(سجآده حمراء وأرائـك الهطول# حصريآت ال روآية عشق)  
 
 

العودة   منتدى رواية عشق > ♬ قِسـم الشّعـر والخوَاطـر ♬ > ♬ عَالم القِصـة والروَايـة ♬

♬ عَالم القِصـة والروَايـة ♬ ثرثرَة وحُروف وكلِمات كوّنت حكَاية على جدَار الزّمن .

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
#1  
قديم 01-17-2024
Şøķåŕą غير متواجد حالياً
Egypt     Female
قَدَاسَة طُهِّرَ | | أَوْسِمَتِي | |
 
 عضويتي » 8
 اشراقتي ♡ » May 2017
 كُـنتَ هُـنا » منذ 7 ساعات (12:09 AM)
آبدآعاتي » 12,339,049
 تقييمآتي » 2506771
 حاليآ في » ☆بعالم الحب يا حب ❤️ ☆
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Egypt
جنسي  »  Female
 حالتي الآن »
آلعمر  » ❤
الحآلة آلآجتمآعية  » عزباء 😄
تم شكري »  1,518
شكرت » 1,553
مَزآجِي  »  1
мч ммѕ ~
MMS ~
 
Q126 الأرملة 1



وقفت تحت رشّاش الماء تستحمّ والفرحة تغمرها، الماء ينساب من الصّنبور الذي يعلوها، يمرّ على رأسها وينحدر بفوضى عارمة على جسدها، داعبته وكأنّها في نزال معه، ترجع رأسها قليلا إلى الخلف، لتفسح المجال لصدرها كي يتلقّى ضربات الماء الخفيفة المنعشة، استذكرت أمطار الرّبيع التي تتساقط برشاقة وهدوء؛ لتنبت ما في باطن الأرض، فتكتسي الأرض بحلّة خضراء، لا تلبث أن تنطلق منها أزهار تتباهى بألوانها المختلفة، وبعبق الرّوائح العذبة التي تملأ الجوّ عذوبة، كانت تدندن بأغاني حبّ تراثيّة وأخرى حديثة تشاهدها وتسمعها على شاشة التّلفاز، خيال زوجها يقف أمامها باسما، هو المشهد نفسه الذي لا ولن يغيب عن ذاكرتها عندما دخل عليها باسما ليلة زفافهما وقريباته يحطن به يرقصن، يغنّين ويزغردن، بينما زميلاتها وبنات جيلها يسترقن نظرات إليها وإليه ويتهامسن، وكلّ واحدة منهنّ لها حساباتها الخاصّة، بينما قلبها هي يرقص طربا، نسيت نفسها تحت صنبور الماء، راود خيالها أن تكون عروسا لزوجها هذه الليلة، تماما مثلما كانت ليلة دخلتها التي لن تتكرّر مرّة ثانية، وهنا ضحكت من لواعج قلبها، وهي تفكّر بغباء من يقولون أنّ ليلة العمر لن تتكرّر، فهي أدرى بالحبّ الذي يجمعها مع زوجها الحبيب، فكلّ أيّامهما أيّام زفاف، ولياليهما ليالي دخلة، صحيح أنّهما أنجبا طفلا وطفلة، أدخلا الفرح إلى قلبيهما، وزاداهما حبّا وسعادة، لكنّ هذا لا ينفي أنّهما لا يزالان عروسين، تمنّت لو أنّ زوجها الحبيب عودة الفالح في البيت؛ ليستحمّا معا، ولينعما بنعيم هذا اليوم الدّافئ، لكنّها ما لبثت أن طردت الفكرة من رأسها وهي تقول"العجلة من الشّيطان". فقالت سأستحمّ، وسأرتدي أجمل الثيّاب، سأعمل تسريحة الشّعر التي يحبّها، سأغطّي رأسي؛ كي أفاجئه عندما تحين ساعة اللقاء بتسريحة يوم الزّفاف ذاتها، سأرشّ على جسدي ما طاب من عطر العنبر، الذي يشدّه إليّ كما يجذب المغناطيس الحديد. وهنا ضحكت وهي ترى نفسها مغناطيسا، لكنّها لم تستسغ أن تصف زوجها الحبيب بالحديد، فوجدت مخرجا لنفسها وهي تتذكّر عضلاته المفتولة وهو يضمّها إلى صدره، وينهال على شفتيها بقبلات كما الشّهد، فيقول لها:

- لشفتيك نكهة الكرز النّاضج.

تبادله القبلة بأخرى أكثر حرارة منها وتقول:

- ولشفتيك طعم عسل الملكات.

تخيّلته وهو ينحدر من شفتيها إلى عنقها، وإذا بصراخ ينطلق من بيت حمويها المجاور، أغلقت صنبور الماء؛ لتسترق السّمع، ميّزت صوت حماتها وهي تصرخ بعالي الصّوت:

- يا حسرة قلبك يا أمّ عودة!

اهتزّ كيانها، ارتجفت، ارتدت ملابسها على عجل وهي تردّد:

- استر يا ربّ.

خرجت من بيتها حافية القدمين، يهرول الجيران نساء ورجال إلى بيت حمويها، سألت عمّا يجري وعن سبب هذا الصّراخ، لم تسمع جوابا، دخلت بيت حمويها وإذا حماتها قد شقّت ثوبها، وأنزلت غطاء شعرها، تشدّ شعرها بقوّة وكأنّها تخلعه، وتارة تلطم على خدّيها، سمعتهم يقولون بأسى:

- مات عودة بجلطة قلبيّة!

جمدت مكانها، ارتبط لسانها، لم تعد قادرة على قول شيء، ثوانٍ قليلة وسقطت مغشيّا عليها.

تصحو لاهثة والنّساء يحطن بها في محاولة منهنّ لإنعاشها، لكنّها لا تلبث أن تدخل في إغماءة أخرى.

عندما استدعوا الإسعاف، أعطاها الطّبيب حقنة في الوريد، طلب من الأخريات أن يبتعدن عنها؛ كي تستطيع التّنفّس، مدّدوها في زاوية الغرفة، إحدى الجارات وضعت رأسها في حضنها وهي تقول:

- أعانك الله على مصيبتك يا وردة! اللهمّ أبعد عنّا شرّ ساعة الغفلة.

غفت حوالي نصف ساعة بفعل الحقنة المهدّئة، استيقظت ناعسة غير قادرة على الكلام، نظرت إلى وجوه النّساء ولم تقل شيئا، كانت محطّ أنظار جميع الحاضرات، تماما مثلما كانت يوم زفافها، لكنّ النّواح هذه المرّة حلّ مكان الغناء، ولطم الخدود بدل الرّقص والتّصفيق، استجمعت قواها ولطمت خدودها، امرأة تمسك بيديها كي لا تؤذي نفسها، خلعت خصلا من شعرها، جرفت خدودها بأظافرها، وهي لا تستوعب ما يجري.

هرع الرّجال إلى مستشفى المقاصد الخيريّة حيث وضع جثمان عودة في ثلّاجة الموتى بعد أن أكّد الأطبّاء وفاته.

لم يفهم طفلا عودة ما حدث، فسامي ابن ثلاث سنوات، وشقيقته فاطمة رضيعة في شهرها التّاسع، عندما اقترب سامي من والدته قالت لها الجارة:

- اهدئي يا وردة؛ كي لا تخيفي ابنك.

وهنا قالت حزينة وهي تلتفت لطفلها:

- يا حسرة قلبي! من أين سيأتينا الهدوء بعد عودة؟

مدّت يدها اليمنى إلى طفلها فألقى رأسه على صدرها وصرخ.

مسّدت بيدها على رأسه وقالت:

- لا تخف يا حبيبي.

في صدر الغرفة تسند أمّ عودة ظهرها على حائط الغرفة، فقد سقطت عن الكرسيّ، بعد أن حقنها الطّبيب المسعف بحقنة مهدّئة، نامت وعلا شخيرها، قالت جارتها أمّ محمد:

- نسأل الله أن يهوّن عليها معاناتها، فهي امرأة تقيّة، ولا يليق بها الحزن خصوصا في شيخوختها.

عندما هدأ شخير أمّ عودة، اقتربت منها أميمة شقيقة وردة التي هرعت باكية من بيتها في شعفاط فور سماعها بالخبر المؤلم، أمسكت يدها تجسّ نبضها، ووضعت أذنها قريبا من أنفها ومن فمها المفتوح؛ لتتأكّد أنّها على قيد الحياة وتتنفّس، وقالت:

- خفتُ أن تكون قد فارقت الحياة بعد أن هدأ شخيرها.

وردة لا تزال تحت تأثير الأدوية المهدّئة، بدت وكأنّها محنّطة لا تقوى على الحركة، وجهها أصفر، عيناها ناعستان، تضع يدها على ابنها سامي الذي غفا مرعوبا على صدرها، سألت عن رضيعتها فاطمة، انتبهت لسؤالها شقيقتها أميمة، فشرعت تبحث عنها، وأخيرا وجدتها في بيت والديها، حملتها بحضنها، وانزوت في زاوية الغرفة ترضعها بعد أن غطّت صدرها بمنديل.

********

أخلى الرّجال المنزل، قرّروا أن يجلسوا بعد صلاة العصر في ساحة مسجد المئذنة الحمراء القريب من البيت في حارة السّعديّة في القدس القديمة، فهكذا اعتادوا، فمن لا يتّسع بيته لهكذا مناسبات فإنّه يلجأ إلى ساحة المسجد.

بعد خروج الرّجال من البيت، وجدت النّساء متّسعا لهنّ في بيت الفقيد وبيت والده، في ساحة الحوش التي تشكّل مركز توزيع للبيوت التي يحتويها الحوش، وهي المكان الذي يسهر الرّجال فيه عند المساء، بينما تتسامر فيه النّساء نهارا بعد أن تنهي كلّ واحدة منهنّ أعمالها المنزليّة، يحتسين القهوة وبعضهنّ يدخّنّ الأرجيلة.

