تفكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء
كان صلى الله عليه وسلم من هذا المكان في غار حراء يُشاهد الكعبة؛ ذلك البيت المقدَّس الذي يعلم -كما يعلم كل العرب- أنه بيت الله الحرام، وأن له مكانة عند الله وحرمة لا يُدانيها أي مكان آخر في الدنيا؛ ولعلَّ هذا هو السرُّ من وراء اختيار غار حراء تحديدًا؛ لأن الذي يجلس في هذا الغار -وإن كان بعيدًا عن مكة بدرجة كبيرة- يستطيع أن يرى بوضوح بيت الله الحرام من هذا المكان النائي.
ولعلَّ رسولنا صلى الله عليه وسلم كان يتفكَّر -أيضًا- في هذا الغار في طريقة إصلاح هذا المجتمع الفاسد، الذي انتشرت فيه عادات قبيحة كثيرة؛ كان من أهمها السجود للأصنام من دون الله عز وجل، وكذلك طغت كثير من العادات القبيحة على معاملات الناس، فظهر الظلم، والجور، والإباحية، وشرب الخمور، وإهانة طوائف كثيرة من طوائف المجتمع الضعيفة.
ومع أن هذا الاختلاء كان يُريح نفس الرسول صلى الله عليه وسلم من الواقع البغيض الذي كانت تعيشه مكة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل ذلك طوال السنة؛ إنما كان يفعله في أوقات معينة، وكما تقول الروايات أنه كان يختلي بنفسه شهرًا في السنة، وهو شهر رمضان، وبعد البعثة لم يَعُدِ الرسول صلى الله عليه وسلم يختلي في غار حراء؛ ولكنه عاد إلى هذا الاختلاء بشكل مخفَّف في المدينة عندما بدأ سُنَّة الاعتكاف، وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف عشرة أيام في شهر رمضان من كل سنة، أحيانًا تكون العشرة الوسطى، وأحيانًا تكون العشرة الأخير، وأحيانًا أخرى أجلَّها إلى شوال فاعتكف عشرة أيام في شوال.
البخاري: كتاب الاعتكاف
وهو بذلك صلى الله عليه وسلم يفتح بابًا مهمًّا للدعاة لكي يحافظوا على نقاء نفوسهم دون أن يُخِلُّوا بمهمَّتهم؛ فهم يختلطون بالناس ليدعوهم ويعلموهم ويأخذوا بأيديهم، وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: "المُسْلِمُ إِذَا كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ المُسْلِمِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ].
] الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع
ولكن في الوقت ذاته ينبغي للدعاة أن يكونوا حريصين على الاختلاء بأنفسهم، ولو أيامًا معدودة في السنة؛ لكي يُعيدوا ترتيب أوراق حياتهم، ولكي يتفكَّروا في خالقهم، وينظروا في أمور أنفسهم، ويُصلحوا من أحوالهم؛ لكي تكون لهم القدرة بعد ذلك على إصلاح أحوال الناس.
وقبل أن نغادر هذه النقطة لا بُدَّ لنا من وقفة مع موقف خديجة بنت خويلد رضي الله عنها من خلوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهي كانت تُساعده فيها؛ مع أن الأمر مستغرب في مكة، وليس معتادًا بين الناس، ومع أنها رض الله عنها لا شك كانت مضرورة بغيابه؛ فزوجها يتركها شهرًا كاملاً، لا يعود إليها إلا بضع ساعات يتزوَّد فيها لرحلة جديدة، ومع أنه من الطبيعي أن تخاف عليه وهو في ذلك المكان الموحش، فإنها كانت تُشَجِّعه وتُسانده، وهذه -في الحقيقة- صفة من أهم صفات الزوجة الصالحة، حيث تقف مع زوجها فيما يحبه، وتُؤَيِّده وتُشَجِّعه، وتكون عضدًا له في اختياراته؛ فهذا -لا شكَّ- من أقوى الأمور التي تجعل الرابطة بين الرجل وزوجته من أقوى الروابط مطلقًا.