بواعث الصحابة على خدمة السنة (4)
بواعث الصحابة على خدمة السنة (4)
هناك بواعث كثيرة جعلت الصحابة رضوان الله عليهم يحرِصون على خدمة السُّنة، ودفعَتْ هممهم لحمايتها والدفاع عنها، وصيانتها من الزيادة والنقصان؛ ومن أهمِّ هذه البواعث:
الباعث الرابع: الأسلوب المُعْجِز للرسول صلى الله عليه وسلم في ألفاظه وفي مجال التعليم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصحَ الناس لسانًا، وأبلغ الناس لفظًا، وأوضحهم بيانًا، وأجودهم إلقاءً، وأحسنهم طريقة، وأزكاهم جَنانًا، أُوتي جوامع الكلم، وقوة البيان، ودقة الأسلوب، وجمال العبارة، وجزالة الألفاظ، وسمو المعاني، التي يندُرُ مثلها في البشر.
وكانت فصاحته صلى الله عليه وسلم في ذروة الكمال، بُعْدٌ عن التكلُّف في القول، وجزالةٌ في اللفظ، ووضوحٌ في الدلالة، ودِقَّةٌ في الوصف والتعبير، وإبداعٌ في التشبيه والتصوير، وإيجازٌ في القول، ومطابقةٌ لمقتضى الحال، مع العلم بطبائع النفوس وما هي محتاجة إليه.
وكان العرب مأخوذين بكل فصيحٍ بليغ، متنافسينَ في حفظ بليغ الشعر والمنثور، هذا فضلًا عن كون كلام النبي صلى الله عليه وسلم دِينًا يتقرَّب المسلم بحفظه والعمل به إلى الله عز وجل؛ ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يحفظون كلامه، ويتلذَّذون بتكريرِه في مجالسهم، وتبليغه إلى مَن لم يسمعه منه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم - فضلًا عن ذلك - مثالًا للمُرَبِّي المخلص، والمعلِّم المرشد، فكان متواضعًا رحيمًا رقيقًا، يختار أفضل الألفاظ وألينَها، وأحبها إلى النفس، فيقول لهم صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلِّمكم))[1].
وكان صلى الله عليه وسلم إذا تكلَّم أحسن البيان، وفصَّل القول، حتى إنه يُعيد الكلام أكثر من مرة؛ حتى يسمعَه ويحفظه أصحابه، ويتمكَّن في أذهانهم؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان إذا تكلَّم بكلمةٍ أعادها ثلاثًا؛ حتى تُفْهَم عنه"[2].
ولم يكن صلى الله عليه وسلميُطيل الأحاديث، بل كان كلامه قصدًا؛ ولذلك قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يَسْرُدُ الحديث كسردكم"[3]، قال ابن حجر في شرحه للحديث: زاد الإسماعيلي من رواية ابن المبارك عن يونس: إنما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلًا، فهمًا تفهمه القلوب"[4].
وقالت أيضًا رضي الله عنها: إن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا، لو عَدَّه العَادُّ لأَحْصَاه[5].
ولمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم أن الصحابةَ رضوان الله عليهم سيخلُفونه في حمل الأمانة، وتبليغ الرسالة، كان يتَّبع معهم الوسائل التربوية في إلقاء الحديث عليهم، ويسلك معهم سبيل الحكمة؛ كي يجعلهم أهلًا لتحمُّل المسؤولية.
وكان صلى الله عليه وسلم حريصًا على تعليم أصحابه رضوان الله عليهم، وإرشادهم، حتى إنه ربما يرفع صوته ليُسْمِعَهُم؛ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال: تَخَلَّف عنا النبي صلى الله عليه وسلم في سَفْرَةٍ سافرناها، فأدركَنَا وقد أَرْهَقَتْنَا الصلاة ونحن نتوضَّأ، فجعلنا نمسحُ على أرجُلِنا، فنادى بأعلى صوته صلى الله عليه وسلم: ((ويلٌ للأعقابِ من النار!))؛ مرتين أو ثلاثًا[6].
وكان صلى الله عليه وسلميتلَطَّف بهم ويُخاطبهم على قدر عقولهم، ولم يكن بينه وبينهم حاجب، كما كان يفعل الملوك، بل كان يُعلِّمهم في المسجد، وفي الطريق، وفي كل مكان، وكان يستخدم كثيرًا من وسائل التوضيح، ويضرب لهم الأمثال؛ يستخدم العبارة المُعْجِزة، والإشارة المُفْهِمة، والرسم الدال على المعنى، حتى تفتَّحت قلوب سامعِيه للهداية، وامتلأت صدور أصحابه رضوان الله عليهم بتعاليمه، حتى كأنما كُتِبت فيها كتابةً بالكلمة والحرف، فأحبُّوا العلم ونهلوا منه، كلٌّ على قدر استطاعته، ونقلوه إلى الجيل الذي جاء بعدهم من غير زيادةٍ أو نقصان، أو تحريفٍ أو تشويه
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|