توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (4)
توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (4)
الحديث الرابع
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبِي صلى اللهُ عليه وسلم قال: ((لا تُنكحُ الأيِّمُ حتى تُستأمرَ، ولا تُنكحُ البِكرُ حتى تُستأذنَ)) قالُوا: يا رسُولَ الله، وكيف إذنُها؟ قال: ((أن تسكُت))[1].
توجيهات وتحقيقات الحديث:
((الأيِّم)) تأيَّمَت المرأةُ وتأيَّم الرجل: طلب العزوبةَ كل منهما، وورد أنه صلي الله عليه وسلم كان يتعوّذ من الأيمة، وتقول: هي أيِّم، ما لها من قيِّم.
قوله صلي الله عليه وسلم: ((تُستأمر))؛ أي: يُطلب أمرُها، وتَأمُر هي بذلك وترضى.
((البِكر)) والبِكْر لغة: العذراء التي لم يمسَّها رجلٌ.
قال ابن منظور: البِكْر: الجاريةُ التي لم تفتضَّ، وجمعُها أبكار، والبِكْر من النساء: التي لم يَقربها رجلٌ، ومن الرجال: الذي لم يقرب امرأةً، والجمعُ أبكار، وامرأة بِكْر: حملَت بطنًا واحدًا، والبِكْر: العذراء، والمصدر البَكارة - بالفتح - والبِكْر: المرأة التي ولَدت بطنًا واحدًا، وبِكْرُها وَلَدُها، والذَّكر والأنثى في هذا سواء[2]. اهـ
وأمَّا البِكْر في اصطلاح الفقهاء: فالمراد بها المرأةُ التي لم يمسَّها رجل، حتى لو زالت بكارتُها بغير وَطْء، فهي بِكْر إجماعًا عندهم، فإن وَطئها رجلٌ في نكاحٍ صحيحٍ أو فاسدٍ أو شُبهة نكاح، فهي ثيِّب إجماعًا، وفيمن زالَت بكارتها بوطء حرامٍ – أي: زِنًا - خلافٌ.
وعلى هذا فالبِكرُ عند الفقهاء أخصُّ ممَّا نصَّت عليه معاجمُ اللغة، كما هو الشأن في كثير من دلالات الألفاظ على معناها اللغوي من جِهةٍ، ثم معناها الشرعي أو الاصطلاحي من جهة أخرى.
وعلى هذا فلا يدخلُ في مسمَّى البكر هنا: الرجلُ الذي لم يَطأ امرأةً بعدُ، وإن سمِّي بكرًا، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((البِكر بالبِكر، جَلْدُ مائة، ونفيُ سَنَة))[3].
وكذلك لا تدخلُ المرأة بعد وطئها، فضلاً عن أن تسمَّى بكرًا بعد حملها أو وضعها أوَّل أولادها، إلاَّ ما قيل في الموطوءة بزِنًا، وإن كانت ثيِّبًا لغة.
ولعل تسمية أهل اللغة للمرأة في أوَّل حملٍ لها، أو ولد تضعه بكرًا، إنَّما هو استصحابٌ للاسم الأول؛ لقربِ عهدها به، أو باعتبار عموم التسمية في الأصل: وهو أنَّ أوَّل كلِّ شيء يسمَّى بكرًا، وهذا أوَّل حملٍ لها، وأوَّل ولد تضعه، فسُميَت بكرًا لذلك، والله أعلم[4].
((تُستأذن)): يُطلب إذنُها، وتأذنُ هي بذلك.
وفي ((تُستأمر))، ((تُستأذن)) دلالةٌ على أنَّ للمرأة أن تختارَ شريكَ حياتها، وأن توافِق عليه؛ لأن مبدأ الاختيار هذا من خصوصياتها التي ينبغي أنْ تَفصِل فيه بالرأي السديد والعقلِ الراجح.
وهذا يضربُ بتقاليد الجاهلية عُرْضَ الحائط، ولا يأبه لها؛ فقد كانت المرأة مهضومةً ليس لها حقٌّ ولا رأيٌ ولا اختيارٌ.
ومعلوم أنَّ المرأة إنسانٌ ينبغي أنْ تكون ذات رأيٍ في أخصِّ ما يخصُّها؛ وهو اختيارُ الزوج، ما دامت ذات عقل راجح، ورأيٍ سديد، وتفكير صحيح، وتقديرٍ للعواقب.
((لا تُنكَحُ الأيِّم حتى تُسْتأمر)): إنْ كانت المرأةُ بالغةً عاقلة ثيِّبًا، لا يصحَّ لوليِّها أن يُزوِّجها دون استشارتها ودون أن تُستأمر؛ أي: يُطلب منها معرفة رأيها في هذا الأمرِ صراحةً، وتجيب بلسانها عن رضاها.
((ولا تُنكحُ البِكرُ حتى تُستأذنَ)): أمَّا إذا كانت بكرًا فعلى وليِّها أن يستأذنَها، ولا بُدَّ من معرفة رضاها، ولو عن طريقِ السكوت وعدمِ الاعتراض.
قالُوا: يا رسُولَ الله، وكيف إذنُها؟ قال: ((أن تسكُت)).
وفيه أنه لا بُدَّ من طلب الأمر من الثيِّب، فلا يُعقدُ عليها حتى يَطلُب الوليُّ الأمرَ منها بالإذن بالعقد، والمرادُ من ذلك اعتبارُ رضاها، وهُو معنى أحقيَّتها بنفسها مِن وليِّها في الأحاديث[5].
وجاء عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الثيِّبُ أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبكرُ تُستأمرُ، وإذنُها سُكُوتُها))[6].
وفي رواية: ((الثيِّبُ أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبكرُ يَستأذنُها أبُوها في نفسها، وإذنُها صُماتُها))، ورُبما قال: ((وصمتُها إقرارُها))[7].
وفي رواية: ((الأيِّمُ أحقُّ بنفسها من وليِّها، واليتيمةُ تُستأمرُ، وإذنُها صُماتُها))[8].
وفي رواية: ((ليس للوليِّ مع الثيب أمرٌ، واليتيمةُ تُستأمرُ، وصمتُها إقرارُها))[9].
وعند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البِكْر تُسْتأَمر، والثيِّب تُشاوَر))، قيل: يا رسول الله، إن البكر تَسْتحي؟ قال: ((سُكوتُها رِضاها))[10].
قوله صلي الله عليه وسلم: ((أن تسكتَ)) مصدرٌ مؤوَّل؛ أي: سكوتها، وهو خبر لمبتدأ مقدَّر؛ أي: "إذنُها سكوتُها"، ويجوز أن تكون مبتدأ، والتقدير: "سكوتُها إذنها"، والأول أولى؛ لأنَّ الإذن هو المتحدَّث عنه، فيكون مبتدأ.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|