جلس أبو عودة أمام المسجد ساندا ظهره إلى الحائط دون كلام، تعيده أحزانه إلى ذكريات من مضوا من أبناء الحيّ، وتقبّل ذووهم العزاء بهم في هذا المكان، تمنّى لو أنّ الموت عاجله قبل عودة، فلذة كبده، لكنّ الموت لا يستأذن أحدا، ولا يقبل أن يفتدي أحدهم غيره. لم تسعفه قواه أن يذهب إلى مستشفى المقاصد مع من ذهبوا غير مصدّقين الخبر الفاجع بوفاة عودة.

أراد أحد الشّباب الموجودين أن ينتشل الحاجّ أبا عودة من أحزانه فسأله:

- هذا المسجد المقام في حارتنا لِمَ يسمّونه مسجد المئذنة الحمراء يا عمّ؟

التفت إليه الحاجّ أبو عودة ولم يجبه، لكنّ إمام المسجد قال:

- " هذا المسجد يا ولدي مسجد أثريّ يعود تاريخه إلى الحقبة العثمانيّة في فلسطين. يقع -كما ترى- داخل أسوار البلدة القديمة لمدينة القدس، في حارتنا، حارة السّعديّة، وقد بني عام 1533م. أُطلق على هذا المسجد في النّصف الأوّل من القرن السّادس عشر اسم "مسجد الشّيخ علي الخلوتي"، نسبة إلى من بناه على حسابه الخاصّ، ثمّ أُطلق عليه أهل القُدس اسم "مسجد المئذنة الحمراء" نسبة إلى شريطٍ أحمر كان يُحيط شرفة مئذنته من الأعلى.

عاد الشّابّ يسأل:

- لِمَ بنوه على مقربة من المسجد الأقصى؟

ردّ إمام المسجد بلهجة الواثق:

- في القدس القديمة مساجد عديدة، فهناك مسنّون لا يقوون على الوصول إلى المسجد الأقصى، فبنيت مساجد في حاراتهم؛ ليؤدّوا صلواتهم فيها دون عناء، وكما تعلم يا ولدي، بيت المقدس وأكنافها كلّها مقدّسة وتطالها بركات الأقصى المبارك.

وهنا دخل عمر وسليمان شقيقا المرحوم عودة، ومعهما رهط من الشّباب، وقفوا أمام أبي عودة وقال عمر متصنّعا القوّة مع أنّ دموعه خانته:

- القبر جاهز يا أبي في مدفن العائلة في المقبرة اليوسفيّة، تمّ تغسيل وتكفين عودة في مستشفى المقاصد، وسنحضر جثمانه للصّلاة عليه بعد صلاة المغرب في المسجد الأقصى؟

قال أبو عودة وهو يكاد يختنق بدموعه:

- لم يعد وقت يا بنيّ، اتركوه في ثلاجة مستشفى المقاصد حتى يوم غد.

تدخّل إمام المسجد وقال:

- رحم الله فقيدكم يا أبا عودة، وألهمكم الصّبر والسّلوان، فإكرام الميّت دفنه، ولا داعي لتأخيره ليوم غد.

عندما لم يعترض أبو عودة على كلام إمام المسجد، أضاف الأخير موجّها حديثه لعمر وسليمان ولمن يرافقونهما:

اصطحبا الوالدة والشّقيقات والمحرّمات وأرملة الفقيد؛ ليلقين على وجهه نظرة الوداع الأخيرة في المستشفى، ثمّ أحضروا الجثمان؛ لنصلي عليه بعد صلاة المغرب في المسجد الأقصى، وسنكون في انتظاركم هناك.

يعرف عمر وسليمان أنّ شقيقتيهما موجودتان في المستشفى منذ سمعتا بالحادث، ومعهنّ العمّة والخالتان.

في البيت لم تقوَ وردة أرملة الفقيد على الوقوف، صرخت باكية وهي تلطم خدّيها:

- لا أستطيع أن أراه ميتا في كفن، وإن رأيته سأموت بجانبه، أسأل الله أن يغفر له، وأن يكون في جنّات النّعيم.

أمّا والدة الفقيد فقد قالت وهي تتحشرج بدموعها:

- الله يرضى عليه دنيا وآخرة، لا أقوى على وداعه.

بكت وردة وهي ترضع طفلتها، بينما تطوّق طفلها الذي يجلس بجانبها بيدها اليسرى، وأبكت بواكيا.

******

عندما وصلت سيّارة الإسعاف التي تقلّ جثمان الفقيد إلى باب الأسباط، أوقفها الحاجز الشّرطيّ الاحتلاليّ، لم يسمحوا لها بدخول ساحات المسجد الأقصى، أنزل الشّباب الجثمان من سيّارة الإسعاف؛ ليحملوه على الأكتاف حتّى المسجد القبليّ، لكنّ الشّرطة الاحتلاليّة أنزلوا الجثمان لتفتيشه، قال لهم عمر شقيق الفقيد بلهجة غاضبة:

- الجثمان في كفن، وإن عبثتم بالكفن أو لمستم الجثمان لألعن ط..............

