السيولة النقدية العالمية تتبخر

السيولة النقدية العالمية تتبخر

«السيولة الدولارية تستخدم في البلدان، التي تتمتع بسجل من عدم الاستقرار في أنظمتها المالية» جودسون- خبير بالاحتياطي الفيدرالي

900 مليار دولار أمريكي خرجت من الولايات المتحدة بحلول نهاية عام 2016

أين ذهبت السيولة النقدية العالمية؟ لغز يحير مصارف العالم في الوقت الحالي ولم يتمكن أي شخص أو مؤسسة من معرفة سببه، حيث تبخرت أوراق البنكنوت حول العالم بشكل غير منطقي، دون أن يعرف الجميع أين ذهبت، أو كيف اختفت؟، والسؤال الآن: هل خبأها السويسريون؟ أم كنزها الألمان في مراتب سرائرهم؟، أو ربما دفنها الأستراليون تحت الأرض.. لا أحد يعلم أو يفهم ماذا يحدث فعلا.

ورغم أن المجتمع العالمي يتجه الآن نحو المحافظ الرقمية بشكل مطرد، إلا أن الأوراق النقدية لا يزال عليها طلب كبير، وهو طلب قد يفوق المعروض منها حاليا، إذا لم تظهر السيولة النقدية، التي اختفت دون سابق إنذار.

وفي الوقت الحالي، يبحث المصرفيون عن أدلة في بيانات أكثر الدول المعروفة شعوبها بشغف ادخار وتكنيز المال، مثل: ألمانيا وسويسرا وأستراليا، كما تحاول البنوك المركزية طباعة أوراق بنكنوت جديدة، أكثر من أي وقت مضى؛ لسد الفجوة المحتملة بين العرض والطلب.

ويعد هذا اللغز محيرا بشكل خاص؛ لأن اتجاهات المجتمعات والشركات أصبحت غير نقدية بشكل كبير، بالنظر إلى الطفرة في خدمات المدفوعات الرقمية، التي تمت بالاعتماد على البطاقات البنكية الممغنطة، وتطبيقات الهواتف المحمولة.

وفي العام الماضي، بلغت قيمة النقد الدولاري الأمريكي المتداول نحو 1.7 تريليون دولار، منها 12.4 مليار دولار على شكل سندات بقيمة 1 دولار، ونحو 1.3 تريليون دولار منها في شكل سندات بقيمة 100 دولار، وذلك وفقا لبيانات المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وهذا أكثر بـ 1.2 تريليون دولار من النقد الدولاري المتداول في عام 2013.

ويقول روث جودسون Ruth Judson، خبير اقتصادي في البنك الاحتياطي الفيدرالي في مقال نشر عام 2017، إن حوالي 60% من جميع العملات الأمريكية المتداولة، وحوالي 75% من مبلغ يقدر بنحو 100 مليار دولار، قد غادرت الولايات المتحدة، بحلول نهاية عام 2016، ليصبح المجموع 900 مليار دولار أمريكي خارج الولايات المتحدة.

وأضاف: «هذه السيولة الدولارية الخارجية عادة ما تستخدم لتوفير غطاء دولاري واقٍ ضد الاضطرابات الاقتصادية، خاصة في البلدان، التي تتمتع بسجل من عدم الاستقرار في أنظمتها المالية».

وفي أستراليا، قال فيليب لوي Philip lowe محافظ البنك المركزي الأسترالي، إن إصدار أوراق البنكنوت الجديدة، يقترب الآن من أعلى مستوياته منذ 50 عاما، كما تم عرض الأوراق النقدية المطبوعة حديثا في ملبورن، وأكد أنه يوجد حوالي 2000 دولار من أوراق البنكنوت المطبوعة حديثا فقط لكل مواطن أسترالي.

وبعيدا عن البنوك الرسمية المركزية، غالبا ما تكون السيولة الدولارية عامل جذب رئيسيا للعصابات الإجرامية، والقائمين على محاولات الغش الضريبي، كما أنها تحظى بشعبية لدى رجال الأعمال، الذين يشعرون بالقلق من الانهيار المستقبلي للنظام المالي في الدولة التي يعملون بها، وكل تلك الأسباب تستنزف السيولة النقدية الدولارية بالطبع.

