الحق جل جلالا زور ولا هــــــــدر ...وادي المخازن ذكرى حفها الظفــــــر
وادي المخازن يا أنشوذة عبقــــــت ...بعطرها صحف التاريخ والســــــــــير
فخر الملاحم في دنيا الجهاد فـــــــلا... تدنو إلى شأوها ملاحم أخــــــــــــــر
تبقى مدى الدهر شمسا لا تغيب ولا... يخفى نصاعتها غيم ولا مطــــــــــــــر
لولاك ما كانت الأمجاد كاملــــــــة... وان تعددت الأشكال والصــــــــــور
أبيات سطرها أحد الشعراء لتخلد ذكرى معركة هزت الكيان البرتغالي وزعزعت أسسه معركة خاض غمارها ببطولة أناس لا يحني شموخهم أي خنوع أو خضوع.. تجرعوا من كأس الصبر والقوة ما يكفي لمجابهة الاحتلال و التسربات الغربية. ووقفوا سدا منيعا أمام موجات الزحف الصليبي من أجل إعلاء راية الإسلام ونصرة الحق وإقرار العدالة وإحلال الإسلام .. هي معركة وادي المخازن أو الملوك الثلاثة التي دارت أحداثها فوق أرض عربية مغربية بين الأشراف السعديين وجيوش البرتغال التي بلغت أوج قوتها آنذاك فكان لابد –في نظرهم- من كسر شوكة الإسلام في جناحه الغربي ، ومن أجل ذلك نزلت الجيوش البرتغالية المدعمة من طرف إسبانيا وإيطاليا وألمانيا على الأرض المغربية واتجهت إلى نهر وادي المخازن الواقع قرب القصر الكبير بإقليم العرائش محاولين رفع الصليب فوق أرض اصطبغت بالعروبة والإسلام وعلى الرغم من أن المغاربة المسلمين واجهوا أقوى إمبراطورية شهدها العالم في ذلك الوقت إلا أن النصر كان حليفهم.
من اهم الشخصيات التي ساهمت في هذا النصر هو السلطان احمد المنصور الذهبي .
لقِّب بالمنصور بالله تيمُّنًا بانتصار المغاربة على القوى الصليبيَّة في معركة وادي المخازن. سياسية المنصور الحكيمة قضَت على مؤامرات الأتراك والثورات الداخلية ضد حكمه. انفتاح المغرب في عهد المنصور على بلاد المشرق والقوى المسيحية أدَّى إلى فوائدَ عظيمة للبلاد المغربية. المنصور وسَّع رقعة المغرب، حكم منطقة السودان الغربي، وحافظ على قوة المغرب وكيانه.
الدولة السعدية المغربية في عهد أحمد المنصور الذهبي (986 - 1012 هـ):
وُلد أبو العباس أحمد المنصور بن المهدي سنة 956، وتربى بمدينة فاس؛ حيث أخذ يدرس العلم والأدبَ والفقه في مَدارسها، ثم أقام بقسجلماسة، ولما تولى أخوه الغالب أمرَ المغرب رحَل هو وأخوه عبدالملك إلى الجزائر ثم إلى تركيا، وقد أكسبه مقامه في الأستانة اطلاعًا على شؤون أوربا ودول البحر المتوسط، فأظهر مهارة ودهاء ساعَداه في توجيه سياسة المغرب الخارجية، وقد ألف للمغاربة بنفسه كتابًا في علم السياسة، بيَّن فيه كيف تُنظِّم الأمَّة المُلك وتحافظ على كيانها ومجدها، وكان يهتم بمشكلات دولته ويطَّلع على شؤون بلاده اطلاعًا واسعًا.
كما كان وَلوعًا بالمعارف الطريفة، إلى جانب أنه كان عالمًا حفيًّا بالعلماء، حتى أُطلق عليه عالمُ الخلفاء وخليفةُ العلماء، كما كان شاعرًا من أحسن الشعراء، وكما يقول بعضهم: إنه أشعرُ ملوك المغرب قاطبة، وكان له ديوانٌ باسم ديوان الشرفاء.
ولقد كان لهذا الرجل العبقريِّ دورٌ كبير في توطيد وتأسيس حكم أخيه عبدالملك المعتصم بالمغرب؛ ولذلك رشَّحه لولاية عهده، وكان المنصور خليفةً لأخيه على فاس، ومنها كان يُرسل النَّجدات، ويقود الجيوش لمحاربة أعداء الدولة، كما كان له دورٌ عظيم في معركة وادي المخازن التي انتصَر فيها المغاربةُ على أعدائهم الصليبيين.