وهنا قال شرطيّ بلسان لا عجمة فيه لعمر:

- رحم الله ميّتكم، لا تغضب.... الآن سأوضّح لهم أن لا يلمسوا الجثمان، والتفت لزميل له وقال بالعبريّة:

- لا تلمسوا الجثمان، فهذا مسّ بمعتقدات دينيّة سيوقعنا بمشاكل نحن في غنى عنها، وأنتم تعلمون ما سيجري في هذه الليلة، فلا تستبقوا الأمور. ابتعدوا عن الجثمان واسمحوا لهم بالدّخول.

سأل عمر الشّرطيّ:

- ماذا سيحصل هذه الليلة؟

التفت إليه الشّرطيّ غاضبا ولم يقل شيئا.

بعد الصّلاة على الجثمان ساروا به إلى القبر، لفت انتباههم الوجود الشّرطيّ المكثّف، عدا عن رجال المخابرات الذين يرتدون الملابس المدنيّة، يضاف إليهم العسس الذين يتظاهرون بالتّقوى وطلب الغفران، بينما هم يرافقون الجثمان تنفيذا لأوامر مسؤوليهم للمراقبة.

بعد الدّفن عاد أهل الفقيد وبعض جيرانهم إلى مسجد المئذنة الحمراء، بعد صلاة العشاء بقوا في ساحة المسجد يتقبّلون العزاء.

لاحظ العسس الذين جاؤوا من مناطق بعيدة؛ ليحتلّوا بعض مفاصل أسواق وأزقّة المدينة للمراقبة أنّ رجالا يدخلون إلى المسجد وآخرون يخرجون، لم يعرفوا سبب ذلك فهم منتشرون في زوايا الشّوارع والأسواق والأزقّة يراقبون أيّ حركة بناء على أوامر صدرت إليهم، اتّصل أحدهم بسيّده وأخبره بوجود حراك مكثّف في مسجد المئذنة الحمراء، فردّ عليه سيّده:

- يا كلب لنا رجال داخل المسجد يراقبون كلّ شيء ويستمعون لكلّ همسة، فهناك عزاء لأحد أبناء الحيّ، راقبوا الطّرقات وابتعدوا عن هذا المسجد.

عند منتصف الليل بدقائق انفضّ مجلس العزاء، وقبل أن يصل بعض المعزّين بيوتهم سُمع صراخ وأزيز رصاص، قال أبو عودة وهم يتمدّد على فراشه:

- استر يا ربّ.

بينما قالت أمّ عودة:

- حسبي الله على "اولاد الحرام لا بناموا ولا بخلّوا النّاس يناموا."

أمّا وردة فكانت تتمدّد وسط طفليها تستعيد شريط ذكرياتها مع زوجها الفقيد، مذهولة لم تسمع شيئا، أو بالأحرى لم تنتبه لشيء.

******

خرج عمر وشقيقه سليمان يستطلعان ما يجري، عادا في ساعات الصّباح منهكين، قال عمر لوالده:

- هذه الليلة 25 سبتمبر 1996 سوداء بكلّ المقاييس، فقد افتتح المحتلّون نفقا يمتدّ تحت المسجد الأقصى من حائط البراق إلى طريق الآلام قريبا من المدرسة العمريّة. وهو نفق أمويّ لكنّهم يسمونه نفق "هحشمانوئيم"، وقد خرج المقدسيّون دفاعا عن مسجدهم المبارك.

ردّ أبو عودة بلهجة الواثق متناسيا أحزانه على عودة ابنه البكر:

- للبيت ربّ وشعب يحميانه.

بعد صلاة العصر عاد الأهل والأقارب إلى مسجد المئذنة الحمراء يستقبلون المعزّين، بينما صوت المتظاهرين يلجلج في أحياء المدينة وبقيّة مدن وبلدات الأراضي المحتلّة، وسط أزيز الرّصاص والغاز الخانق الذي تطلقه شرطة الاحتلال على المتظاهرين في باحات المسجد الأقصى وفي باب العمود، ونين سيّارات الإسعاف مسموع في مختلف شوارع المدينة المقدّسة.

في البيت حيث تتقبّل النّساء العزاء وصلت الدّاعية الإسلاميّة الحاجّة زينب، ترحّمت على الفقيد، داعية له بالرّحمة والمغفرة، نهت النّساء عن لطم الخدود وقدّ الجيوب، التفتت إلى وردة أرملة الفقيد وقالت:

ورد في الصّحيحين عن أمّ عطيّة:" أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: “لا تحدّ امرأة فوق ثلاثة أيّام، إلّا على زوجها، فإنّها تحدّ عليه أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا، إلا ثوب عصب ولا تكتحل، ولا تمسّ طيبا، إلّا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها، بنبذة من قسط أو ظفار."

وأضافت موجّهة كلامها لأرملة الفقيد:

- التزمي بيتك الذي مات زوجك وأنت فيه، لا تغادريه طوال أشهر العدّة.

ولا يجوز لك أن تغادريه إلا لحاجة ضروريّة، مثل العلاج، أو شراء الأشياء اللازمة إذا لم يكن لك من يشتريها، أو الذّهاب إلى عملك الملتزمة به.

فقالت أميمة شقيقة وردة:

تعمل وردة معلّمة في مدرسة دار الطّفل العربيّ.

ردّت الواعظة عليها:

بعد أيّام العزاء يجوز لها الذّهاب إلى عملها، وأن تعود إلى بيتها مباشرة.

