الكرم والجود والسخاء في الاسلام
هذه الألفاظ الثلاثة تتشابه وتتقاطع في معانيها، فالكرَمُ: هو الإعطاء بالسُّهُولَةِ[1]، وهو ضِدُّ اللؤمِ، والكَريمُ: الصَّفوحُ[2]، والكَرِيمُ: من صفات الله عزَّ وجلَّ وأسمائِهِ، وهو الكثيرُ الخير، الجَوَادُ المُنعِمُ المُتَفَضِّلُ[3]، والكَرِيمُ: اسمٌ جَامِعٌ لكلِّ مَا يُحْمَدُ، فاللهُ كَرِيمٌ حَمِيدُ الفِعَالِ[4].
قال الرَّاغب: «الكرَمُ: الأفعال المحمُودَة، وأكرمها وأشرفها ما يُقْصَدُ بِهِ وجهُ اللهِ تعالى، فمن قَصَدَ ذلك بمحاسِنِ فِعْلِهِ فهو التَّقِيُّ، فإذًا أكرمُ النَّاسِ أتقاهم، وكلُّ شيءٍ شَرُفَ في بابه فإنَّهُ يُوصَفُ بالكرم»[5].
وأمَّا الجُودُ: فهو بَذْلُ المُقْتَنَيَاتِ، مالاً كان أو عِلمًا[6]، وهو أيضًا: التَّسمُّح بالشيءِ، وكثْرةُ العَطاء[7].
وأمَّا السَّخَاوَة والسَّخاءُ: فهو الجُودُ، والسَّخِيُّ: هو الجَوَادُ، والجمع أسْخِياء[8]، وهو نظيرُ الكرم والنَّدَى[9]، وبهذا المعنى أيضًا الفُتُوَّةُ[10].
وقد عَرَّفَ الراغبُ السخاءَ بأنَّه: هيئةٌ في الإنسان، دَاعِيَةٌ إلى بَذْلِ المقتنيات، حصلَ معهُ البَذْلُ أو لا، ومقابِلُهُ الشُّحُّ، والجُودُ: بَذْلُ المُقتنى ويقابلُهُ البُخْلُ، وقد يُسْتَعْمَلُ كلٌّ منهما محلَ الآخرِ[11].
قال بعضُهم: السخاءُ أتمُّ وأكمَلُ من الجودِ، وضدُّه البُخلُ، وضِدُّ السخاءِ الشُّحُّ، والجودُ والبُخلُ يتَطَرَّقُ إليهما الاكتسابُ عادةً بخلافِ ذينك[12]، فإنَّهُمَا من ضرورياتِ الغريزة، فكلُّ سَخِيٍ جَوَادٌ، ولا عكس، والجُود يَتَطرَّقُ إليه الرِّياءُ، ويمكنُ تَطَبُّعُهُ بخلاف السَّخَاءِ[13].
وعرَّف بعضُهم السَّخاءَ والفُتُوَّةَ: بأنَّهُ إيثارُ الخلقِ على نفسِكَ بالدُّنيَا والآخرة[14].
وحقيقةُ السَّخاءِ: أنَّه وسط بين طرفي التَّبذيرِ والتَّقتيرِ[15]، وهذه الحالة هي التي وصف الله تعالى بها الصفوةَ من عِبادِ الرَّحمنِ فقال: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]، بل جاء الأمر الرَّبَّانيّ ناهيًا عن الإسراف والتقتير وداعيًا للتَّحقق بالوَسَطيَّةِ في الإنفاق فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29]، وقال أيضًا: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31].
وعندما ذكرَ اللهُ لنا صفاتِ المتَّقين في أوائل سورة البقرة، ذكرَ من جمْلَتِهَا الإنفاقَ، فقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3]، وفي استعمال (مِن) التبعيضية هنا إشارة إلى أنَّ المطلوبَ من المؤمنِ التَّقي أن ينفِقَ بعضَ ما رَزَقَهُ اللهُ من الحلال لا كلَّهُ[16].
والسَّخَاءُ أصلٌ من أصول النَّجَاة، وهو من أخلاقِ الأنبياء عليهم السلام[17]، وهو رأسُ الزُّهد؛ لأنَّ مَنْ أَحبَّ شيئًا أمسَكَهُ، ولم يفارقِ المالَ إلا من صَغُرَتِ الدُّنيَا في عينيهِ[18].
وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أكرمِ النَّاسِ وأجودِهِم، حتى إنَّهُ جادَ بكلِّ موجودٍ، وآثَرَ بكلِّ مطلوبٍ، وماتَ ودِرْعُهُ مَرْهُونةٌ عندَ يهوديٍّ على آصعٍ من شعيرٍ لطعامِ أهلِهِ[19]، وقد ملكَ جزيرةَ العَرَبِ.
وعندما حازَ غنائمَ هَوَازِنَ، وهي منَ السبي ستةُ آلافِ رأسٍ، ومنَ الإبلِ أربعةٌ وعِشرُون ألفَ بعيرٍ، ومن الغنمِ أربعون ألفَ شاةٍ، ومن الفضةِ أربعةُ آلافِ أوقيةٍ، فجادَ بجميعِ حقِّهِ وعادَ خَلْوًا[20].
فهذا أنسُ بنُ مالك رضي الله عنه أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم يصِفُهُ فيقول: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ...»[21].
وقد حثَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أتباعَهُ على الجُودِ والكرمِ وبشَّرَهم بالجائزة العظمى والقِيمَةِ المُثْلَى، ألا وهيَ حُبُّ اللهِ تعالى للكَرَم والكُرَمَاءِ، والجُوْدِ والأَجْوَادِ الأسخياء، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ كريمٌ يحبُّ الكرم، ويحبُّ مَعَالي الأخلاق، ويكره سَفَاسِفَهَا[22]»[23].
وعن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ تعالى جوادٌ يُحبُّ الجُودَ، ويُحبُّ معالي الأخلاقِ، ويَكْرَهُ سَفْسَافَهَا»[24].
وعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ، فَنَظِّفُواَ أَفْنِيَتَكُمْ وَلا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ»[25].
ولا بدَّ من التَّأْكِيدِ على أن الجود والكرم الذي يحبُّهُ الله ويُحبُّ أهلَه هو ذلك العمل الخالص الذي يخلو من شوائب الرياء والمَنِّ والإيذاء، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾[البقرة: 264]، وقال عَزَّ من قائلٍ: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 262].
وقد وردت جملةٌ من الحكايا والأقوالِ عن الصحابة والسَّلفِ الصَّالحِ، تُبَيِّنُ ممارَستَهُم وفهمَهُم لمدلولِ السخاء والجود والكرم.
فعن محمد بن المنكَدِرِ[26] عن أمِّ دُرَّة ـ وكانت تخدِمُ عائشةَ رضي الله عنها ـ قالت: إنَّ معاويةَ بعثَ إليها بمالٍ في غِرَارتين[27] ثمانين ومائة ألف درهم، فَدَعَتْ بطبقٍ فَجَعَلت تقسِمُه بينَ النَّاس، فلما أمسَت، قالت: يا جاريةُ هلم فطوري، فجاءتْهَا بخبز وزيت، فقالت لها أمُّ دُرَّةَ: ما استطعتِ فيما قسمتِ اليومَ أن تشتريَ لنا بدرهم لحمًا نفطرُ عليه؟! فقالت: لو كنتِ ذكرتيني لفعلتُ[28].
وقِيلَ للحسن البصري رحمه الله: ما السخاءُ؟ فقال: أن تجودَ بمالِك في الله عزَّ وجلَّ، قيل: فما الحزمُ؟ قال: أن تمنع مالك فيه، قيل: فما الإسرافُ؟ قال: الإنفاق لحبِّ الرِّيَاسةِ[29].
وقال بِشرُ بنُ الحارِثِ (ت227هـ): ليس شيء من أعمال البِرِّ أحبَّ إليَّ من السخاء، ولا أبغضَ إليَّ من الضيق وسُوءِ الخلق[30].
وقال الجنيدُ البغدادي (ت297هـ): أربعٌ ترفع العبدَ إلى أعلى الدرجاتِ وإن قَلَّ عِلمُهُ، الحِلمُ والتَّوَاضع والسخاءُ وحُسْنُ الخلق[31].
فاللَّهُمَّ إِنِّا نعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَسُوءِ الْعُمُرِ، وَفِتْنَةِ الصَّدْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ[32].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|