بويع أبو العباس بالخلافة غداةَ الانتصار في معركة وادي المخازن، وتلقب بالمنصور بالله؛ تيمنًا بانتصار المسلمين فيها، وكانت بيعته في نهاية جُمادى الأولى سنة 986، ولقد بايعه الجندُ الذين كانوا في المعركة أولاً، والذين كانوا قد طالبوه بالرَّواتب والأُعطِيَات، فطالبهم بخُمس الغنائم، فسُوِّيَت بذلك الأمور بين الخليفة الجديد وجنودِه، ثم أتته بيعةُ فاس، وأرسل المنصور فأذعن الكلُّ للطاعة، وسارعوا فيما دخلَت فيه الجماعة.
وقد تعرَّض المنصور في بداية توليته لمؤامرةٍ كاد يفقد فيها سلطانَه؛ وذلك حينما علم قادة الأتراك بأمر بيعته، فاتفقوا مع بعض كبار الجيش المغربي على تنحية المنصور، وإعلان بيعة إسماعيل بن عبدالملك للعرش السعديِّ، مستغلِّين شعبية عبدالملك المعتصم في نفوس العامَّة، ولبثِّ روح التفرقة بين أبناء المغرب، مما اضطر معه المنصورُ إلى الفِرار؛ خشيةً على حياته.
ولكنَّ المغاربة رفَضوا ذلك وأصرُّوا على بيعة المولى أحمد المنصور؛ لذلك كان أول ما فعله المنصور - بعد استِتباب أمره - أن قام بالتنكيل ببعض كبار الجيش المغربيِّ، والتخلُّص من المشكوك في إخلاصهم له.
علاقاته مع الإمبراطورية العثمانية:
ولما استقر حكم المنصور بالمغرب أرسل إلى السلطان مرادٍ العثماني وإلى سائر المماليك الإسلامية المجاورة للمغرب: "بما أنعم الله به عليه من إظهار الدِّين، وهلاك عبَدة الصليب، واستئصال شأفتهم".
وقد استقبل الخليفةُ السعدي الجديد وفودَ التهنئة من تركيا والجزائر وإسبانيا والبرتغال وفرنسا... إلخ، وقد استُعرِضَت الهدايا والتُّحف الثمينة التي جاءت بها تلك الوفودُ في حفل شعبي عظيم.
ويبدو أنَّ استقبال المنصور للوفد التركيِّ كان استقبالاً فاترًا، وربما كان المنصور قد استقبَل هدية سلطان تركيا، وكانت سيفًا محلًّى لم يُر مثله مَضاءً وصفاءَ متن، فتَشاغل عن الوفد وأهمَله، وتأخَّر عن جواب خافان مالك القسطنطينية العظمى السلطان مراد بن السلطان سليم التركماني، والذي كان يطلب تبعيَّة المغرب للإمبراطورية العثمانية، فاغتاظ السلطان العثماني، وكان في بلاطه بعضُ أعداء المنصور الذين زيَّنوا لصاحب القسطنطينية ضرورةَ تأديب المنصور، والاستيلاء على المغرب الأقصى، وكان على رأسهم عليّ علوج وزير البحر، وقد نجَح علوج في إيغار صدر السلطان التركيِّ واستثارته، فأمر بتوجيه حملة لمنازَلة المنصور.
ولقد بلغ الخبر للخليفة السعدي، ولم يضيع المنصورُ وقته، فاتَّجه إلى فاس، وشحن الثُّغور، واستعد أكملَ استعداد للحرب، وفي نفس الوقت بعثَ رسولين للسلطان العثمانيِّ، ومعَهما هدية عظيمة مقدِّمًا اعتذاره عما سلَف منه، والتقت رسل المنصور بالريس علي علوج وهو قاصدٌ المغرب، وحاول أن يُثني رسولَيِ المنصور عن هذه السفارة، ولكن أحد الرسولين وصل إلى بلاط السلطان التركيِّ ونجح في إزالة النُّفور من صدره، فقَبِل السلطان مرادٌ اعتذارَ المنصور، وقبِلَ هديته، وصدرت أوامرُ سلطان تركيا إلى علوج بالرجوع عن مُنازلة المنصور.
وهكذا استطاع المنصور بحنكته السياسية وحسن تدبيره أن يَقِي بلادَه شرَّ حملة لا يُمكن التنبؤ بنتائجها في تلك الفترة التي يُحاول فيها توطيدَ دعائم القوة والاستقرار في دولته.
علاقاته مع القوى المسيحية:
ولقد تآمر فيليب الثاني ضدَّ المنصور حينما أطلَق سراح الناصر ابن أخي المنصور، الذي كان محتفظًا به في الأراضي الإسبانية للقيام بثورة؛ لإزعاج الدولة وحاكمها، والقضاء على استقرار البلاد.