عادت أميمة تسأل:

وبعد انقضاء العدّة الشّرعيّة ماذا يتوجّب على الأرملة أن تفعل؟

ردّت الدّاعية الواعظة:

"عند انقضاء العدة، تصبح الأرملة حرّة في أن تتزوّج من تشاء، وأن تخرج من البيت كما تشاء، وأن تلبس وتتزيّن بما تشاء، وأصبح لمن يريدها أن يخطبها صراحة لا كناية، وأن يعزم عقدة النّكاح إن شاء. قال تعالى:

"وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير. وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ ۚ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا ۚ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ."

رغم الحزن الذي يملأ قلب وردة، ويخيّم على بيت العزاء، إلا أنّ شقيقة الفقيد احتجّت على كلام الواعظة وتساءلت:

- ما الدّاعي لهذا الكلام يا سيّدتي؟ هل نحن في عزاء أم في حفل زواج؟

ردّت عليها الواعظة:

- تبيان الحكم الشّرعيّ واجب يا أختي في كلّ زمان وكلّ مكان، وأنا في هذا الموقف الحزين أبيّن ما للأرملة وما عليها حسب شرع الله.

انتشرت الحواجز الشّرطيّة عند بوّابات المدينة المقدّسة، وعلى الطّرقات الموصلة إليها، لم تسمح شرطة الاحتلال بدخول القدس القديمة إلا لساكنيها، ولم تسمح بدخول المسجد الأقصى إلّا لمن هم فوق الخمسين من أعمارهم.

المعزّون من خارج المدينة العتيقة لا يستطيعون الوصول؛ لتقديم العزاء بالمرحوم عودة، حتّى أسرة أرملته وردة لم تستطع المشاركة في العزاء، رغم أنّهم يسكنون في شعفاط على بعد أقلّ من كيلومترين.

أزيز الرّصاص والغازات الخانقة المسيلة للدّموع تجوب سماء المدينة، المواطنون الفلسطينيّون يهبّون دفاعا عن مسجدهم المبارك، الرّجال من أهل الفقيد عودة يتقبّلون العزاء في مسجد المئذنة الحمراء، بينما النّساء يتقبّلن العزاء في بيت الأسرة المجاور للمسجد.

وردة أرملة الفقيد واقعة تحت تأثير حبوب وحقن التّخدير، التي وصفها لها الطبيب، تعيش صدمة تكاد تعقد لسانها، تضع طفلتها في حضنها، تغفو أحيانا وتصحو أخرى دون تركيز، المعزّيّات يزدنها حزنا على أحزانها عندما يواسينها بكلمات تحمل في ثناياها الشّفقة.

في المسجد يستمع أحد الشّباب للأخبار من "ترانزستور" ربطه بسمّاعة في أذنيه، وكلّما سمع جديدا نقله للحاضرين، الذين كانوا يتساءلون عن طبيعة هذا النّفق، الذي جاء في الأنباء أنّه نفق من العصر الأمويّ، وفجأة قال لهم: "هذه مقابلة مع سماحة خطيب المسجد الأقصى حول هذا النّفق، إن أحببتم الاستماع إليها." فالتزم جميعهم الصّمت وهم يركّزون أنظارهم إلى الشّاب الذي يحمل "الترانزستور"، وممّا قاله سماحته:

- " تحتلّ القدس جزءا كبيرا في العقيدة الإسلاميّة. وأكبر دليل حادثة الإسراء والمعراج التي سطّرها القرآن الكريم بين آياته الكريمة. وأضاف: " القدس معتقد دينيّ لا مجال للمساومة عليه أو تغييره مهما حاول الطّرف الآخر تزوير التّاريخ والحقائق والآثار، كما حاول الادّعاء بأن حجارة القصور الأمويّة هي حجارة الهيكل.. وتبيّن أن لا علاقة لها بالهيكل، وأثبتت الحفريّات أن آثار القدس شاهد على الحضارة الإسلاميّة المحضة بامتياز. وحتّى علماء الآثار اليهود ومن بينهم عالم الآثار (دان باهات) أشار إلى أنّ أكثر من 90% من آثار القدس هي إسلامية، و10% هي آثار بيزنطيّة ورومانيّة، ولم يعثر على أيّة آثار يهوديّة أو عبرانيّة فيها، حتّى ما أسموه "نفق الحشمونائيم" ما هو إلا عبارة عن قنوات ماء وأقبية وأنفاق تمّ الرّبط بينها، وهي تعود إلى عصور إسلاميّة ورومانيّة. فالقدس جزء من عبادتنا وعقيدتنا وحضارتنا، يتضاعف فيها ثواب الأعمال، وهي تاريخ وحضارة للعرب والمسلمين ضاربة جذورها في أعماق الأرض لا يمكن التخلّي عنها."

قال إمام المسجد: هذه البلاد لا يعمّر فيها ظالم. وأضاف:

قال رسول الله ﷺ"…وَلَيُوشِكَنَّ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ مِثْلُ شَطَنِ فَرَسِهِ مِنَ الْأَرْضِ حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا."

