأمرهن بالتزام الفضائل، وباجتناب الرذائل، لأنهن القدوة لغيرهن من النساء، ولأنهن في بيوتهن ينزل الوحى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال- تعالى-:
» تفسير القرطبي: مضمون الآية
اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه على قولين : الأول : أنه خيرهن بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية أو الطلاق ، فاخترن البقاء ، قالته عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي وابن شهاب وربيعة .
ومنهم من قال : إنما خيرهن بين الدنيا فيفارقهن ، وبين الآخرة فيمسكهن ، لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن ، ولم يخيرهن في الطلاق ، ذكره الحسن وقتادة .
ومن الصحابة علي فيما رواه عنه أحمد بن حنبل أنه قال : لم يخير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة .
قلت : القول الأول أصح ، لقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الرجل يخير امرأته فقالت : قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقا في رواية : فاخترناه فلم يعده طلاقا ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق ، لذلك قال : يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك الحديث .
ومعلوم أنه لم يرد الاستئمار في اختيار الدنيا وزينتها على الآخرة .
فثبت أن الاستئمار إنما وقع في الفرقة ، أو النكاح .
والله أعلم .
واختلف العلماء في المخيرة إذا اختارت زوجها ، فقال جمهور العلماء من السلف وغيرهم وأئمة الفتوى : إنه لا يلزمه طلاق ، لا واحدة ولا أكثر ، هذا قول عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وعائشة .
ومن التابعين عطاء ومسروق وسليمان بن يسار وربيعة وابن شهاب .
وروي عن علي وزيد أيضا : إن اختارت زوجها فواحدة بائنة ، وهو قول الحسن البصري والليث ، وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك .
وتعلقوا بأن قوله : اختاري ، كناية عن إيقاع الطلاق ، فإذا أضافه إليها وقعت طلقة ، كقوله : أنت بائن .
والصحيح الأول ، لقول عائشة : خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعده علينا طلاقا .
أخرجه الصحيحان .
قال ابن المنذر : وحديث عائشة دل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقا ، ويدل على أن اختيارها نفسها يوجب الطلاق ، ويدل على معنى ثالث ، وهو أن المخيرة إذا اختارت نفسها أنها تطليقة يملك زوجها رجعتها ، إذ غير جائز أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما أمره الله .
وروي هذا عن عمر وابن مسعود وابن عباس .
وبه قال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي .
وروي عن علي أنها إذا اختارت نفسها أنها واحدة بائنة .
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه .
ورواه ابن خويز منداد عن مالك .
وروي عن زيد بن ثابت أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث .
وهو قول الحسن البصري ، وبه قال مالك والليث ؛ لأن الملك إنما يكون بذلك .
وروي عن علي رضي الله عنه أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء .
وروي عنه أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية .
ذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء ، والقضاء ما قضت فيهما جميعا ، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة .
قال ابن شعبان : وقد اختاره كثير من أصحابنا ، وهو قول جماعة من أهل المدينة .
قال أبو عمر : وعلى هذا القول أكثر الفقهاء .
والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما ، وذلك أن التمليك عند مالك وهو قول الرجل لامرأته : قد ملكتك ، أي قد ملكتك ما جعل الله لي من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ، فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك ، كان القول قوله مع يمينه إذا ناكرها .
وقالت طائفة من أهل المدينة : له المناكرة في التمليك وفي التخيير سواء في المدخول بها .
والأول قول مالك في المشهور .
وروى ابن خويز منداد .
عن مالك أن للزوج أن يناكر المخيرة في الثلاث ، وتكون طلقة بائنة كما قال أبو حنيفة .
وبه قال أبو الجهم .
قال سحنون : وعليه أكثر أصحابنا .
وتحصيل مذهب مالك : أن المخيرة إذا اختارت نفسها وهي مدخول بها فهو الطلاق كله ، وإن أنكر زوجها فلا نكرة له .
وإن اختارت واحدة فليس بشيء ، وإنما الخيار البتات ، إما أخذته وإما تركته ؛ لأن معنى التخيير التسريح ، قال الله تعالى في آية التخيير : فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا فمعنى التسريح البتات ، قال الله تعالى : الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .
والتسريح بإحسان هو الطلقة الثالثة ، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم .
ومن جهة المعنى أن قوله : اختاريني أو اختاري نفسك يقتضي ألا يكون له عليها سبيل إذا اختارت نفسها ، ولا يملك منها شيئا ؛ إذ قد جعل إليها أن تخرج ما يملكه منها أو تقيم معه إذا اختارته ، فإذا اختارت البعض من الطلاق لم تعمل بمقتضى اللفظ ، وكانت بمنزلة من خير بين شيئين فاختار غيرهما .
وأما التي لم يدخل بها فله مناكرتها في التخيير والتمليك إذا زادت على واحدة ، لأنها تبين في الحال .
واختلفت الرواية عن مالك متى يكون لها الخيار ، فقال مرة : لها الخيار ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض .
فإن لم تختر ولم تقض شيئا حتى افترقا من مجلسهما بطل ما كان من ذلك إليها ، وعلى هذا أكثر الفقهاء .
وقال مرة : لها الخيار أبدا ما لم يعلم أنها تركت ، وذلك يعلم بأن تمكنه من نفسها بوطء أو مباشرة ، فعلى هذا إن منعت نفسها ولم تختر شيئا كان له رفعها على الحاكم لتوقع أو تسقط ، فإن أبت أسقط الحاكم تمليكها .
وعلى القول الأول إذا أخذت في غير ذلك من حديث أو عمل أو مشي أو ما ليس في التخيير بشيء كما ذكرنا سقط تخييرها .
واحتج بعض أصحابنا لهذا القول بقوله تعالى : فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره .
وأيضا فإن الزوج أطلق لها القول ليعرف الخيار منها ، فصار كالعقد بينهما ، فإن قبلته وإلا سقط ، كالذي يقول : قد وهبت لك أو بايعتك ، فإن قبل وإلا كان الملك باقيا بحاله .
هذا قول الثوري والكوفيين والأوزاعي والليث والشافعي وأبي ثور ، وهو اختيار ابن القاسم ووجه الرواية الثانية أن ذلك قد صار في يدها ملكته على زوجها بتمليكه إياها فلما ملكت ذلك وجب أن يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها .
قلت : وهذا هو الصحيح لقوله عليه السلام لعائشة : إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك رواه الصحيح ، وخرجه البخاري ، وصححه الترمذي .
وقد تقدم في أول الباب .
وهو حجة لمن قال : إنه إذا خير الرجل امرأته أو ملكها أن لها أن تقضي في ذلك وإن افترقا من مجلسهما ، روي هذا عن الحسن والزهري ، وقال مالك في إحدى روايتيه .
قال أبو عبيد : والذي عندنا في هذا الباب ، اتباع السنة في عائشة في هذا الحديث ، حين جعل لها التخيير إلى أن تستأمر أبويها ، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجا من الأمر .
قال المروزي .
هذا أصح الأقاويل عندي ، وقاله ابن المنذر والطحاوي .