تفسير قوله تعالى: { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون... }

قوله تعالى: ï´؟ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ï´¾ [آل عمران: 113 - 115].
لَمَّا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ بِالصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ فِي الْآيَةِ الْسَّابِقَةِ فكان الحكم عامًّا في كلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، ذَكَرَ في هَذِهِ الْآيَةَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَيْسُوا مُسْتَوِينَ في الحكمِ.
ï´؟ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ ï´¾: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ طائفةٌ قَائِمَةٌ أي: مَوْصُوفَةٌ بالصَّلاحِ والاستقامةِ، وï´؟ قَائِمَةٌ ï´¾؛ أي: مستقيمةٌ عادلةٌ، من أقمت العود فقام، بمعنى استقام.
قَالَ مَالِكٌ: يَعْنِي: قَائِمَةً بِالْحَقِّ، يُرِيدُ قَوْلًا وَفِعْلًا، وهم الذين مَاتُوا قَبْلَ أن يُدْرِكُوا شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ، أَوْ أَدْرَكُوا شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ فآمَنُوا بِكِتَابِهِم وَآمَنُوا بِالْقُرْآنِ.
ï´؟ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ï´¾: يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَهِيَ آنَاؤُهُ فِي صَلَاتِهِمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَسْجُدُونَ فِيهَا.
وفي الكلام إيجاز بالحذف تقديره: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ وَمِنْهُمْ أُمَّةٌ مَذْمُومَةٌ، واقتصرَ على ذِكْرِ الأُمَّةِ القَائِمَةِ؛ لأَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ؛ كما قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
دَعَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّيَ لَامْرُؤٌ
مُطِيعٌ فَلَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا
وَالتَّقْدِيرُ: (أَرُشْدٌ طِلَابُهَا أَمْ غَيٌّ) فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الرُّشْدِ عَنْ ذِكْرِ الْغَيِّ.
ï´؟ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ï´¾: يُصَدِّقُونَ بِاللَّهِ تَعَالَى ويوحدونه، وَيُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوتِ والحسابِ والجزاءِ، وَيَأْتمُرُونَ فيما بينهم بِالْمَعْرُوفِ وَيَتنَاهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَبَادِرُونَ إِلى فِعْلَ الْخَيْرَاتِ يبتغون الأجرَ من اللَّهِ تَعَالَى.
ï´؟ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ï´¾: ومن كانت هَذِهِ صِفَاتُهُمْ فهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ؛ لأنها صفاتٌ حميدةٌ، وخصالٌ مَرْضِيةٌ.
ï´؟ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ ï´¾: وَسُمِّيَ مَنْعُ الْجَزَاءِ كُفْرًا، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَحْدِ وَالسَّتْرِ، لأَنَّ الْكُفْرَ فِي اللُّغَةِ هُوَ السَّتْرُ.
وَقد عدِّي تَكْفُرُونِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَائِبُ الْفَاعِلِ، والثاني: الهاء؛ والأصلُ أَنَّ شَكَرَ وَكَفَرَ لَا يَتَعَدَّيَانِ إِلَّا إِلَى مَفْعُولِ وَاحِدٍ، يُقَالُ: شَكَرَ النِّعْمَةَ وَكَفَرَهَا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ كَفَرَ هُنا ضُمِّنَ مَعْنَى الْحِرْمَانِ.
ï´؟ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ï´¾: خصَّ الله تعالى الْمُتَّقِينَ هنا بأنه عليم بهم مَعَ أَنَّهُ عَلِيمٌ بجميعِ خلقهِ، للدَلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفُوزُ عِنْدَهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ.
وهذه الآيات السابقة كقَولِ اللهِ تَعَالَى: ï´؟ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ï´¾ [آل عمران: 199].
الأَسَالِيبُ البَلَاغِيةُ:
من الأَسَالِيبِ البَلَاغِيةِ في هَذِهِ الْآيَاتِ: حذف الاختصار في قوله: ï´؟ ليْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ..... ï´¾، فذكر أُمَّةً واحدةً ولم يذكر بعدها أخرى، وسواء تأتي للمعادلة بين اثنين فما زاد، والتقدير: وأمة على خلاف ذلك.
وحذفٌ في قوله تعالى: ï´؟ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ..... ï´¾ تقديره قَائِمَةٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
والْمُقَابَلَةُ في: ï´؟ يَأْمُرُونَ ï´¾، وَï´؟ يَنْهَوْنَ ï´¾، وَï´؟ الْمَعْرُوفِ ï´¾، وَï´؟ الْمُنْكَرِ ï´¾.
والتضمين في قوله: ï´؟ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ ï´¾، ضُمِّنَ الْفِعْلُ كَفَرَ هُنا مَعْنَى الْحِرْمَانِ.
الإِشارة بالبعيد في: ï´؟ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ï´¾؛ لبيان علو منزلتهم، وارتفاع مكانتهم.
والاختصاص في قوله: ï´؟ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ï´¾.
سعيد مصطفى دياب