وهنا سمعوا من المذياع الذي يحمله أحد الشّباب:

أن بطاركة ومطارنة القدس أصدروا بيانا دعوا فيه إلى احترام دور العبادة في القدس، وأكّدوا أنّ المسجد الأقصى هو مكان عبادة مقدّس للمسلمين، ويجب احترام ذلك. كما قاموا بزيارة تضامنيّة للهيئة العلميّة الإسلاميّة، واجتمعوا مع عدد من رجالات الدّين المسلمين.

*****

انتهت أيّام العزاء بالفقيد عودة الثلاثة ، لكن بيوت عزاء أخرى افتتحت في مختلف المناطق لشباب هبّوا دفاعا عن مسجدهم الأقصى المبارك، فسقطوا إلى قمّة المجد شهداء.

انزوت وردة أرملة الفقيد في شقّتها، وكأنّها تعتزل الحياة، لم تعد الحياة تعني لها شيئا، ما عاد اهتمامها بطفليها كما كان قبل رحيل حبيبها والدهم، لم تفهم سبب التّعب والنّوم الذي يداهمها إلّا عندما لفتت انتباهها لذلك شقيقتها أميمة عندما قالت:

- انتبهي يا وردة أنّ الدّواء الذي وصفه لك الطّبيب مخدّر لتهدئة الأعصاب؛ كي يخفّف عليك الأحزان وصدمة الفقد، وهذا سبب الإرهاق والنّعاس المتواصل الذي تعانينة، ولا تنسي أنّك أمّ مرضعة، وقد يؤثّر ذلك على طفلتك الرّضيعة.

انتبهت وردة لما قالته شقيقتها، ولم تعد تتناول إلا حبّة دواء واحدة قبل أن تلجأ إلى فراشها للنّوم ليلا. شريط ذكرياتها مع زوجها الرّاحل لم يتوقّف لحظة واحدة، حتّى أنّه لم يتوقّف أثناء نومها، تبكي حظّها العاثر وشبابها الذي اصطدم بالفقد، في لحظات اليأس تتمنّى لو أنّها لم تعرف زوجها الرّاحل، ولم تحبّه ولم تتعلّق به، ولا تلبث أن تعود لرشدها وهي التي تعلم تماما أنّ الموت حقّ، وأنّ الأحياء جميعهم مصيرهم الموت الذي لا يقتصر على عمرٍ معيّن.

بعد مرور أسبوع على الوفاة تسلّلت إليها جارتها المسنّة أمّ محمّد التي عركتها الحياة، وقالت لها باكية:

اسمعي يا بنيّتي، الحياة والموت ضدّان متلازمان، لكنّهما يكملان بعضهما، و"اللي بشوف مصايب غيره بتهون مصيبته عليه"، فهاهم فتيان في عمر الورود يتساقطون كأوراق الخريف، ويرتقون سلّم المجد شهداء، و"العمر محدود والرّب معبود."

التفتت إليها وردة وقالت:

ليت عودة قضى نحبه شهيدا. وكم تمنّيت لو أنّ الله اختارني لجواره وأبقى عودة على قيد الحياة!

حوقلت المرأة وقالت:

- هذه أمنيات لا تتحقّق، فلا أحد يفتدي غيره، ترحّمي على زوجك الفقيد، وانتبهي لنفسك ولأطفالك. وكما قال تعالى:" كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ"

ردّت عليها وردة بعد أن حمدلت وقالت:

- موت الفجأة مؤلم يا خالة، وليت عودة أصيب بمرض لعدّة أيّام قبل وفاته.

عادت الجارة تحوقل وتقول:

لا تهربي من قدر الله يا وردة، فقد ورد عَنْ أمّ المؤمنين عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ مَوْتِ الْفَجْأَةِ؟ فَقَالَ:" رَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَأَخْذَةُ أَسَفٍ لِلْفَاجِرِ." ففي موت الفجأة عبرة للأحياء؛ كي يرتدعوا عن الأخطاء والخطايا في الدّنيا، فلا أحد يعلم متى تحين ساعته.

صمتت وردة للحظات واستأذنت ضيفتها لغلي فنجاني قهوة لهما، وبينما هما تحتسيان القهوة قالت وردة:

- شكرا لك يا خالة، رغم مرارة الفقد ورغم أحزاني فقد قرّرت أن أعود إلى عملي كمعلّمة، فلا ذنب لطالباتي بما حصل.

ابتسمت الجارة الطّيبة وقالت:

هذا هو الصّحيح يا بنيّتي، فعجلة الحياة تدور باستمرار رغم كلّ التّناقضات والصّراعات فيها.



2

أثناء أيّام العزاء الثّلاثة جلس أبو عبدالرحمن والد وردة على حصيرة بجانب صهره أبي عودة، كلّ منهما يسند ظهره على حائط المسجد، فقد رسمت الشّيخوخة تجاعيدها على وجهيهما، كما سلبت الكثير من قواهما الجسديّة، غلبهما الحزن على الفقيد عودة، لم تنزل دموعهما، فقد تربيّا تربية صارمة تعيب بكاء الرّجال، لكن ما أن يأوي أحدهما إلى فراشه حتّى يتظاهر بالنّوم، فينفجر ينبوع دموعه المكبوتة، ويشعر بعدها براحة تقوده إلى نوم لم يخطّط له.

يتوافد المعزّون لتقديم واجب العزاء، بعضهم لا يعرف والدي عودة ووردة، وبعض من يعرفونهما، يتجاهلانهما وهم يرونهما منزويين على حائط المسجد، فلا يعرفون إن كانا نائمين أو مستيقظين، لكن بالتّأكيد هما مرهقان.

عندما يعود والد وردة أبو عبد الرّحمن إلى بيته في شعفاط، تهاجمه ذكريات دون سابق إنذار، تعود به إلى اليوم الذي ولدت فيه ابنته وردة، يبتسم وهو يستذكر تلك اللحظة التي رآها فيها للمرّة الأولى في مستشفى الهلال الأحمر الفلسطينيّ في القدس، أبهره جمالها، سحرته رائحتها الطّفوليّة؛ فسمّاها وردة، قال لزوجته وقتذاك:

- هل رأيت وردة؟

ردّت عليه مستغربة:

- من هي وردة التي تسأل عنها؟

أجابها باسما: ابنتنا، أسميتها وردة، فعندما اقتربت منها شممت لها رائحة جميلة غير معهودة.

ضحكت أمّ عبدالرّحمن وقالت:

- للأطفال جميعهم رائحة محبّبة تعرفها الأمّهات أكثر من الآباء، لكن ألم نتّفق على أن نسمّيها "ميساء"؟

ردّ عليها بهدوء:

- نعم اتّفقنا على ذلك، لكن اسم وردة يليق بها أكثر، وستبقى وردة ميساء تتبختر وتتمايل.

عندما تذكّر يوم مولدها، وما آلت إليه حالها بوفاة زوجها، انهمرت دموعه حزنا، وتمنّى لو عاجله الموت قبل أن يرى فاجعة ابنته الحبيبة وردة.

بعد صلاة العشاء، استأذن أبو عبدالرّحمن وغادر إلى بيته في شعفاط، وقف في شارع صلاح الدّين حوالي نصف ساعة، مرّت عدّة حافلات ومركبات أخرى دون أن تقف واحدة منها لتقلّه، فسائقو الحافلات ما عادوا يتحمّلون بطء حركة المسنّين. عاد أبوعبد الرحمن بذاكرته إلى أيّام العزّ، أيّام الشّباب التي كان فيها يلاطف الصّغير ويحترم الكبير، ابتسم وهو يتذكّر تلك الأيّام عندما يمرّ بمسنّ يحمل سلّة ملأى بأغراض البيت يسارع إليه؛ ليحملها عنه، سواء كان يعرف ذلك المسنّ أو لا يعرفه، أو كان رجلا أو امرأة، وتساءل إن كانت المروءة قد ابتعدت عن أبناء الأجيال الجديدة. كتم غيظه من سائقي الحافلات، وقرّر أن يتوكّأ على عصاه ويعود إلى بيته في شعفاط راجلا، مشى حتّى نهاية شارع صلاح الدّين، فشعر بقوّة لم يعهدها منذ سنوات، رفع عصاه ووضعها على رقبته رافعا يديه ليمسك بطرفيها، فاعتدلت قامته وازدادت سرعته. عندما وصل بمحاذاة فندق "ماونت سكوبس" من الخلف، وقف أمامه مستوطن يحرس مبنى استولى عليه المستوطنون وسكنوه، وقال المستوطن الذي يمتشق سلاحه:

- خج انت فين بروخ؟

لم يكترث به أبو عبدالرّحمن وواصل طريقه، لحق به المستوطن وهو يشهر سلاحه وسأل:

- خج انت شو بساوي هون؟ هات هويه!

رفع أبو عبد الرّحمن عصاه، هزّها أمام المستوطن مهدّدا وقال ساخرا:

- هئ هئ "الدّار دار أبونا وجا الغربيّه يطحونا"! انقلع يا ولد من أمامي.

تراجع المستوطن وهو يقول:

- خَج انت واخد مجنون!

التفت إليه أبو عبد الرحمن غاضبا وقال:

- وجع يخلع نيعك ونيع اللي خلّفوك، جنون يضربك أنت وللي ربّوك. وواصل طريقه. عندما وصل الدّوّار الذي يلتف شمالا باتّجاه فندق "ماونت سكوبس"، رأى على يمينه ضريحا عليه أسماء القتلى الإسرائيليّين الذين سقطوا في حيّ الشّيخ جراح في حرب حزيران 1967م، وخز الضّريح بعصاه وأطلق وابلا من الشّتائم، وواصل طريقه.

