قصة بين سوق السمك وسوق الخضار
"تعالَ بكرة الساعة 11 لاستلام الملف"، هكذا كانت كلمات العسكري بعد تقديم أوراق التجنيد. فلما كان من الغد، انطلقت على وجهي كعادتي، وظننت أنني فطن بما فيه الكفاية، فذهبت الساعة 12.
• "السلام عليكم، عايز أستلم الملف".
• "تعالَ الساعة 2 يا أستاذ".
هذه الدولة المستحيلة بحق!!
وإذا بإقامة صلاة الظهر، فذهبت أبحث عن مسجد. سألت شيخًا يبيع التمر: "في مسجد قريب هنا يا خال؟" قال لي: "ادخل في كذا تجد سُلَّمًا بين السمك والخضار!"
فتعجبت، وذهبت أسأل عن السُّلَّم، فأشار إلي أحدهم إلى سلم بين بائعي البصل ومحل السمك والجمبري، وإذا بنفق ينتهي بعد رائحة البوري بسلم تنزل به إلى المسجد، فإذا برجل وحيد في المسجد على وشك إنهاء الصلاة، فنزلت بجانبه، فسلم ثم قال: "صلِّ ركعتين، لسه ما صليناش".
فصليت السُّنَّة بجانبه، وبدأت أراقبه، كان رجلًا لا يظهر عليه أي مظهر من مظاهر التديُّن، ولكن الإيمان يتجسد فيه تجسدًا، تنساب منه ألفاظ الخشوع في السجود، ويتم السجود والركوع والقيام إتمامًا.
أهذا رجل من عامة الشعب أم عالم من علماء الأمة؟ يدري ما معنى الوقوف بين يدي رب الملوك! وأنا أصلي بجانبه، قد أصابني حزن شديد وأنا ساجد وهو ساجد بجانبي، يئنُّ بين يدي ربِّه ويشكو إليه حاله، وأنا بجانبه طالب العلم المثقف، الذي يدرس الفقه وعلوم القرآن والعقيدة، والذي يظن من رآه أنه يقطع الليل تسبيحًا وقرآنًا، قلبي كالحجارة بل أشد قسوة، وصدق القائل: "إنما العلم الخشية".
صدقًا، إن العلم الذي لا يثمر العمل والإنابة إلى رب الأرباب يكون تِرَةً على صاحبه، ومدار ديننا على العمل، ومسألة واحدة تتعلمها فتعمل بها خيرٌ من ألف لا تعمل بواحدة منها، وهذا كان دأب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ولا يخفى عليكم حديث: "تعلمنا الإيمان قبل القرآن".
فأقام الرجل الصلاة، ثم جاء رجل آخر، يبدو من عُمَّال محل السمك الذي بجانب الخضار، والذي يتوسط المسجد بينهما، فصلَّى بجانبي، فازددت غمًّا على غمٍّ؛ الرجل من الخشوع في الصلاة، أحسست أنه يريد ألَّا تنتهي الصلاة، ولا ينتهي من مناجاة ربه وبث شكواه إليه، ويصدق عليه قول الله عز وجل: ï´؟ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ï´¾ [النور: 37].
وأنا أيضًا بجواره كالحجارة، بل أشد قسوة، فأتم بنا الإمام الصلاة، وأتم ركوعها وسجودها، وكأني على مدار سنة لم أصلِّ إلا صلاة المنافق الذي ينقر الصلاة نقرًا، ثم جاءني الشيطان الملعون في الصلاة، وقال لي: "اكتب عن هذا المشهد. يعني لا خشوع ولا كتابة".
فسلمت من الصلاة، ثم أسندت ظهري إلى العمود، وبدأت في الكتابة، وإذا بالرجل الوحيد الذي كتبت المقال من أجله، وهو الإمام، يقول لي: "يلا يا أستاذ علشان هنقفل".
كما قلت لكم آنفًا: "الدولة المستحيلة"، فأتممت هذه الكلمات من أمام مكتب التجنيد، أملًا أن يقول الجندي: "فارس محمد علي، استلم ملفك".
اللهم جنبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وارزقنا الخشوع والإنابة، إنك بكل جميل كفيل، وأنت حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين.