صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في مدينة أوترانتو وبعض مدن ولاية بوليا الإيطالية

أوترانتو[1] - أو أطرانط كما أسماها الدكتور حسين مؤنس[2] - هي مدينة تُطِلُّ على المَضِيق المُسَمَّى باسمها (مضيق أوترانتو)، والذي يصل البحر الأدرياتيكي بالبحر الأبيض المتوسط، ويصل من جهة أخرى البحر الأيوني بالبحر الأدرياتيكي، ويُعَدُّ هذا المضيق حَلَقة وَصْل بين شبه جزيرة البَلْقان - لاسيما ألبانيا المواجهة للجانب الآخر منه - من جهة الشرق، وشبه الجزيرة الإيطالية من جهة الغرب[3].



ومما يجدر التنبيه عليه: ضرورة التمييز بين تارانتو، وأوترانتو؛ فإن تارانتو - أو طارنت في المصادر العربية - هي تلك المدينة الساحلية المُطِلَّة على مياه البحر المسمى بالبحر الأيوني، ولها خليج يسمى باسمها (خليج تارانتو) مفتوح على مياه البحر المذكور.



وليس لدينا في المصادر ذِكْرٌ لتاريخ فَتْح هذه المدينة، ولكن أرشيبالد لويس قد ذكر أن قوات الإمبراطور البيزنطي باسيل الأول استولت على أوترانتو عام 873 م[4]، وقد سبق بيان الأحداث المُصاحِبة لذلك، عند الحديث عن سقوط مدينة باري في أيدي تلك القوات، وحُلفائها من الكارولنجيين، والبَنادِقة.



وذكر أرشيبالد[5] أن مدينة أوترانتو أغارت عليها قوات البحرية الإسلامية الصقلية سنة 977 م، أي في نفس العام الذي أغارت فيه تلك القوات على مدينة تارانتو، كما مَرَّ ذِكْرُه.



جهود العثمانيين في السَّيْطرة على ميناء أوترانتو الحَيَوِي:

لقد كان للعثمانيين صولات وجولات في مضيق أوترانتو، والبحر الأدرياتيكي؛ فقد فتح العثمانيون في زمان السلطان محمد الفاتح رحمه الله تعالى الجزر الواقعة بين بلاد اليونان وإيطاليا، وذلك في سنة 1480 م، ثم بعدها سار القائد كدك أحمد باشا بمراكبه لفتح مدينة أوترانت بإيطاليا؛ لأن السلطان محمد رحمه الله تعالى كان قد عزم على فتح جميع إيطاليا، ويقال: إنه أقسم بأن يربط فَرَسه في كنيسة القديس بُطْرُس بمدينة روما، مَقَرّ البابا، ففُتِحَتْ مدينة أوترانت عَنْوَة في يوم 4 جمادي الثانية سنة 855 ه-، 11 أغسطس سنة 1480م، وصارت قلعة أوترانتو مركزًا لسنجق - أي لواء عسكري - عثماني[6].



وقد استولى البنادقة على أوترانتو سنة 1481م، وبقوا فيها نحو ست وخمسين سنة إلى أن فتحها السلطان سليمان القانوني رحمه الله تعالى بعد عدَّةِ معاركَ بريَّةٍ وبَحريَّةٍ في آفالونيا - وهي بألبانيا- وجزيرة كورفو اليونانية، وبرنديزي بإيطاليا.



ففي مايو سنة 1538 م جمع السلطان سليمان القانوني ببلاد الارنؤوط[7] جيشًا عظيمًا، مُؤلفًا من مائة ألف مُقاتل لشَنِّ الغارة على بلاد إيطاليا، وذلك وفقًا لاتفاق مُبْرَمٍ مع ملك فرنسا في ذلك الوقت فرانسوا الأول على محاربة شارلكان ملك النمسا- وقد كانت أجزاء كبيرة من إيطاليا في ذلك الوقت خاضعة له - وكان مع السلطان سليمان ولداه: محمد، وسليم، وسفير فرنسا المسيو دولا فوري، ونزل في الوقت نفسه خير الدين باشا البحري، المعروف في المصادر الأوروبية بخير الدين بارب روس[8] بميناء أوترانت بجنوب إيطاليا؛ استعدادًا لمهاجمتها من جهة الجنوب، بينما يهاجمها السلطان سليمان من جهة الشرق، وملك فرنسا من جهة الغرب، لكن هياج الرأي العام النصراني ضد تحالف فرانسوا الأول مع الدولة العثمانية، أدى إلى إحجامه عن إكمال الخُطَّة المُتَّفَق عليها[9]؛ خَشْيَة أن يرُمْى بالمُروق عن دينه النصراني، باتحاده مع دولة إسلامية؛ لمحاربة دولة نصرانية تَدِين بدِيْنه، وكان هذا سببًا في عدم نجاح هذا المشروع، الذي كان من نتائجه المُتَوَقَّعة - إن تَمَّ - أن تدخل بلاد إيطاليا بأسرها تحت ظِلِّ الدولة العثمانية، وانتهى الأمر بتوقيع هُدْنَة نيس سنة 1538 م بين فرنسوا ملك فرنسا وشارلكان إمبراطور النمسا، ومُلْحَقاتها[10].



وذكر الكتاني رحمه الله[11] أن الدولة العثمانية فتحت ميناء أوترانتو سنة 1480م واستمرت فيه إلى 1481 م، ثم فتحته مرة أخرى سنة 1715 م.



وما ذكره في الفتح العثماني الأول لها موافق لما تَقَدَّم ذِكْرُه من فتحها في عهد السلطان محمد الفاتح رحمه الله تعالى، وما ذكره في الفتح الثاني لها مخالف لما تقدم ذكره من الفتح الثاني لها في عهد السلطان سليمان القانوني رحمه الله تعالى سنة 1538 م.



وقال الأستاذ محمود شاكر السوري[12]: وفي أيام الدولة العثمانية دخل المسلمون ميناء أوترانتو في الجنوب عام 885 ه- أيام السلطان محمد الفاتح، وبقوا فيه حتى عام 1124 ه-،انتهى.



والصحيح أن السيطرة على المدينة لم تكن خالصة للعثمانيين طيلة تلك المدة كما مَرَّ بيانه.



جرافينا:

ذكر أرشيبالد لويس[13] أن المسلمين نهبوا مدينة جرافينا سنة 975 م.



واري:

ذكر الدكتور حسين مؤنس رحمه الله تعالى[14] أن وادي وارoria في كلابريا قد تَعَرَّض لغارة مشهورة، قام بها أُسطول للدولة العُبَيْدِيَّة أيام المَهْدِي العُبَيْدِي، أي منذ الأيام الأولى لدولتهم، وعادت تلك الغارة بغنائم وفيرة جدًا.



وتقع مدينة واري حسب الخرائط التي أوردها الدكتور حسين مؤنس في كتابه المذكور[15] في إقليم بوليا، في حين أنه نَصَّ هو في الموضع الفائت[16] على وقوعها في إقليم كالابريا كما مرَّ.



ولعل هذه المدينة هي المقصودة في كلام أرشيبالد[17] حين تحدث عن هجوم المسلمين على مدينة أوريو عام 977 م، ولعلها غيرها، فالله أعلم.



السيطرة البيزنطية على إقليم أبوليا:

وقد كانت بيزنطة قد أنزلت جيشًا كبيرًا في جنوب إيطاليا، بقيادة نقفور فوكاس في عام 885 م، مُعْتَمِدة على ما بَلَغَتْه البحرية البيزنطية آنذاك من القوة، وظل ذلك الجيش يعمل بالمنطقة الجنوبية لشبه الجزيرة لمدة عامين، طَوْرًا بالقوة والعنف، وطَوْرًا بالسياسة والحِيْلة، حتى تَمَّ له تدعيم قوة بيزنطة في جنوب إيطاليا في عام 886 م، وانتظمت كل من كالابريا، وأبوليا في أجناد، واعترفت بنفنتم بسلطان بيزنطة، مثلما فعلت مجموعة المدن الكمبانية[18].