عند مدخل كرم المفتي، انتبه للبناء القديم الذي كان يسكنه الحاجّ أمين الحسيني مفتي القدس والدّيار الفلسطينيّة زمن الإنتداب البريطانيّ، دخل من البوّابة بطريقة عفويّة لم يقصدها، وقف أمام البيت القديم المهجور، طاف حول البيت، انتبه للبناء الذي يعلو الشّارع المجاور حيث المقرّ الذي استعمله الشّهيد عبدالقادر الحسيني قائد الجهاد المقدّس مقرّا له، ضرب كفّا على كفّ عندما رأى نصف البناية القديمة وقد هدم وقامت مكانه بناية للمستوطنين، شعر بلوعة أنزلت دموعه، جلس تحت شجرة معمّرة، وما لبث أن تمدّد ليستريح، وضع تحت رأسه حجرا، وشرع يستعيد ذكريات أيّام مضت، عادت به الذّكريات إلى موسم النّبيّ موسى، عندما كانوا يلتفّون حول الحاجّ أمين الحسيني، وهو يمتطي فرسه حاملا بيرق القدس، وهم يهتفون حوله:

سيف الدّين الحاجّ أمين.

صهيون وش لك عندنا

هذي البلاد بلادنا

بلاد أبونا وجدّنا

ابتسم عندما عادت به الذّاكرة إلى تلك الأيّام التي التحقوا فيها بالثّورة مع عبدالقادر الحسيني، وكيف تدرّبوا على استعمال السّلاح في منطقة جنجس في براري عرب السّواحرة، لكنّه بكى وهو يستذكر ذلك اليوم الذي استشهد فيه القائد عبدالقادر الحسينيّ في معركة القسطل، استند غاضبا عندما تذكّر مذبحة دير ياسين التي حصلت في اليوم الثّاني لاستشهاد البيك، وأتى القتلة بعدد من نساء القرية المسنّات في شاحنة وألقوا بهنّ في شارع المصرارة أمام باب العامود، ليحدّثن النّاس عن المذبحة؛ كي يهربوا من ديارهم خوفا وطلبا للنّجاة.

وقتذاك كان أبو عبدالرّحمن في نهاية العشرينات من عمره، وشارك في تشييع جثمان البيك الذي دفن في باحة المسجد الأقصى قريبا من باب المجلس.

أرهقته ذاكرته، ومع أنّ الجلوس في هذا المكان أعاد إليه روح الشّباب، إلّا أنّه قرّر مواصلة طريقه إلى بيته، فمن غير المعقول أن يمضي ليلته في هذا المكان، خوفا من أن تفتقده زوجته وأبناؤه، لأنّهم إذا افتقدوه سيبحثون عنه ويستحيل عليهم أن يجدوه، فهو في مكان مهجور.

عندما وقف وهمّ بمغادرة المكان، نزل ثلاثة شبّان من سيّارة، دخلوا المكان يترنّحون، ولمّا رأوه أوجسوا منه خيفة، تشاوروا بأمره فقال أحدهم لزميليه:

- هذا عجوز يبدو أنّه سكّير مثلنا قصد المكان؛ ليحتسي الكحول أو ليتعاطى

"الكيف".

مرّ بجانبهم فحوقل وهو يرى أفواههم وقد تساقطت نواجذهم. لم يكلّمهم ولم يكلّموه، لكنّه سمع أحدهم يقول:

- يبدو أنّ هذا العجوز خَرِف.

التفت إليهم بازدراء ولم يقل شيئا، لكنّه تمتم لنفسه" يا حسرة القدس"!

هاتفت وردة والدتها وأخبرتها أنّه غادر بيت العزاء عائدا إلى بيته بعد صلاة العشاء. انتظرته أمّ عبد الرّحمن وعندما تأخّر أخبرت ابنها عبد الرّحمن، وطلبت منه أن يبحث عن أبيه، لكنّ عبد الرّحمن طمأنها قائلا:

- لا تخافي عليه فهو بكامل قواه.

فردّت عليه مضطربة:

- "الخوف من اولاد الحرام اللي ما بناموا ولا بتركوا النّاس يناموا".

ضحك عبد الرّحمن وقال لوالدته:

- "في الصّباح رباح"!

وهنا وصل أبو عبدالرّحمن بيته، فبادرته زوجته سائلة:

- وين هالغيبة؟

فردّ عليها باقتضاب وهو يجلس في صالون البيت:

- خلّيها على الله!

فعادت تسأله: لِمَ تأخّرت؟ هل حدث شيء معك؟

تنهّد وقال: هات فنجان قهوة وروحي نامي.

وهنا سألته: وأنت، ألا تريد أن تنام؟

نظر إليها ولم يتكلّم.



 توقيع : Şøķåŕą





شكرا على التهنئه الملكيه ..
مواضيع : Şøķåŕą


رد مع اقتباس
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
السعي على الأرملة والمسكين Şøķåŕą ۩ إسلامِي هُو سر حَياتي ۩ 50 04-07-2025 08:15 PM
قصة الرجل الصالح مع الأرملة شيخة رواية ♬ عَالم القِصـة والروَايـة ♬ 21 09-14-2024 06:24 PM
تفآخروا بتربية المرآءة / بقلمي الأمير ✯ قِسم المَقالآت الشخصية - الحصرية ✯ 40 11-21-2023 05:03 PM


الساعة الآن 08:04 AM


Powered by vBulletin Hosting By R-ESHQ
HêĽм √ 3.1 BY: ! RESHQ ! © 2010
new notificatio by R-ESHQ
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2025 DragonByte Technologies Ltd.
تنويه : المشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس بالضرورة تمثل رأي أدارة الموقع