رحلت زينب رضي الله عنها في العام الثامن الهجري، وتركت طفلتها في كفالة أبيها وجدِّها، فهي جنًى دانٍ
بين جنَّتين يُقِلُّ غصنه الرطب نسيم الحنان؛ ولكن بعد ثلاثة أعوام حدث فاجِعٌ أظلمت له المدينة وزلزل قلوب
المسلمين، فمنهم مَنْ أخذه الذهول، واختلط الأمر على فكره، ومنهم من جثا على ركبتيه كأنَّ ثقلًا دكَّه دكًّا
فلم يستطع القيام، ومنهم من اعتقل لسانه، فلم يتكلَّم بكلمة واحدة، ومنهم مَنْ أنكر هذا الحَدَث بالكليَّة.
وهذا الحَدَث هو وفاة جدِّها صلى الله عليه وسلم، وهو حَدَثٌ بكى منه الصديق رضي الله عنه قبل وقوعه
وهو خبرٌ جديرٌ بأن يعيش المسلم أجواءه متأمِّلًا أليم وَقْعه ومرارة كربه؛ ليتعلَّم عظم هذا الفَقْد، وتشعل
في وجدانه نيران الشوق إلى الحشر مع زمرته صلى الله عليه وسلم، فيَجِدُّ ويجتهد، وليدرك كيف كان أثر
هذا الحدث على مَنْ هم أشدُّ أُمَّتهِ حبًّا له، وأعظم الأُمَّة اتِّباعًا، وأعلمهم فقهًا، وأشرفهم مكانةً، وأخلصهم
دينًا، ولعلِّي أدوِّن في ذلك ما يشحذ همَّتي وهمَّتَكَ؛ لأنه حدث في قلب كل مسلم.
لقد فقدت أمامةُ خيرَ مُقْلة رعتْها، ورحل عنها مَنْ بكت لرحيله عيونُ الأسياد مِنْ أُمَّته والفضلاء
والخلفاء والقادة والأغنياء والفقراء والرجال والنساء، فكيف بآل بيته؟!
ثم أصبحت أمامةُ بين أبيها وخالتها فاطمة التي تجد فيها رائحة أبيها رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأمها خديجة وأختها زينب؛ ولكن الأمر لم يطل، فبعد وفاة رسول الله بستة أشهر تُوفِّيت
فاطمةُ رضي الله عنها التي أوصت زوجها عليًّا بأن يتزوَّج أمامةَ بعد وفاتها.
انظر لشدة حُبِّها لابنة أختها لم تجد أجمل من هذه الطريقة التي تضمن بها راحة وسعادة أمامة عند
رجل أحبَّتْه العائلـةُ حبًّا كبيرًا، وترعرع تحت كساء الفضل الخديجي، لم يَبْقَ لفاطمة رضي الله عنها إلا هذا الهم
والقلق (وضع ابنة أختها)، فَعَرَفَت أين تغرس زهرتها، ومَنْ سيحفظ جوهرتها.
وبعد وفاة فاطمة رضي الله عنه لم يمرَّ الأمرُ طويلًا؛ حيث أُصيبت أمامة بفَقْد أبيها الذي رعاها وفتح
لها قلب الحنان، فلم يُذكَر عنه أنه تزوَّج بعد وفاة زينب؛ فقد ظل حبيس الذكرى والحنين حتى رحل عن عين
ابنته التي لم يبرد بعدُ حَرُّ فراقها لأُمِّها، ولم يخمد جَمْرُ فراقها لجدِّها، ولم تنطفئ نارُ فراقها لخالتها، فها هو قلبها
يتلقَّى تَنُّورًا آخر يتقلَّب عليه؛ إنه فِراقُ أبيها الذي أحبَّه البيتُ النبوي وكان له صهرًا كريمًا ووفيًّا رضي الله عنه.
لم يغب عن ذلك الأب الكريم وضْعُ أمامة؛ لأنه أبٌ يعرف معنى الأبوَّة، وما لها من حقٍّ.
فأوصى الزبير بن العوام أن يتولَّى أمر أمامة مِنْ بعده، والزبير رضي الله عنه هو ابن خال أبي العاص
واختار الزبير؛ لأن الزبير أقرب الناس إلى العاص، وأحبهم إليه، ولِمَا يحظى به الزبير من الكرم والوفاء، ولو تأمَّلت
قول النبي صلى الله عليه وسلم في الزبير رضي الله عنه: ((الزبير ابن عمَّتي وحواري من أُمَّتي))[1].
فجمع رسول الله للزبير شرفين: شرفَ القرابة، وشرفَ الصحبة الخالصة الخاصة، التي تستلزم النصرة
والإخلاص في الصحبة، ولا يخفى عليك أن أبا العاص يدرك ذلك كله، ويدرك أن الزبير يتميَّز بالكرم
المفرط؛ حيث قُتل وعليه دَيْنٌ كثيرٌ، كل ذلك في صدقات وصلات كان يقوم بها.
فأمامة رضي الله عنها سيتولَّى أمرَها أحدُ العشرة المبشَّرين بالجنة، ومِنَ السابقين الأوَّلين
وابن عمة جدِّها وأُمِّها، وابن خال أبيها وابن خالها.
[1] أخرجه أحمد.