ويمكن القول: إن إطلاق فيليب للناصر كان ردًّا على سياسة المنصور إزاء تأييده لملكة إنجلترا (إليزابيث) في مساعدتها للأمير (دون أنطونيو) المطالب بالعرش البرتغالي الذي كان الملك الإسباني قد ضمه إلى أملاك إسبانيا منذ سنة 1581 م، وبالرغم من ذلك استطاع المنصور إخماد ثورة الناصر بعد جهودٍ كبيرة، وبعد أن شغلَت البلادَ المغربية حوالي سنتين من الزمان.
وقد تراجع المنصور عن سياسته في تأييد إنجلترا والأمير البرتغالي في الوقت الذي دخل مع فيليب الثاني في مفاوضات سرِّية انتهت بتنازل الإسبان عن مدينة آصيلا إحدى قواعد الاحتلال الإسباني بالشواطئ المغربية والجلاء عنها، فعادت هذه السياسة على المغرب بتحرير بعض المدن المستعمَرة من جهة، وساعدت المنصور من جهة أخرى على إرسال الحملات العسكرية لتوسيع رقعة البلاد المغربيَّة.
ولقد كان لسياسة المهادنة مع القوى الخارجية - وبخاصة القوى المسيحية - بالإضافة إلى الدبلوماسية المحنكة التي اتَّبعها الخليفة السعدي أثرُها في أن حقَّقَت للمغرب الكثير من الاستقرار والمكاسب، ومن ثَم اتجه المنصورُ إلى تطوير الدولة السعدية، محاولاً أن يُضفي عليها طابعًا إفريقيًّا بتوسيع رقعتها في أقصى فيافي الجنوب، ولعل انحدارَ البرتغال وتقلُّص نشاطِها الاستعماري هو الذي جعَله يتَّجه إلى أن يخلفها في اكتساح الصَّحراء؛ وذلك بعد أن تعلَّل المنصور بوجوب الجهاد جنوبًا بعد تعذُّر ذلك بالأندلس شمالاً.
توسيع رقعة المغرب:
وقد عاودَت المنصورَ أحلامُ والده المهديِّ في تحقيق الدولة المغربية الكبرى، وأراد أن يَنجح فيما قصرت به إمكانيات وظروف والده الراحل.
ولعل أهم حدث سياسي يَرتبط باسم المنصور الذهبي، ويتميَّز به تاريخ دولة الأشراف السعديين هو ضمُّ بلاد السودان الغربي إلى المغرب الأقصى؛ فقد امتد سلطان المنصور إلى تمبكتو وكاغو وكاتم بأرض السودان. ولم يأت عام ألف للهجرة (1591 م) حتى غدا المنصورُ إمبراطورًا يحكم أراضيَ واسعة بغربي أفريقية، تضم من بين مناطقها بلاد السودان التي كانت من أهم الأسواق التجارية في العالم وفي أفريقية بوجهٍ خاص.
وغدا المنصور بذلك ندًّا قويًّا لكلٍّ مِن منافِسَيه: مراد الثالث سلطان تركيا، وفيليب الثاني ملك إسبانيا، كما أصبحَت للمنصور شهرةٌ واسعة ومكانة خاصة يَحسَبُ لها حكامُ الشرق والغرب أيَّما حساب، وقد تفرَّغ منذ هذا التاريخ للأعمال العمرانيَّة والإنشائية، ولتطوير دولته سياسيًّا وحضاريًّا، ورفع مستوى المعيشة لمختلِف طبقات الشعب المغربي.
إنجازاته السياسية والاقتصادية والعلمية:
أما إنجازات المنصور السياسية والإدارية والاجتماعية والعمرانية والثقافية، فقد سجَّل له التاريخ العديدَ والعظيم منها؛ حيث برَزَت في عهده أهمُّ النظم ومظاهر الحضارة المختلفة في شتى مرافق الدولة، وبين طبقات المجتمع المغربي، وفي هذا المجال لا يُمكن أن نُغفِل ذِكر قصر البديع الذي استغرق بناؤه منذ تولِّي المنصور الخلافةَ حتى وفاته، وقد أخذ هذا القصرُ مِن اسمه الكثيرَ من مظاهر الإبداع.
كما أنشأ المنصورُ الكثيرَ من المدارس ومعاهد العلم، والمستشفيات والقناطر، والحصون والقلاع، والطرق في المدن والقرى في شتى أنحاء الإمبراطورية المغربية.
ويعدُّ عصرُ المنصور الذهبيِّ من أعظم عصور حكَّام السعديين؛ لما حفَل به عهدُه من رقيٍّ وازدهار، ولما ترَكه من آثار حضاريَّة، امتدَّت بعده على مدى سنينَ طويلة.