وفي واقعة طريفة، عثر عمال البناء في أستراليا، في الآونة الأخيرة، على ما يقدر بنحو 140 ألف دولار أمريكي، كانت مدفونة في عبوات بلاستيكية، داخل موقع على ساحل جولد كوست الأسترالي، مما دفع الشرطة إلى البحث عن صاحب هذه النقود، ولكن دون فائدة.

وفي شهر سبتمبر الماضي، أصدرت محكمة في ألمانيا قرارا في قضية رفعها رجل قام بإخفاء أكثر من 500 ألف يورو في دفاية منزله، ليتم حرقها بعد أن قام أحد الأصدقاء بإشعالها في يوم بارد أثناء إجازته، حيث رفع صاحب الأموال الأصلي دعوى على صديقه، مطالبا إياه برد قيمة الأوراق النقدية المفقودة بالإضافة إلى الفائدة.

ويقول سفين بيرتلمان Sven Bertelmann، رئيس المركز الوطني للتحليل في البنك المركزي الألماني في ماينز: «في ألمانيا يخفي الناس أموالهم في كل مكان، ففي بعض الأحيان يتم دفن الأوراق النقدية في الحديقة، لدرجة أنها أحيانا تبدأ في التحلل، أو في أسقف منازلهم، حيث تقوم الفئران بإتلافها عن طريق استخدامها لبناء أعشاشها».

ويضيف ساخرا: «حدث مرارا وتكرارا أن قام ألمانيون بالاحتفاظ بالمال في مظروف، ثم قاموا بتمزيقه بنفسهم عن طريق الخطأ، وقتها نقوم بجمع الأوراق النقدية الممزقة قطعة بقطعة، ثم نبدأ في لصقها، مثل أحجية الألغاز».

وفي نفس الإطار، يعتقد بوندس بانك Bundesbank أن هناك أكثر من 150 مليار يورو يتم تخزينها في ألمانيا، بعيدا عن البنوك.

وفي قرار فريد من نوعه، فكرت دائرة إصدار المذكرات في بنك الاحتياطي الأسترالي اتباع نهج غير معتاد عبر إعادة طباعة الأوراق النقدية، التي أتلفت بسبب الحرائق. وابتكر المحللون معادلة بناء على قيمة المطالبات المقدمة من الأسر، للحصول على أوراق بنكية جديدة تحل محل تلك التي تضررت من الحرائق، ولكن تلك الطريقة لم تجد نجاحا كبيرا.

وقال محللون في البنك المركزي الأسترالي: «تقديراتنا تكون موثوقة فقط إذا كانت افتراضات مقدار الأموال المحروقة معقولة، ولكننا نعتقد أنها ربما لا تكون صحيحة تماما».

وجد المحللون أن الأثرياء أقل عرضة للإصابة بالحرائق في منازلهم؛ لأنهم يعيشون في مدن بالقرب من خدمات الطوارئ، ولديهم أجهزة إنذار الحريق، أما معظم الحرائق فتتم في المنازل الريفية التي تبنى من الخشب.

وفي محاولة أخرى، طلب البنك المركزي الأوروبي وغيره من المؤسسات المالية الكبرى المساعدة من الجمهور، من أجل توفير سيولة نقدية أكبر للبنوك.

وقال هينك إيسيلينك Henk Esselink، رئيس قسم الإصدار والتداول في قسم إدارة العملات في البنك المركزي الأوروبي: «يقول الجميع إنهم لا يخبئون الأموال، ولكن السيولة النقدية لا بد وأنها مختفية في مكان ما بالتأكيد».

ختاما، أكد المسؤولون في البنك الوطني السويسري، أنه يجب تفادي تخبئة الأموال النقدية المخزنة بعيدا عن البنوك، بأكبر قدر ممكن؛ لأنها لا تُستخدم في المعاملات اليومية، ولا تفيد اقتصاد الدولة في أي شيء.