«وَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيٍّ.. يَدِقُّ خَفاهُ عَن فَهمِ الذَكيِّ».. تسيرُ حياتُنا، نحزنُ ونفرح، نتعبُ ونستريح، نتقدمُ ونتعثر، ننظرُ إليها، وربما لا نراها، ولا نقرأُ فيها إلا المكتوبَ صراحةً أمامَ أعيُننا، أما المسكوت عنه، فلا نسمعُه، والمحجوب عنا، فلا نراه.
والعجيب، أن الإنسانَ دوماً، إلا مَنْ رَحِمَ ربُك، يتلهفُ دوماً نحو المفقود، ولا يتذكرُ ذلكَ الموجود، فيُلهيه هذا الانتظارُ الطويلُ عن تذكرِ النعم العظيمة التى يحيا فيها، ليلَ نهار.. قال تعالى: «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ».
نعمةٌ واحدةٌ، وبرغمَ ذلكَ، قال ربُنا: «تَعُدُّوا»، فكيفَ ذلك، وهى واحدة ؟ الحقيقة أن كلَ نعمةٍ، هى فى حقيقتها مجموعةٌ من النعم، فالماء نعمةٌ عظيمة، نعمةٌ أنه موجود (نعمة الإيجاد)، ونعمةٌ أنه، وقد وصل عندى (نعمة الإمداد)، ونعمة أنه سرُ الحياة، فبدونه تموتُ كلُ الكائنات، ونعمةٌ أنه مصدرٌ من مصادرِ السعادة (وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِي) وغير ذلك كثير.
«إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ».. مَنْ هذا الكنود؟ هو الذى يُعددُ المصائب، وينسى النعم! جريمةٌ كُبرى يرتكبُها الإنسانُ، أخطرُ ما فيها إساءةُ الأدبِ مع الله.
أيها الإنسانُ، تذكرْ أن اللهَ لطيفٌ بعبادِه، وتذكرْ فضلَه عليك، قال تعالى: «وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا».
لا تعشْ فى الدنيا، تلهثُ وراء سراب، فالسعادةُ معك، والخيرُ بينَ يديك، أنت اليوم تحيا، غيرُك مات، أنت الآنَ صحيحٌ، غيرُك سقيم، أنت الآن عندَك الزوجة والولد، غيرُك محرومٌ منهم، حتى مَنْ حُرم هذه الأشياءَ، عندَه غيرُها، فالله تعالى هو العدل ، فلماذا الحزنُ؟ وفِيمَ الشكوى؟ «كَــمْ تَــشْــتَــكِــى وَتَــقُــولُ إِنَّــكَ مُــعْــدِمُ.. وَالْأَرْضُ مِــلْــكُــكَ وَالــسَّــمَــا وَالْأَنْــجُـمُ هَــشَّــتْ لَــكَ الــدُّنْــيَــا فَــمَـا لَـكَ وَاجِـمًـا.. وَتَـــبَـــسَّـــمَـــتْ فَـــعَـــلَامَ لَا تَـــتَــبَــسَّــمُ»
خرجَ الرجلُ الفقيرُ من بيتِه، يبحثُ عن عملٍ إلى جوارِ عملِه، فقد ضاقَ رزقُه، وتعثرَتْ معيشتُه، قضى أوقاتاً طويلةً يبحثُ دونَ جدوى، ومضت أيامٌ، وفى كلِ يومٍ، يعودُ إلى بيتِه ساخطاً غاضباً، يلعنُ حظَه، ويتحسرُ على نصيبِه من الدنيا، وقد نَسيَ هذا الفقيرُ، أموراً شديدةَ الأهمية، بل شديدةَ الخطورة:
نسى أن غيرَه أيضاً خرجَ باحثاً عن الشىء نفسِه، لكنه لم يعد، فقد فارقَ الحياةَ نفسَها، وهو فى طريقِه.
نسى هذا الناقمُ الساخط، أنه عادَ إلى بيتٍ، كائنٍ فعلاً، جُدرانٍ تحمى وتستر! وأبناء يضحكون!
يا الله ، لقد نسيتَ أيها الإنسانُ، وما أنساك إلا الشيطانُ، أهمَ الأشياء، ومعها نسيتَ حالة الرضا، التى كانَ لزاماً عليك، أن تكونَ عليها.
هو اللهُ اللطيف، وإذا أرادَ «اللطيفُ» أن يصرفَ عنك السوءَ، جعلك لا ترى هذا السوء، أو ربما جعلَ السوءَ لا يعرفُ إليك طريقاً، أو ربما جعلكما تلتقيان، وتنصرفان عن بعضِكما، وما مسّك منه شىء!
اسمُ اللهِ تعالى ، اللطيف، لو تأملتَه وتدبرتَه، لأيقنتَ أن لا مستحيل فى هذه الدنيا، وأن اللهَ قادرٌ على كلِ شىء، يأتى بعظائمِ المقادير، التى يستبعدُها عقلُك، وتتيقنُ معها أن حولَك وقوتَك ضئيلان ضعيفان، فتنظرُ إلى السماءِ، وتقولُ بإيمانٍ صادقٍ، لا ينازعُه شكٌ: «اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ».
لقد قصوا علينا حكايةَ رجلٍ فقير، يرعى أمَه وزوجتَه وأولادَه، ويعملُ خادماً لدى أحدِهم، مخلصاً فى عملِه، على الوجهِ الأكمل، إلا أنه، ذاتَ يومٍ، تغيب عن العمل، فقال سيدُه فى نفسِه: لابد أن أُعطيه ديناراً زيادةً، حتى لا يتغيبَ عن العمل، فلربما كان غيابُه طمعاً فى زيادةِ راتبه، لأنه يعلمُ بحاجتى إليه، وبالفعل حين حضرَ العاملُ، فى اليوم التالى، أعطاه راتبَه، وزاد عليه الدينار، لم يتكلمْ العامل، ولم يسألْ سيدَه عن سبب الزيادة، وبعدَ وقتٍ غيرِ بعيد، غاب العاملُ، مرةً أخرى، فغضبَ سيدُه غضباً شديداً، وقال: سأُنقصُ الدينارَ الذى زدتُه، وأنقصه، ولم يتكلمْ العاملُ أيضاً، ولم يسألْه عن نُقصانِ راتبِه، فتعجبَ الرجلُ مِنْ رَدة فعل الخادم، وسأله: زدتُك فلم تسألْ، وأنقصتُك فلم تتكلمْ! فقال العاملُ: عندما غبتُ، المرةَ الأولى، رزقنى اللهُ مولوداً، فحين كافأتنى بالزيادة، قلتُ: «هذا رزقُ مولودى، قد جاء معه»، وحين غبتُ المرةَ الثانية، ماتت أمى، وعندما أنقصتَ الدينارَ.. قلتُ: «هذا رزقُها، قد ذهبَ بذهابها».
بسيطةٌ هى الحياة، وأقلُ من أن تشغلَنا وتُحزنَنا وتُبكينا.. ستمضى حتماً، بمُرها، وستمضى بحُلوها، ستمضى حتماً، فلا تجزعْ، ولا تبتئسْ، فليست هى النهاية.. فقط، كُنْ مع اللهِ ولا تُبال، وامددْ إليه يدَك فى ظُلماتِ الليالى، وقل: «يا ربُ، ما طابت الدنيا إلا بذكرِك، ولا الآخرةُ إلا بعفوك، ولا الجنةُ إلا برؤيتك».
هو اللطفُ الخفى، الذى يسوقُ اليُسرَ مع العسر، ويَزفُ البشارات، ونحنُ غارقون فى الأزمات.. هو الرحمنُ الرحيم، كلُ شىء عندَه بقَدرٍ معلوم، قال سبحانه: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ»، فالعسرُ لا يدوم، وسيفتحُ اللهُ باباً كُنتَ تحسَبُه، من شدةِ اليأس، لم يُخلقْ بمفتاح. حقاً: «وَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيٍّ.. يَدِقُّ خَفاهُ عَن فَهمِ الذَكيِّ وَكَم يُسرٍ أَتى مِن بَعدِ عُسرٍ.. فَفَرَّجَ كَربَهُ القَلبُ الشَجيِّ وَكَم أَمرٍ تُساءُ بِهِ صَباحاً.. وَتَأتيكَ المَسَرَّةُ بِالعَشيِّ». لكم خالص تحياتى وتقديرى الدكتور علـى